مصطفى الكاظمي لـ"المجلة": لهذه الأسباب عدت إلى العراق... وهكذا أرى النظام العالمي الجديد

رئيس الوزراء العراقي السابق في حوار شامل مع رئيس تحرير "المجلة" إبراهيم حميدي

"المجلة"
"المجلة"
رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي

مصطفى الكاظمي لـ"المجلة": لهذه الأسباب عدت إلى العراق... وهكذا أرى النظام العالمي الجديد

رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي عاد إلى العراق بعد "استراحة محارب" لأكثر من سنتين. ولأنه معروف بدقة حساباته وخطواته، طرحت عودته كثيرا من الأسئلة والتكهنات. وما زاد منها أن هذه العودة إلى الوطن، جاءت في وقت تشهد فيه منطقة الشرق الأوسط تحولات كبيرة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 والعالم يشهد مرحلة جديدة منذ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب.

الكاظمي الذي عمل بالصحافة في المنفى زمن حكم صدام، ثم ترأس بعد التغيير الكبير في بغداد، جهاز المخابرات والحكومة، ومعروف باتساع مروحة علاقاته في العراق والإقليم والعالم، بين أطراف متحالفة وأخرى متصارعة، بين الشخصيات القليلة القادرة على الربط بين تحولات الداخل والخارج وبين الأزمة والمتغيرات وقراءة معاني الإشارات والتحولات.

حملت إلى الكاظمي الكثير من الأسئلة عن العراق والمتغيرات في الشرق والأوسط والنظام العالمي الجديد. أجرينا قسما من الحوار في لندن ثم استكمل خطيا عبر البريد الإلكتروني في 26 مارس/آذار 2025.

سألته عن معاني عودته إلى بغداد، ونيته الترشح إلى الانتخابات والضمانات التي يريدها، عن انسحاب القوات الأميركية وعلاقة طهران وواشنطن في العراق، عن الشرق الأوسط بعد سقوط نظام الأسد ونكسات "حزب الله"، عن تهديدات ترمب بــ"الضغط الأقصى" ضد إيران، عن العلاقات السعودية-الأميركية، والنظام العالمي الجديد وعلاقة أميركا والصين وروسيا، وعن موقع العرب في العالم.

وهنا نص الحوار:

* دولة الرئيس، عدت إلى العراق بعد غياب لأكثر من سنتين. ما أسباب العودة؟

- شكرا جزيلا لكم على هذه الفرصة الطيبة. بعد إتمام مدة المسؤولية الوطنية قررت أن أغادر العراق، وهذا القرار له أسبابه ودوافعه. على المستوى الشخصي، كنت في أمس الحاجة إلى أخذ قسط من الراحة بعد هذه المدة من العمل. المسؤولية لم تكن محصورة برئاسة الوزراء، بل تمتد منذ عام 2016 عندما كنت رئيسا لجهاز المخابرات الوطني، حتى أكتوبر/تشرين الأول 2022 مع تسليمنا المهمة لرئيس الحكومة الحالية.

بعض الإخوة قالوا إن الكاظمي أخذ "استراحة محارب"، وهذا الوصف فيه بعض من الصحة. فقد عبرت في أكثر من لقاء أنني أقف على التل، وهذا يعني الاستراحة الممزوجة بالمتابعة والمراقبة للوضع من جهة، والعمل على تقييم التجربة وتدوينها وتوثيقها من جهة ثانية؛ إضافة إلى تطوير الرؤى والأفكار والمقاربات، خاصة أن المتغيرات التي تعصف بالمنطقة والعالم تستوجب هدوءا ومرونة في الوقت نفسه، يساعدانا على اجتراح الحلول الملائمة رغم الظروف والتعقيدات الموجودة. فلا ننجر وراء العواطف، ونتمسك بالقيم الأخلاقية والإنسانية والوطنية لتحقيق المصالح العامة للعراق وأهله والمنطقة.

سقوط نظام الأسد والانتكاسة التي تعرض لها "حزب الله" في لبنان لهما تداعياتهما على العراق. ما زلنا الآن في قلب العاصفة، وليس بالإمكان أن نحدد ونشخص– على وجه الدقة– أين وكيف

التطورات الإقليمية وانعكاساتها على المشهد العربي عموما والعراقي خصوصا، حفزتني أكثر للعمل والانطلاق بشكل علني، لبلورة الأفكار التي تساهم في تذليل العقبات والعودة السريعة إلى الواقع بعيدا عن المغامرات غير المحسوبة.

