صعدة اليمنية... كيف أصبحت في دائرة الاستهداف؟

ما حكاية معقل الحوثيين؟

رويترز
رويترز
سفينة تطلق صواريخ على موقع غير معلوم في اليمن، بعد أن أمر الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتوجيه ضربات عسكرية ضد الحوثيين في 15 مارس

صعدة اليمنية...
كيف أصبحت في دائرة الاستهداف؟

بتركيز عال وتكثيف شديد تنهال الضربات الصاروخية الأميركية، بشكل خاص، على محافظة صعدة، شمالي اليمن، وهو أمر يلفت الأنظار، ويطرح الكثير من الأسئلة بشأن أهمية صعدة الجيوسياسية لدى كل الأطراف المعنية... اليمن أولا، والجارة السعودية، تاليا، التي تقع صعدة عند خاصرتها الجنوبية، ثم إيران التي جعلت من "المتمردين" في صعدة خازوقا وذراعا ومخلبا، وأخيرا الولايات المتحدة التي تعتقد اليوم أن سلوك "جماعة الحوثيين الإرهابية" كما تقول، خرج عن سيطرة اليمن والإقليم وأخذ يهدد أمن العالم، ويوجب التدخل بكل الوسائل لإنهاء هذا التمرد.

محافظة صعدة هي كذلك بالأهمية ذاتها بالنسبة للحوثيين الذين يتخذون من جبالها وكهوفها معقلا لقيادتهم السياسية والعسكرية، وموئلا لترسانة أسلحتهم، وملاذا في حال اشتد الخناق عليهم تحت أي ظرف.

منذ تأسيس "الجمهورية" في اليمن، بعد قيام ثورة 26 سبتمبر/أيلول عام 1962 ضد حكم الإمامة، ظلت صعدة من الناحية الفعلية خارج سيطرة الحكومة المركزية في صنعاء، العاصمة اليمنية، تأخذ من قوانين الدولة وأنظمتها وخدماتها العامة ما يعجبها كالهوية والبطاقة الشخصية وجواز السفر والمنح الدراسية وغير ذلك، وترفض ما ترى أنه لا يُلزمها كالاحتكام لسلطات الأمن والقضاء لحل النزاعات، وتفضل بدلا عن ذلك اللجوء، في الغالب، للأعراف والتقاليد الاجتماعية والقبلية وقدر من النصوص الشرعية.

عرفت صعدة حروبا شتى خلال قرن مضى، حروبا قبلية داخلية، وأخرى مع المركز في العاصمة، ومن أهمها تلك التي جرت بعد سقوطها عام 1969 بأيدي القوات الإمامية، بعد مقتل محمد بن عبدالله بن الحسن بن يحيى حميد الدين، الذي قتل في مدينة صعدة، بعد 4 سنوات من قيام ثورة 26 سبتمبر التي أطاحت بحكم "آل حميد الدين".

استنزفت استعادة صعدة في ذلك الحين الكثير من إمكانات النظام الجمهوري الوليد، ثم خلال العقد الأخير من حكم الرئيس الراحل علي عبدالله صالح.

وبدت صعدة دائما في معظم تاريخها مع "المركز" مستعصية على كل محاولات إدماجها بالنظام السياسي للبلاد، وفي رأي البعض من أبنائها "إما أن تحكم اليمن أو لا يحكمها أحد".

ساعدها على كل ذلك بعدها النسبي عن العاصمة التي تمركزت فيها وحولها جيوش الدولة، واحتماؤها بتضاريس شديد الوعورة وبمجتمع قبلي صلب ومعقد التكوين، وبوفرة السلاح الذي تشتهر به أسواقها المحلية وبتجارها البارعين الذين جاب (بعضهم) عددا من دول الاتحاد السوفياتي السابق المنهارة لجلب السلاح من أسواقها السوداء، وإعادة تدويره في الداخل وبيعه لبعض القوى المتحاربة في دول الجوار الأفريقي المضطربة.

إلى جانب كل ذلك ترسخ (المذهب الزيدي) في عقل ووجدان الكثير من رجال صعدة الأشداء ونسائها صعبات المراس لا كمذهب بل كعقيدة لا يضاهي صوابها في رأيهم صواب أي دين آخر أو مذهب.

