سؤدد كعدان لـ"المجلة": يجب تحرير مؤسسة السينما السورية من العقلية القديمة

المخرجة العربية الوحيدة الحائزة جائزتين في مهرجان فينيسيا

Tony Gentile/Reuters
Tony Gentile/Reuters
سؤدد كعدان

سؤدد كعدان لـ"المجلة": يجب تحرير مؤسسة السينما السورية من العقلية القديمة

مخرجة وكاتبة سيناريو سورية، صنعت أفلاما وثائقية وروائية قصيرة وطويلة، آخرها كان فيلم "نزوح" الذي حاز جائزة الجمهور في "مهرجان فينيسيا الدولي" 2022، المهرجان الذي كانت حصلت على جائزتها الأولى منه في 2018، عن فيلم "يوم أضعت ظلي". كذلك منحت جائزة لجنة التحكيم الكبرى للفيلم القصير في مهرجان "صندانس" عام 2019، عن فيلم "عزيزة". هذه الجوائز لم تتمكن من إعطائها تأشيرة العبور لمرافقة عروض أفلامها هذه، بسبب مواقف سياسية. وقد اختيرت في العام 2024، لتكون لجنة عضوة لجنة تحكيم في بينالي فينيسيا السينمائي. هنا حوار "المجلة" معها.

  • الواقع السوري الذي شغل أفلامك وأحداثها، من حيث الفكرة والأحداث والممثلون واللغة كذلك، تغير كلية، ماذا شعرت بعد هذا التغير المفاجئ؟

طاقة رهيبة للإبداع، تخيلي أن تكتبي فجأة لأول مرة دون أن يحكم ديكتاتور بلدك، دون أن يقف الرقيب مستعدا لتصفيتك وتصفية كل من تحبين، من أجل صورة، من أجل فيلم. منذ أن سقط النظام، لم أستطع التوقف عن الكتابة، لا أستطيع النوم، أستيقظ الساعة خامسة صباحا والهوس، والحب السينمائي، ينساب من كل كلماتي. لم أكن أتوقع ذلك. في اليوم الأول لهروب الأسد، كنت في حالة صدمة تامة. بعد كل هذا الدم، بعد سنين من الحرب والشهداء، وبعد سنين من تأكيد العالم أننا لن نستحق الحرية، جاء هذا اليوم أخيرا. قبل شهور عديدة فقط كنت استسلمت نهائيا لفكرة أنني لن أرى مدينتي الشام من جديد، بعد أن أخبر جهاز المخابرات أبي "أخبر ابنتك ألا تفكر في العودة إلى البلد“.

يبقى الحلم الأكبر أن نستطيع عرض أفلامنا على نطاق أوسع في بلادنا، مع جمهورنا المحلي

في الأسبوع الأول بعد سقوط النظام، كنت عندما يسألني أحد إن كنت سأنجز فيلما جديدا عن هذا الموضوع، أجيب بأننا نحتاج إلى سنوات لنستطيع أن نعبر عما نمر به، فالصدمة، الفرح، المشاعر المختلطة، كلها انفجرت في يوم. وعادة، بالفعل، آخذ وقتي قبل أن أكتب. لكن شعور الحرية، بأن القيد انكسر أخيرا، فجر شيئا جديدا في داخلي، لم أكن أعرفه من قبل ولم أكن أتوقعه.

مشهد من فيلم "نزوح"

مرحلة جديدة

  •  أفلامك تنطلق دائما من صورة بصرية، تحمل الفيلم، لحظة سقوط النظام، وهي لحظة أتت بعد سنوات طويلة من الانتظار حتى غالب اليأس حدوثها. ما الصورة التي تتخيلين صنعها عن تلك اللحظة؟

إنني الآن في مرحلة كتابة فيلم جديد، كالعادة أحب أن يكون دائما تحديا لي، شيئا ممتعا، مقلقا، جديدا، ومختلفا، إن فاجئني العمل، أعرف أنه فيلمي المقبل. كنت بدأت بكتابة النص منذ سنوات، ولكن هذه اللحظة التاريخية التي نعيشها أضافت شيئا جديدا. لا أحب أن أتكلم عن ماهية أفلامي قبل أن تنجز، لعلنا نكمل هذا الحديث عن الصورة الجديدة، حين يخرج الفيلم الى الوجود.