وقت الاستراحة أستاذ إبراهيم انتهى. حان وقت العمل لنكون جزءا من الحالة العربية. فالعراق بلد عربي لا يخرج عن هذا الإجماع وهذا التوجه، ولا يمكن أن يكون بعيدا عنه، ولن يستبدل هذا العمق بعمق آخر.

* هل صحيح أنك تريد تشكيل تحالفات كي تشارك في الانتخابات المقبلة؟

- الحديث عن المشاركة في الانتخابات المقبلة أو تشكيل التحالفات أو المشاركة في الائتلافات أتركه للوقت المناسب. أمامنا خيارات عدة ومتنوعة، ونحن منفتحون وعلى تواصل مستمر مع القوى والجهات التي تنسجم مع رؤيتنا، ونشترك معها في المقاربات المختلفة، وهذا ما زال قيد البحث والنقاش.

أود أن أشير إلى نقطتين مهمتين: الأولى، إذا ما قررنا المشاركة في هذه الانتخابات، فإننا نطالب بضمانات بأن تكون هذه الانتخابات انتخابات نزيهة تحظى بأقصى درجات الشفافية، خصوصا أن تجارب الانتخابات الماضية، منذ عام 2005، شهدت الكثير من التحديات والتعطيل والتحشيد غير المبرر.

"المجلة"
رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي خلال الحوار مع رئيس تحرير "المجلة" ابراهيم حميدي

النقطة الثانية، بغض النظر عن المشاركة في الانتخابات من عدمها، على الجميع أن يتحمل مسؤولياته الوطنية والتاريخية، إن كان داخل السلطة أم خارجها، وإن كان مواليا للحكومة أو النظام السياسي أو معارضا لهما. المرحلة الراهنة تفرض علينا العمل  لأجل المصلحة العامة، لمصلحة العراق العليا، لأن ثمن الإخفاق والفشل سندفعه جميعا، أي العراق والعراقيين، وهذا ما أخشاه دائما وأحذر منه.

* أيضا، أميركا قررت سحب قواتها ضمن برنامج زمني... ما أثر ذلك على العراق؟

- خلال حكومتي أنجزنا ملف انسحاب القوات القتالية الأميركية من العراق، مع الإبقاء على عدد معين من المستشارين، وقد أوكلت إليهم مهمة تدريب قواتنا الأمنية المختلفة، وتقديم المشورة والدعم اللازم لها، لتمكينها في مواجهة عصابات "داعش".

لست في صدد تقييم هذا الاتفاق وآثاره، ولكن ما أريد قوله إن علاقة العراق مع الولايات المتحدة الأميركية علاقة استراتيجية ومهمة ولا يمكن التفريط بها، وعلى الإخوة المسؤولين البحث في كيفية تعزيز هذه العلاقة وتطويرها، والاستفادة من قدرات الولايات المتحدة ومكانتها العالمية وإمكانياتها خدمة للعراق دولة ومؤسسات وشعبا.

الأمر الآخر، وهو الأهم والمؤسف، تصدير النفاق المقرون بالجهل للجمهور العراقي. وأعني هنا أصحاب الشعارات الكاذبة الذين ينادون بقطع العلاقات مع الولايات المتحدة، وفي السر والخفاء يعملون على مد الجسور وتقديم أوراق اعتمادهم للمسؤولين الأميركيين داخل العراق وخارجه!

* عدت إلى العراق وقد تغير الإقليم كثيرا: سقوط نظام الأسد ونكسات "حزب الله". هل انعكس هذا على العراق؟

- طبعا وبكل تأكيد. سقوط نظام الأسد والانتكاسة التي تعرض لها "حزب الله" في لبنان لهما تداعياتهما على العراق. ما زلنا الآن في قلب العاصفة، وليس بالإمكان أن نحدد ونشخص– على وجه الدقة– أين وكيف. أعتقد في الأشهر القليلة المقبلة ستتضح معالم ذلك.