بدت صعدة دائما في معظم تاريخها مع "المركز" مستعصية على كل محاولات إدماجها بالنظام السياسي للبلاد، وفي رأي البعض من أبنائها "إما أن تحكم اليمن وإما لا يحكمها أحد".

من أين جاء حوثيو صعدة؟

من مكان قَصِي في مديرية "مران" الجبلية في المحافظة النائية عن عاصمة اليمن الفقير تغذت صعدة أولا بالمال والسلاح من حرب المعسكرين الجمهوري والملكي في ستينات القرن العشرين الماضي، وبعدها ثانيا باستثمار الجوار مع السعودية التي فتحت أبوابها أمام أبنائها للعمل بكل يُسر وسهولة لدرجة أن الريال السعودي أصبح منافسا بقوة للعملة الوطنية في أسواقها، وثالثا باستمرار وتكرار الحروب بينها ونظام حكم الرئيس السابق صالح الذي أدت هجماته على صعدة إلى استنفار قبائل صعدة ووقوفها إلى جانب الحوثيين ليس بالضرورة تأييدا لهم، ولكن دفاعا عن أمنهم الذي تأثر بفعل تلك الحروب.

نُذر الشؤم

عند عودتي من زيارة لمسقط رأسي في ذمار الواقعة جنوب صنعاء (100 كم) وهي أحد أهم مراكز (المذهب الزيدي) تلقيت- وأنا على المدخل الجنوبي لصنعاء- اتصالا من دار الرئاسة اليمنية يحثني على الانضمام لمجلس الرئيس صالح، فهرعت على الفور إليه، وعندما دلفت إلى المكان قلت له: "لو لم تطلب مني المجيء إليك لكنت طلبت الاتصال بك". فسألني: "ماذا لديك؟". فأجبته بصراحة: "ذمار تنسلّ من بين أصابع الدولة، ثمة شعارات غريبة تلطخت بها جدران الشوارع والأسوار والبيوت بعد عودة بعض شباب الحارات من صعدة، الذين ذهبوا إليها، لتلقي دورات في كيفية إحياء المذهب الزيدي بتشجيع منك". فأطرق برأسه قليلا وقال إن "موسم الأمطار قادم وسوف يغسل كل هذه الترهات". لكن إجابته لم تكن مقنعة لي ولا لحضور مجلسه، فانصرفت بعد ساعتين تقريبا، حائرا ومتسائلا بشأن كيفية تصرفه مع الأمر، لكن أحد جلسائه اتصل بي بعد عودته إلى منزله، وقال لي: "الرئيس مدرك لما قلته له، لا يريد شن حملة اعتقالات ضد هؤلاء الشباب حتى لا يدخل في مواجهة ليس هذا وقتها، لكنه سوف يذهب بنفسه إلى صعدة لمعاينة الأمر على الواقع"، وقد فعل ذلك بعد أيام.

هتافات في وجه الرئيس

في وقت بالغ الحساسية بعد أسابيع من استهداف المدمرة الأميركية "يو إس إس كول" في ميناء عدن يوم 12 أكتوبر/تشرين الأول عام 2000، في هجوم تبناه تنظيم "القاعدة" وضعت الولايات المتحدة الرئيس صالح أمام خيار واحد لا ثاني له، وهو التعاون المطلق في الحرب على الإرهاب، مطالبة إياه بتسليم شخصيات سياسية يمنية أو التحقيق معها للاشتباه في علاقتها بـ"القاعدة".

اختار الرئيس اليمني أن يكون شريكا بلا حدود في مكافحة الإرهاب في إطار صفقة لمساعدة اليمن عسكريا وأمنيا وماديا، لكنه في المقابل رفض تسليم أي مواطن يمني مشتبه به لدى واشنطن.