  •  العرض في مكان غير عربي لفيلم عربي، وفيلم يتحدث عن ثقافة تختلف تماما، كيف وجدت استقبال الجمهور وتلقيهم لذلك؟

من أصعب الأمور أن يحاول المرء إيصال رسالته إلى جمهور غريب، لم يعش ما عاشه ولا التجربة التي خاضها، بلغة غريبة. لكنني فخورة بأنني استطعت إنجاز ذلك في زمن كان الجميع يشتكي من أنه لا يريد حكايات أخرى عن سوريا، ورغم ذلك وزع "نزوح" في أكثر من بلد أوروبي، وعلى المنصات الإلكترونية، بالإضافة إلى فوز الفيلم بجائزة الجمهور في فينيسيا، مما جعلني المخرجة العربية الوحيدة التي فازت مرتين في هذا المهرجان. هل سهل ذلك وصول الفيلم إلى جمهور أكبر؟ أبدا، فإنني أعيش الآن في لندن، مدينة من النادر أن تعرض أفلاما بلغة غير إنكليزية، باستثناء بعض الأفلام الفرنسية، أو اليابانية.

Mona Mil Photography
سؤدد كعدان

لغتنا، حكاياتنا، وحتى نجومنا مجهولون بالنسبة لهم. لذلك عندما أرى أن الحكاية، رغم ذلك، تصل إليهم، وتجعلهم يكتشفون جانبا يجهلونه من بلادنا، عبر حكاية تروى بطريقة سينمائية مختلفة عما يتوقعونه، أعتبر ذلك إنجازا. ولكنه يبقى الحلم الأكبر أن نستطيع عرض أفلامنا على نطاق أوسع في بلادنا، مع جمهورنا المحلي أيضا.

  •  منع طاقم العمل أو أحد أفراده أكثر من مرة بسبب الاختلاف بين الموقف السياسي وسردية الشعب، رغم مشاركة فيلمك في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، كيف تشعرين الآن وقد انتصرت هذه السردية؟

منع طاقم أفلامي من المشاركة، لأسباب سياسية، ولأسباب بسيطة تتعلق بأنهم سوريون. فالسوري حرم حق السفر، والتجوال، سواء كان يحمل جواز السفر السوري، أو جواز اللجوء. كما منعت أيضا من السفر إلى أميركا، والحصول شخصيا على جائزة "صندانس" من أجل فيلم "عزيزة"، لأنه كان هنالك في ذلك الوقت، قانون ترمب، الذي يمنع أي مواطن من بلد مسلم من السفر إلى الولايات المتحدة. ورغم كل ذلك، حاولت حتى النهاية أن أحافظ على حقي بأن يكون جواز سفري سوريا، وأن أسافر بجوازي وهويتي، رغم كل القوانين الاعتباطية ضدنا. ولا يزال هذا الصراع قائما. عودة بلدنا إلينا، لا تعني حتى الآن أننا نستطيع السفر بحرية في أنحاء العالم.

ما زلنا في مرحلة إنجاز أفلام فردية تحاول مجابهة شح التمويل. لنحصل على سينما في بلادنا، يجب أن تتوافر كل مقومات الصناعة

  •  بعد الإقامة لسنوات في لندن، كيف تتخيلين مستقبل أعمالك، من حيث المواضيع المتناولة، مسرح الأحداث، هل يمكن أن تخطف لندن دمشق من أضواء أفلامك؟

حبي الأول، مدينتي الشام، أما المكان الذي أشعر فيه بأمان، واستقررت فيه، فهي مدينتي لندن. بالتأكيد ستحاول أفلامي المقلبة أن تضم المكان الجديد في أفلامي. قد لا تخطف لندن الضوء من أفلامي، لكنها هنا، جنبا إلى جنب، مع مدينتي، وبلادي وحكاياتها. نحمل كأفراد، وسينمائيين، تجاربنا المعيشة، والأمكنة التي عشناها في أفلامنا.