للأسف، السلاح في العراق قراره يأتي من خارج الحدود، واستخدم في كثير من المحطات ضمن صفقات تتجاوز حدود اللعبة العراقية. وهذا أمر مرفوض جملة وتفصيلا

الأمر الأهم من كل ذلك، أن نأخذ العِبَر من تجارب الآخرين. علينا كعراقيين أن نستفيد من تجربتنا وتجارب الآخرين حتى لا يصيبنا ما أصيب به غيرنا. فالوقوع في الأخطاء عينها أمر غير مبرر، وليس مقبولا أبدا. العِبرة اليوم أن نفهم تجارب الآخرين جيدا، أن نقرأ الظروف والعوامل والمآلات، أن نؤسس للمرحلة المقبلة بطريقة صحيحة، حتى لا تصيبنا انتكاسة لاحقة. علينا أن نؤمن بالدولة وخيار الدولة ومؤسسات الدولة، فهي من تحمي الجميع لا العكس.     

* كيف ترى علاقة العراق وإيران؟

- العلاقة بين العراق وإيران يجب أن تكون مبنية على التفاعل الإيجابي وحُسن الجوار، بما يحترم خصوصية البلدين، وتحت سقف تحقيق الأفضل لكليهما. أرفض أي شكل من أشكال التدخل في شؤون العراق الداخلية، وأرفض أن يكون العراق حديقة خلفية لإيران، حفاظا على مصالح البلدين.

وهنا أدعو الإخوة المعنيين في الجمهورية الإسلامية إلى إعادة النظر في رؤيتهم للمنطقة عموما والعراق خصوصا، وتكريس منطق الدولة والمؤسسة في التعاون والتواصل الثنائي.

هناك متغيرات تشهدها منطقتنا، وعلى الجميع التكيف معها، والعمل بمبدأ التعاون والتكامل الاقتصادي الذي يصب في مصلحة دول المنطقة وشعوبها، ويثبت دعائم الأمن والاستقرار ويمنع أي مغامرة غير محسوبة بإمكانها أن تدفع الجميع إلى مواجهة لا تصب في مصلحة أحد إطلاقا.

* والسلاح خارج إطار ومنظومة الدولة؟

- مقتل العراق هو عندما يكون السلاح خارج منظومة الدولة. المجتمع الدولي والمحيط الإقليمي يحذران من التعامل مع دولة فيها فصائل وميليشيات حاضرة للمغامرة والذهاب بعيدا بقرار الحرب والسلم بمعزل عن إرادة الدولة ومؤسسات الدولة ورغبة الشعب.

وللأسف، السلاح في العراق قراره يأتي من خارج الحدود، واستخدم في كثير من المحطات ضمن صفقات تتجاوز حدود اللعبة العراقية. وهذا أمر مرفوض جملة وتفصيلا. هؤلاء يرفعون شعارات معادية للولايات المتحدة، ويعتبرون وجودها العسكري المنسق مع الحكومة احتلالا، في حين أن الدولة والحكومة تنظر إلى هذا الوجود على أنه جزء من تعاون أمني وشراكة استراتيجية مع أقوى قوة عسكرية في العالم.

كيف نفسر هذا التناقض؟ هذا ما قلته قبل قليل، هناك نفاق مقرون بتعمد تجهيل الجمهور العراقي، وهذا سيكون ثمنه باهظا على هؤلاء، لأن الجمهور باستطاعته أن يميز الحقائق.

* لعبت دورا في ترتيب لقاءات سعودية-إيرانية في بغداد مهدت لاتفاق بكين. كيف تنظر إلى الاتفاق بعد سنتين؟

- اتسمت هذه المحادثات بتبادل حُسن النوايا. العراق بحكم موقعه الجغرافي وقربه وتفاعله مع الجارين استطاع أن يوفر الأرضية المناسبة والملائمة لذلك. بلغ عدد جولات التفاوض خمس جولات، واتسمت بالكثير من الصراحة والشفافية بين الجانبين، وتناولت معظم الملفات العالقة بينهما. العراق استطاع أن يكون وسيطا حريصا على تقريب وجهات النظر وردم الفجوات، ولكنه– وبكل صراحة أقولها– العراق ليس باستطاعته أن يكون ضامنا لنتائج حوار من هذا النوع. بطبيعة الحال، حوار مماثل يحتاج إلى ضامن دولي، وليس إقليميا، وهذا ما قدمته الصين لكِلا الجانبين، بأن تكون هي ضامنة لنتائج هذا الحوار.

