صحيح أن رومانيا تحتل موقعا هامشيا على خريطة أوروبا الجغرافية والسياسية، لكنها تحتل على خريطة الحداثة الشعرية والفنية موقعا لا يمكن إنكاره، نظرا إلى الدور الرئيس الذي لعبه شعراؤها وفنانوها طوال القرن الماضي داخل أبرز الحركات الطلائعية، ومن بينهم تريستان تزارا وقسطنطين برانكوزي وبنجامين فودان وأوجين يونيسكو وفيكتور برونر وجاك هيرولد وغيراسيم لوقا وإيزيدور إيزو ومارسيل جانكو وباناييت إيستراتي.
إلى هذه القائمة الطويلة يجب أن يضاف اسم يجهله معظمنا، وهو إيلاري فورونكا (1903 - 1946)، ليس فقط لأنه كان رفيق درب هؤلاء العمالقة الذين تدين الحداثة لهم بالكثير في بلورة مفرداتها، بل لأنه كان أيضا، بمنأى عنهم، صاحب مشروع كتابي باهر أثمر 30 مجموعة شعرية وعددا مماثلا من الكتب النثرية التي تتراوح بين تأمل وسرد، من بينها رواية "ذكريات من كوكب الأرض" (1945) التي كتبها في نهاية حياته، ونغتنم فرصة إعادة نشرها حديثا في باريس عن دار "أرفوين"، للتعريف بها وبمسيرة صاحبها الذي تصلح لوصفه عبارة أندره بروتون: "متفوق مجهول".
بدايات فورونكا في الكتابة كانت بقصائد ذات صبغة رمزية ونبرة معتمة سيتخلص بسرعة منهما في مجموعته الشعرية الأولى، "مِحَن" (1923)، التي زيّن فيكتور برونر نصوصها برسوم رائعة، وفتح لصاحبها أبواب الطلائع الفنية الرومانية، إثر تأسيسه معه مجلة "75 HP"، الشهيرة ليس فقط بجرأة إخراجها، بل أيضا بكونها الحاضنة الأولى لما يعرف بـ"الشعر الصوري" (Pictopoésie)، الذي يقوم، بحسب فورونكا، على "تنضيد سطوح هندسية، متباينة وفقا إلى الألوان والنتوءات، تعزز معناها التشكيلي، بإيقاعاتها، كلمات مخطوطة في فضائها".
التكاملية
بصمة الحركة الدادائية على إخراج هذه المجلة ومضمونها لا لبس فيه، لكن فورونكا سيتجاوز هذا التأثير بسعيه إلى الجمع بين مختلف أطروحات الحركات الطلائعية، فارضا نفسه منظّرا لما سمّاه "التكاملية" (Intégralisme). وفي معرض تحديده هذا المفهوم، كتب: "الكلمة الصائبة لم ينطق بها أحد بعد: التكعيبية، المستقبلية، الدادائية، البنائية، كلها أفضت إلى النقطة الجسورة نفسها: الحصيلة". في موازاة عمله التنظيري هذا، نشر 12 مجموعة شعرية، قبل الفرار عام 1933 من "الظلمات البلقانية" إلى باريس حيث جذبه "مصهر السوريالية المنير". مدينة كان سبقه إليها معظم رفاقه المذكورين أعلاه، لكن ذلك لم يحُل دون اختباره فيها الحقائق القاسية لحياة المهاجر، التي تناولها بألمعية في مجموعته الشعرية "تصريح إقامة" (1935).