فيلم "يوم أضعت ظلي"

تأسيس

  •  إلام يحتاج الواقع السوري للتأسيس لإنتاج سينمائي؟

نحتاج إلى تمويل ودعم محلي، نحتاج كل أنواع التمويل المحلي سواء كان خاصا أو حكوميا. السينما صناعة، ولا تنجز عبر أفراد فقط، ما زلنا في مرحلة إنجاز أفلام فردية تحاول مجابهة شح التمويل. لنحصل على سينما في بلادنا، يجب أن تتوافر كل مقومات الصناعة: تمويل، معدات، مؤسسات، شركات إنتاج، أماكن لتدريب الكوادر تقينا وفنيا، والأهم أماكن لتوزيع الأفلام. وما دام توزيع الأفلام في سوريا، ينحصر بعدد صالات لا تتجاوز أصابع اليد، فستبقى السينما رفاهية، بينما هي حاجة حقيقية ملحة وحياتية. لقد انتزع النظام السابق هذا الحق من يومياتنا، إذ على عكس جيل آبائنا الذي كان يذهب أسبوعيا إلى السينما، لا يزال حدث الذهاب إلى دور السينما، استثنائيا، وليس فعلا اجتماعيا يوميا. المهم ليس فقط صناعة الأفلام، بل كيف نوصلها إلى جمهورنا.

مشهد من فيلم "نزوح"

  •  كيف تنظرين حاليا إلى مسألة العودة؟

منذ نهاية عام 2012 لم أستطع العودة إلى بلادي، ولكن اكتشفت ذلك عام 2014، لكنني أخيرا أستطيع العودة. هذا شعور غريب جديد: حق العودة إلى وطني، مدينتي، إلى حيي، وبيتي أخيرا. آمل يوما أن أنجز أحد أفلامي هناك، وأن أعود وأن أساعد بالخبرات التي اكتسبناها في الخارج في بلادنا. تصوري أنه الحق الأبسط، حق العودة إلى بلادك، كان يحتاج إلى سنين طويلة من الحروب والضحايا، لكي نحصل عليه.

الخطوة الأساس الأولى المطلوبة، أن تعود مؤسسة السينما ولجانها إلى المختصين السينمائيين المتحررين من العقلية القديمة

  •  حلم الأوسكار، بالنسبة الى طموحاتك وتقديرك، على بعد كم خطوة أنت منه؟

القليل يعلم أن الأوسكار في مجال الأفلام الروائية، خطوة ليست فردية، بل فعل مؤسساتي. فمؤسسة البلاد الحكومية، هي من تختار الفيلم الذي سيمثلها في الأوسكار، فقط الأفلام الوثائقية يمكن أن ترشح نفسها دون حكومات بلادها الرسمية. أما في مجال الأفلام الروائية، فلم نكن نستطيع حتى أن نقدم أفلامنا الى الأوسكار، لأنه بكل بساطة من يستلم اللجنة الرسمية في سوريا، هي مؤسسة السينما، التي كان من المستحيل أن ترشح أفلاما تعارضها، أو لا تقدم خطابها الرسمي إلى الأوسكار. 

فيلم "عزيزة"

الآن مع سقوط الأسد، لكي نصل الى الأوسكار، ولكي يصل أي فيلم سينمائي سوري، الخطوة الأساس الأولى المطلوبة، هي أن تعود مؤسسة السينما، ولجانها إلى المختصين السينمائيين المتحررين من العقلية القديمة، ومن تفكير النظام، وتبديل الكوادر القديمة في مؤسسة السينما، التي كانت تعوق وتقف في وجه أي مخرج ليس جزءا من حزب البعث وسياسة النظام، باستثناء طبعا المخرجين السينمائيين الذي كانوا يحاولون من الداخل تغيير المؤسسة، مثلما كان يحاول كل من أسامة محمد وعمر أميرالاي وهالة العبد الله. وعندها تتشكل لجان سينمائية جديدة، تتطلع الى أن تعرض أفلامنا في الساحات العالمية، وتختار الأفلام ضمن معايير سينمائية وفنية وفكرية تقوم على الأحقية والمساواة، متحررة من أفلام النظام وعقليته، عندها فقط نستطيع تقديم أفلامنا. تخيلي كم طويل هذا الطريق. ولكن هذا حلم جميل، بأننا يوما ما سنقدم باسم سوريا الحرة أفلامنا إلى الأوسكار.

font change