المنطقة قبل 7 أكتوبر ليست هي نفسها بعده. ثمة تحولات كبرى لم تقتصر على جغرافيا القتال، بل طالت بانعكاساتها النظام الإقليمي برمته

الآن، وبعد كل ما مرت به منطقتنا، أتمنى أن يُنظر إلى هذا الحوار على أنه حوار تأسيسي لاستراتيجية جديدة ومقاربة إقليمية مختلفة تنعكس إيجابا على الجميع، وليس حوارا مرحليا أراده البعض لعبور مرحلة وشراء للوقت. ما زلت أؤمن أن حُسن النية موجود لدى الجانبين، وهناك إمكانية لتطوير هذا الاتفاق.

* العراق جار لإيران. ترمب يلوح إما بـ"ضغط أقصى" على إيران أو اتفاق. كيف تنظر إلى ذلك وأثره على العراق؟

- يتبنى الرئيس ترمب سياسة "الضغط الأقصى" تجاه خصوم الولايات المتحدة، وفي هذا السياق يندرج الضغط على إيران والتلويح باستخدام القوة لإرغامها على تعديل سلوكها. لكن المتغير الرئيس الذي يجعل هذه السياسة أكثر خطورة أنها تأتي في خضم اضطرابات كبرى تشهدها منطقة الشرق الأوسط منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول. وهو الأمر الذي يزيد من حدة التوتر والتصعيد بين الطرفين، وهذا له انعكاساته المباشرة على مسارات العلاقة الإيرانية–العراقية من جهة، والعلاقات الأميركية–العراقية من جهة أخرى.

أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترامب مستقبلا رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في البيت الأبيض، في أواخر الفترة الرئاسية الأولى عام 2020

مهما كانت طبيعة التصعيد بين واشنطن وطهران، فإن المصلحة العراقية تقتضي احتواء انعكاساته السلبية، وبلورة دور عراقي فاعل قادر على فتح قنوات الحوار بين الطرفين، وكذلك دول المنطقة كالمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ودولة قطر.

العراق جدير بأن يلعب دورا بناء في ردم الهوة، وتقريب وجهات النظر، نظرا لموقعه الأكثر استجابة للحقائق الجغرافية والتاريخية الصلبة على الصعيد الجيوستراتيجي، فيما يخص الصراع الأميركي-الإيراني. كما أنه من الضروري أن يكون لدى العراق القدرة على التكيف مع المتغيرات استنادا إلى رؤية متوازنة، تقوم على ثلاثية المصالح الكبرى والأمن القومي والعمق العربي.

في المقابل، أدعو الإخوة في الجمهورية الإسلامية إلى تقييم تجربتهم في المنطقة، وتحديدا في العراق، وصياغة رؤية شاملة تقوم على فكرة الحل وصناعته، وليس استغلال الظروف لمصلحة هنا أو هناك. هذه الرؤية أساسها الانتقال إلى مفهوم الدولة ومؤسساتها في التعامل مع الجيران، والاحتفاظ بفكرة الثورة داخل الحدود لا تصديرها وصناعة مشكل هنا وهناك.

* هناك حديث كثير عن نظام إقليمي جديد يتشكل بعد هجمات 7 أكتوبر. كيف ترى هذا النظام الإقليمي الجديد؟

- بالتأكيد المنطقة قبل 7 أكتوبر ليست هي نفسها بعده. ثمة تحولات كبرى لم تقتصر على جغرافيا القتال، بل طالت بانعكاساتها النظام الإقليمي برمته. ولكن– رغم ذلك- من المبكر الحديث عن نظام إقليمي جديد بالكامل.

ينبغي أن تتحفز جميع القوى الفاعلة في المنطقة إلى إعادة قراءة ما حصل بموضوعية وجرأة، واستنباط الدروس والعِبَر حتى لا ندخل في المساحة الاستراتيجية القائمة على توازنات الضعف بعد جولات مطولة من الحرب. بل التـأسيس لمنطق التكامل السياسي الذي يتلاءم مع مصالح شعوب المنطقة، ذات التعددية متنوعة الأبعاد، والانفتاح على الخيارات الاستراتيجية التي تمزج الواقعية والمسؤولية المتوازنة، لإرساء الاستقرار السياسي- الأمني الذي بات ملحا أكثر من أي وقت مضى، بوصفه أساس النهضة الاقتصادية– التنموية التي تشهدها بعض دول المنطقة.