وفي يوم جمعة ذهب صالح برا لأداء مناسك الحج وانتهز التوقف في أحد مساجد صعدة لأداء صلاة الجمعة فرصة للتحدث إلى أبنائها، لكنه فوجئ بوقوف عدد من شباب المدينة، فور انتهاء الصلاة، مرددين "الصرخة" السياسية لجماعة الحوثيين الناشئة" "الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام"، لكنه لم يدرك حينها أنه سوف يكون قريبا أمام نوع آخر من "الإرهاب" مع الحوثيين.

أ.ف.
أشخاص يتفقدون مبنى متضرر يُستخدم لتخزين ألواح الطاقة الشمسية بعد غارة جوية أميركية في محافظة صعدة شمال اليمن في 6 أبريل

اندلاع شرارة التمرد

بتوجيهات عليا أرسلت سلطات الأمن في صعدة في طلب حسين بدر الدين الحوثي، مؤسس الجماعة لاستجوابه بشأن "إحراج الرئيس" بترديد "الصرخة" المعادية للولايات المتحدة، حيث كان صالح قد بدأ في نسج علاقات تعاون جدي معها في مواجهة الإرهاب، فكان الرد برفض الحضور والامتثال للتحقيق، فتم إرسال حملة أمنية لإحضار الحوثي ليتصدى لها الأخير بقوة السلاح، ولتندلع بعد ذلك حرب صعدة الأولى التي انتهت بمقتل القائد المؤسس، ولتؤسس هده الواقعة لحروب خمس بعد ذلك مع الجماعة التي خرجت بعد كل واحدة منها أقوى من ذي قبل، لأسباب عدة كان لأصابع إيران بصمات ظاهرة.

يهود آل سالم

بعد سيطرتهم الكاملة على صعدة شرع الحوثيون في "تطهير" المحافظة من سكانها الذين لا يتفقون معهم، وكانت البداية بإجبار اليهود على مغادرة مديرية "آل سالم" بدعوى بيعهم الخمر لبعض شباب القبائل لإفسادهم.

ذهبت إلى هذه المنطقة، خلال عملي سابقا لدى وكالة "رويترز"، لاستيضاح الأمر، وبعد بث تقرير من هناك توالت المطالبات الغربية للرئيس صالح للتدخل، فاستدعى العشرات من يهود المنطقة، وأمر باستضافتهم في العاصمة صنعاء تجنبا لمزيد من التوتر مع الحوثيين.

اللافت أنه بعد سيطرة جماعة الحوثي على صنعاء تم تهريب هؤلاء اليهود إلى إسرائيل ضمن صفقة غامضة حيث استقبل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعض هؤلاء.

وكشف المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية عوفر جندلمان أن اليهود اليمنيين جلبوا معهم نسخة من التوراة كتبت في اليمن قبل 800 عام، وقرأ نتنياهو مع أحد الأطفال الذين قدموا من اليمن مقاطع من هذا الكتاب المقدس لدى اليهود.

سلفيو دماج

فرض الحوثيون بعد ذلك حصارا عسكريا على "دار الحديث السلفية" في دماج بصعدة بحجة وقوف الدار إلى جانب الحكومة اليمنية، خلال حروبها مع الجماعة، وبتخزين الأسلحة وتدريب إرهابيين أجانب لقتال وتكفير الزيدية.

غير أن الحوثيين في الواقع كانوا لا يرغبون في وجود من يختلف معهم مذهبيا أو سياسيا في صعدة.

وبعد سلسلة من المواجهات العنيفة قال ناطق باسم السلفيين السنة يدعى أبو إسماعيل الحجوري، في تصريحات صحافية لوكالة "رويترز": "إن جميع الضحايا كانوا من السلفيين وإن أكثر من 200 شخص جرحوا خلال هجوم الحوثيين على بلدة دماج القريبة من مدينة صعدة" التي يسيطر عليها الحوثيون بالقرب من الحدود مع السعودية.

انتهى الأمر بتهجير الآلاف من السلفيين القاطنين بمنطقة دماج بمحافظة صعدة من منازلهم ومزارعهم إلى صنعاء ومحافظات أخرى في أكبر عملية تهجير لجماعة دينية شهدها اليمن.