شكلت العقود الثلاثة الأخيرة مرحلة حافلة بمحاولات حثيثة لصياغة النظام الدولي بناء على منظورات تتناسب مع الواقع الذي أفرزته الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي

نحن أمام فرصة حقيقية لخلق مساحات التعاون والتفاعل والتشابك بين دول المنطقة، وتعزيز حضورها الاقتصادي على المستوى العالمي، وهذا يحتاج مقاربة جديدة– تؤمن بها القوى المختلفة– باستطاعتها أن تنتج واقعا جديدا قادرا على فرض نفسه.

على العراق، الدولة والحكومة والمؤسسات والقوى الفاعلة أن تقرأ ذلك جيدا.      

* يحصل كل هذا مع بداية "ترمب" الثاني"، كيف تنظر لوجوده وأثره على منطقتنا؟

- لا يختلف "ترمب الأول" عن "ترمب الثاني"، وسياسته الخارجية تجاه منطقة الشرق الأوسط هي امتداد لسياسة إدارته الأولى، فالرجل ينطلق من مبدأ "أميركا أولا"، ويمنح الأولوية للبُعد الاقتصادي، وينتهج سياسة "الضغط الأقصى" تجاه الخصوم، معتمدا على ما يسمى استراتيجية "القدرة على الإرغام" الهادفة إلى احتواء الأعداء دون اللجوء إلى الحرب. المتغير الأساسي الذي يميز سياسة إدارة ترمب الجديدة وتوظيفاتها هو المناخات السياسية والمنعطفات الاستراتيجية التي خلفتها التطورات الكبرى بعد 7 أكتوبر، وهو الأمر الذي يتطلب مشاركة أميركية نشطة ومكثفة لإعادة رسم خارطة التوازنات في المنطقة.

هنا تجدر الإشارة إلى أن السياسة الأميركية في المسرح الدولي وتجاه القضايا الكبرى لا يمكن اختزالها بشخص الرئيس، فالذي يضع المحددات الرئيسة حيال ذلك هو البنية المؤسساتية العميقة، التي تلحظ بشكل أساسي المصالح الأميركية في المنطقة والعالم، وحماية الأمن القومي الأميركي.

في هذه اللحظة التاريخية الحرجة علينا أن نفكر في الشراكة الاستراتيجية الناضجة مع الولايات المتحدة، لضمان السلام والاستقرار في المنطقة، وتوظيف هذا النوع من التعاون بما يخدم مسارات التنمية والتطور، ويحقق للأجيال الفرص الخلاقة القادرة على صنع سياقات مستقبلية واعدة.

* ترمب يريد التفاهم مع بوتين ومنافسة الرئيس الصيني. ما قراءتك للعلاقات بين الدول الثلاث وأثرها على العالم؟

- شكلت العقود الثلاثة الأخيرة مرحلة حافلة بمحاولات حثيثة لصياغة النظام الدولي بناء على منظورات تتناسب مع الواقع الذي أفرزته الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي.

بيد أنه لم يتمخض عن هذا التنافس أي تغيير جذري لنظام القطب الواحد، ومحاولات تغيير هذا النمط الأحادي للنظام الدولي كانت ولا زالت أحد الأهداف الرئيسة لغير واحدة من القوى الدولية، وأبرزها الصين وروسيا اللتين تسعيان إلى استعادة مكانتهما ودورهما في المسرح الدولي، وتسعيان إلى إضعاف المنظومة الأميركية، خاصة في مناطق نفوذها الجيوستراتيجية.

تواجه الولايات المتحدة مجموعة من التحديات المرتبطة بمستقبل قوتها، ودورها القيادي على الساحة الدولية، خصوصا في ظل التحولات الجيوسياسية والاقتصادية التي يشهدها العالم

تمثل الصين بالنسبة للولايات المتحدة، وكما صرح مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) وليام بيرنز "أهم تهديد جيوسياسي في القرن الحادي والعشرين"، وهي بذلك تختلف عن روسيا في الرؤية الأميركية وما ينبثق عنها من استراتيجيات وتكتيكات. فواشنطن تواجه بكين بوصفها المنافس الأخطر في سباق القوة المحتدم على قيادة الدفة الاقتصادية العالمية. وتعد مواجهة الأحادية الأميركية أبرز المداميك التي تقوم عليها العلاقات بين الصين وروسيا، فكلتاهما تهدفان إلى إعادة تعريف طبيعة النظام الدولي، والانتقال به إلى هوية جوهرها التعددية القطبية اقتصاديا وعسكريا.

بعد الحرب الروسية-الأوكرانية وسقوط نظام بشار الأسد، بات من الممكن القول إن روسيا الزاحفة نحو قمة الهرم الدولي، أصبحت قوة إقليمية تتسم بالبعد الدولي أكثر منها قوة دولية تشكل خطرا على الزعامة الأميركية للنظام العالمي. فعليا نجحت الولايات المتحدة في تفكيك حلقات المواجهة مع التحالف الاستراتيجي الروسي-الصيني. وقد حانت الفرصة من أجل التفرغ للاستراتيجات الأميركية الكبرى الرامية إلى احتواء الصين التي تشكل تهديدا متناميا لواشنطن. في هذا السياق تحاول الإدارة الأميركية تقليص مساحات الانشغال إقليميا ودوليا، لتركيز البوصلة على الهدف المركزي المرتبط بعرقلة الصعود الصيني. وبذلك يمكن فهم المحاولة الأميركية لإنهاء الصراع الروسي-الأوكراني، وتقارب ترمب وبوتين، أضف لذلك قناعة ترمب بمبدأ "الدبلوماسية الشخصية" أي قدرته على إدارة التناقضات مع الخصوم، وتحديدا روسيا وكوريا الشمالية ببناء علاقة شخصية مع بوتين وكيم، في محاولة لكبح جماحهما.

نور أيوب - المجلة
رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي

بالمحصلة، يسابق ترمب الزمن  للقيام بخطوات حاسمة من شأنها إعاقة المشروع الصيني الذي ينشد المنافسة على إدارة الدفة الاقتصادية العالمية، فالرجل يرغب في دخول التاريخ كقائد استثنائي استطاع أن ينقل الولايات المتحدة من مرحلة التحديات الكبرى إلى مرحلة الفرص المستدامة.   

* كيف ترى النظام العالمي الجديد؟

- تبحث الولايات المتحدة عن الوسائل الآيلة إلى إطالة أمد زعامتها على النظام الدولي، وذلك عبر العمل على الاحتفاظ بالتفوق في مختلف الميادين، التكنولوجية والاقتصادية والثقافية والعسكرية والدبلوماسية، وعبر قيادة المؤسسات الدولية وحلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي بات وحيدا في الساحة الدولية بعد انفراط عقد حلف "وارسو"، ومن خلال السعي إلى منع منافسين محتملين من الارتقاء إلى مستوى القوة العظمى، وفي مقدمتهم كل من الصين وروسيا.

في عالم اليوم الذي يتسم بالسيولة والتعقيد، أميل إلى قراءة متعددة الأبعاد، والتي لا تختصر الخارطة الدولية بمفاهيم مبسطة واختزالية.

تواجه الولايات المتحدة مجموعة من التحديات المرتبطة بمستقبل قوتها، ودورها القيادي على الساحة الدولية، خصوصا في ظل التحولات الجيوسياسية والاقتصادية التي يشهدها العالم، وفي هذا الإطار يمكن القول إن القوة لم تعد متمركزة في يد قطب واحد، بل أصبحت موزعة وفق نمط مقسم إلى أبعاد ثلاثة، بحيث تتفاعل مستويات متعددة من القوة في آن واحد.

على مستوى القوة العسكرية، تبقى الولايات المتحدة القوة الأحادية المهيمنة إلى حد كبير، فالتفوق العسكري الأميركي، سواء من حيث الإنفاق أو التكنولوجيا أو الانتشار العالمي للقواعد العسكرية، يمنح واشنطن مكانة فريدة؛ ومع ذلك، لا بد من مراقبة ومتابعة القوى الصاعدة، وخصوصا الصين التي تسعى حثيثا، وبشكل هادئ وناعم، إلى تطوير ترسانات تسليحية ضخمة، وبناء مقومات القدرة العسكرية المؤهلة لمنافسة القوة الأميركية، عكس الاتحاد السوفياتي في القرن الماضي.