الحوثيين في الواقع كانوا لا يرغبون في وجود من يختلف معهم مذهبيا أو سياسيا في صعدة

تبدلات فاقت التوقعات

بعد استتباب الأمر للجماعة الحوثية في صعدة قبل وعقب انهيار نظام حكم الرئيس صالح تحولت الجماعة من مشكلة محلية إلى "معضلة" وطنية عامة بفعل أخطاء سياسية فادحة عدة.

وبعد 6 أشهر من انقلابها على الدولة اليمنية حدث أمران مهمان تحولت معهما المسألة الحوثية إلى "خطر إقليمي" أحدهما عندما أجرت جماعة الحوثيين مناورات عسكرية في منطقة "البقع" بصعدة، شمالي اليمن، على التماس المباشر مع الحدود السعودية، وذلك بالتزامن مع انعقاد اجتماع لوزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي بالعاصمة السعودية الرياض لتدارس تطورات الوضع في اليمن، ما اعتبرته الرياض استفزازا وتهديدا لأمنها القومي.

أ.ف.ب
صورة جوية لمتظاهرين يسيرون في أحد شوارع صعدة في اليمن في 12 يناير2024، بعد الغارات الجوية التي شنتها الولايات المتحدة وبريطانيا

وثانيهما عندما وقّعت الجماعة مع إيران اتفاقا يقضي فورا بتسيير 28 رحلة جوية بين صنعاء وطهران أسبوعيا لا أحدا يمكنه معرفة حمولاتها من الإمدادات بالسلاح وتقنيات الاتصال وبالخبراء العسكريين، إذ لم يكن لليمن في السابق أي نوع من هذا النشاط الجوي مع إيران أو غيرها، فيما لم تكن العلاقة بين طهران والرياض على ما يرام.

انكشف بذلك الدور الإيراني لتتحول معه صعدة إلى "مشكلة إقليمية" اقتضت تدخل تحالف عسكري عربي قادته السعودية عام 2015 لإعادة الأمور في البلد الجار إلى مسارها الصحيح بعيدا عن التدخلات الإيرانية.

ثم جاءت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة فتنحرف معها بوصلة طهران نحو استثمار مناطق سيطرة الحوثيين عبر تهديد خطوط الملاحة الدولية بزعم "نصرة غزة" لتتحول معها جماعة الحوثيين بالتالي إلى "مشكلة عالمية" لم تكن تخطر ببال أحد.

انكشف الدور الإيراني لتتحول صعدة إلى "مشكلة إقليمية" اقتضت تدخل تحالف عسكري عربي قادته السعودية عام 2015 لإعادة الأمور في البلد الجار إلى مسارها الصحيح بعيدا عن التدخلات الإيرانية

ما قراءة أبناء صعدة؟

أعرف الكثير من أعيان ووجهاء محافظة صعدة، وأغلبهم لا يتفق مع الحوثيين "في معاداة الداخل ولا في إيذاء الجوار ولا إزعاج العالم" كما يقولون.

الكثير من أبناء صعدة يدركون أن "حروب اليوم تكنولوجية، سموم، وأمراض، واقتصاد، واجتثاث بالجينات، حروب ضارية خبيثة وليست مبارزة بالخناجر". هكذا قال أحدهم، وأضاف آخر إن المشكلة في صعدة اليوم هي أن "صوت العاطفة هو الطاغي عند الجميع وليس صوت العقل"، على حد قوله.

ما تخلص إليه تحليلات معظم الخبراء والمراقبين الذين استطلعت آراءهم مجلة "فورين بوليسي" الأميركية هو أنه لا حل في اليمن سوى "توحيد وتمكين الجيش والقوى العسكرية اليمنية من ملء الفراغ" باستعادة وإحلال "الدولة" محل سلطة الميليشيات وفوضى السلاح اللتين خلقتهما إيران في هذا البلد الفقير ذي الموقع البالغ الخطورة وصاحب الكتلة السكانية الكبيرة والأكثر دينامية في المنطقة، وذلك في غفلة من الإقليم النفطي الغني والعالم الغربي المشغول بحروب تجارية وبأزمات أقل شأنا من تنامي الخطر على أمن وسلامة الملاحة الدولية في طول وعرض البحار التي يطل عليها اليمن.

font change