التجارب العربية التنموية، خصوصا بالخليج العربي، تجارب أكثر من مشجعة، بل هي قفزات على مستوى العالم، ما يشكل دافعا ومحفزا للمضي قدما في مشروع سيحظى بدعم من الإخوة العرب

أما على مستوى القوة الاقتصادية، فإن هناك ما يشبه نوعا من التعددية القطبية منذ أكثر من عقد؛ خصوصا أن التنافس المحتدم بين الولايات المتحدة مع قوى اقتصادية كبرى مثل الاتحاد الأوروبي والصين واليابان، بالإضافة إلى لاعبين جدد مثل الهند والبرازيل، بات يكتسب أهمية كبرى على الساحة الدولية لما له من انعكاسات وتأثيرات.

هناك مستوى ثالث بات من الضروري الانتباه له، وهو البعد المرتبط بالعلاقات العابرة للحدود الوطنية، إذ تتفاعل قوى غير تقليدية لا تمثل دولا بالمعنى التقليدي؛ وفي هذا المستوى، تبرز تحديات مثل الإرهاب المتجاوز للحدود والجريمة الدولية والأمن السيبراني، كما أن التحديات المشتركة التي تواجه البشرية مثل الأوبئة وتغير المناخ، تحتم تعاونا دوليا، فلا يمكن مواجهتها من قبل قوة واحدة. في هذا المستوى، تتوزع القوة على نطاقات واسعة، مما يجعل مفاهيم الأحادية أو التعددية القطبية أمرا تبسيطيا لا يراود تشابكات الواقع الدولي ومخاضاته. 

* كيف تريد أن ترى موقع العرب في هذا النظام العالمي؟ دورهم؟ ومساهماتهم؟

- السبيل الأمثل الذي يضع العرب في مسارات التأثير الدولي اللائق بما يزخرون به من إمكانات وموارد وإرث حضاري هو مشروع التكامل العربي الذي يوحد الجهود، ويدير التناقضات بوعي بناء، ويستثمر القدرات الكامنة، بغية إعادة هندسة الكيان العربي، وتحرير ما لديه من طاقة حركية هائلة قادرة على أن تلعب أدوارا كبرى في الساحة الدولية.

كنت سابقا قد طرحت "مشروع المشرق الجديد" الذي يتحدى الواقع المأزوم في المنطقة، وهو لا يطرح رؤية مغامرة أو غير واقعية، بل يستند إلى طرح يواكب سيولة الواقع وتشابكاته، بما يتيح صناعة التحول.  وليس لذلك سبيل سوى التكامل البناء بين القوى الفاعلة، فالعراق بموارده وموقعه، ومصر بمخزونها البشري الهائل، وتقدمها الخبراتي في أكثر من مجال صناعي. ومن ثم الأردن حلقة الوصل بين خطوط التماس الجيوستراتيجية، يمكنها أن تجتمع كلها في سياق تعاوني للاستفادة المتبادلة من عوامل القوة لكل دولة، توخيا لرسم مسار جديد في المنطقة يرتكز على قدراتها الذاتية، ويؤسس لنموذج حيوي قادر أن يعيد إنتاج وعي أكثر إيمانا بالذات، وأكثر قناعة بضرورة التعاضد للنهوض البنيوي.

يتميز مشروع المشرق الجديد بتركيزه على قيمة التكامل، التي باتت للأسف قيمة نظرية.

برأيي أن هكذا مشروع يمكنه أن يفتح آفاقا ويخلق فرصا حقيقية لتشكل شرق أوسط جديد يقوم على العمل العربي المشترك، خاصة أنه مشروع مكمل ومتفاعل مع مشروع الإخوة في "مجلس التعاون الخليجي"، وهما يشكلان عمقان لبعضهما البعض.

التجارب العربية التنموية، خصوصا بالخليج العربي، تجارب أكثر من مشجعة، بل هي قفزات على مستوى العالم، ما يشكل دافعا ومحفزا للمضي قدما في مشروع سيحظى بدعم من الإخوة العرب، لأن المصالح المشتركة تقتضي صعود هذا النوع من القوى لا عرقلتها، لأنها ترتكز على ديناميات اقتصادية وسياسية وأمنية فاعلة ومنتجة في إطار إيجاد بيئة استراتيجية أكثر أمنا وتنمية وتقدما، وخنق ساحات الصراع التي لم تنتج سوى العقم الاستراتيجي. وهو ما يجعل المجموعة العربية أكثر انخراطا في صناعة التحولات الدولية، لا أن تكون مجرد منفعل أو متلق للفعل المتبلور في المسرح العالمي.

font change