العقل والنظام

العقل والنظام

في جوهر مأساتنا الإنسانية أننا نجد أنفسنا دائما في أسر الحدود التي رسمناها. نرسم الحدود لكل شيء وفي كل مجال، ثم ننادي بوجوب التفلت من تلك الحدود، بل نزين لأنفسنا سِحر التحرر منها، والانطلاق... إنما إلى أين؟ نحو حدود أخرى أو جديدة، حدود لأفكارنا وتطلعاتنا ورغباتنا، تلك التي تتشكل منها- أو من بعضها- الحياة (المحدودة) لكل منا.

البحث عن النظام هو الذي يأتي دائما بالحدود والضوابط. الحاجة إلى النظام في كل مجال تقع في صميم الحياة الاجتماعية، وتحدد طبيعتها. ثم تكون الثورة على النظام تجديدا للبحث عنه، عن صوَر جديدة له. هكذا تستمر حياة البشر، يحدوها خوف من الفوضى، ونزوع إلى النظام الذي هو كالملجأ الذي يوفر أمْناً للفرد داخل المجتمع، إلا أنه يقيد هذا الفرد بما ينص عليه من التزامات قد لا يقوى على تحملها، ونادرا ما يرتضيها.

لقد كان الإنسان، منذ القديم، مسكونا بهاجس البحث عن أكبر قدْر ممكن من الحرية، وقد شكل ذلك موضوعا أساسيا من موضوعات الفلسفة منذ بداياتها. ولا يزال المفكرون- على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم- يتصدون لهذا الموضوع ويطيلون التأمل فيه. هل يستطيع الفرد أن يتحرر كليا من الحدود على أنواعها؟ إن أطرف ما تصطدم به محاولات الإجابة عن هذا السؤال وأمثاله هو محدودية التفكير نفسه، أو بالأحرى محدودية الطاقات التي تتمتع بها آلة التفكير، التي هي العقل. ولكن الأكثر طرافة من كل هذا هو أن الذين تكلموا على محدودية العقل وتحسسوا بها إنما هم أصحاب عقول مبدعة، استطاعوا بواسطتها أن يقدموا للبشرية إنجازات فكرية باهرة.

لقد ظلت العلاقة بين المعرفة العقلية واليقين (أو الحقيقة) واحدة من المعضلات الفلسفية على مر العصور. وقد ظهرت- بتطور العلم والفكر- مصطلحات كثيرة وُضعت إزاء العقل، لكي تشير إلى محدوديته، على الرغم من ذلك التطور، واللاوعي، والحدْس، والغريزة، والإشراق، والإلهام... إلخ.

وقد بلغ الأمر ببعض المفكرين أن قالوا إن العقل لا يقْدر إلا على التشكيك أو الظن، فيما الوقوف على الحقائق يستدعي معرفة من طريق آخَر غير العقل.

مؤسس علم النفس الحديث، سيغموند فرويد، رأى أن اللاوعي هو الذي يتحكم بسلوك الفرد وبتصرفاته وأفكاره وإبداعاته. واللاوعي هو- خلافا للوعي- مجموعة من الموروثات والغرائز والنزعات، تعمل على تكوين الفرد منذ طفولته. ولكن، هل توصل فرويد إلى ما توصل إليه عن طريق "وعيه" أو "لاوعيه" ؟ والعلْم الذي أسسه، أليس ثمرة تفكيره ونتاج عقله؟

في تراثنا العربي، تستوقفنا محاولات وتجارب دعَت إلى تجاوز المعرفة العقلية نحو معرفة أوثق صلة بالحقائق، تتأتى عن طريق الإلهام أو الإشراق، وذلك بعد طول مكابدة وارتياض

أما الفيلسوف نيتشه فقد وضع فوق العقل ما سماه "إرادة القوة"، التي جعلها المحرك الأساسي في حياة ليست سوى تنازع البقاء. وكأن بقاء "الأصلح" أو "الأقوى" هو هدف تنْزع إليه البشرية على نحو تلقائي أو فطري. كأن هذه النزعة هي من قبيل الغريزة وليست من قبيل العقل. ولكن، ألم تكن أفكار نيتشه ونظرياته إبداعا عقليا في المقام الأول؟

وفي تراثنا العربي، تستوقفنا محاولات وتجارب دعَت إلى تجاوز المعرفة العقلية نحو معرفة أوثق صلة بالحقائق، تتأتى عن طريق الإلهام أو الإشراق، وذلك بعد طول مكابدة وارتياض. وقد يكون من المناسب هنا أن نشير إلى نوع من الفلسفة عُرف عند أسلافنا العرب هو الفلسفة الإشراقية. ألا نجد في ذلك كله محاولات قام بها أسلافنا للتصدي لمحدودية العقل؟

وقد مثل أبو العلاء المعري إحدى أبرز الظواهر "العقلانية" في تراثنا العربي. فقد دأب في "لزومياته" على تمجيد العقل، داعيا إلى الاحتكام إليه دائما. ولكن المعري- على الرغم من إيمانه بقدرات العقل- قد تنبه إلى محدوديته، بل إلى عجزه عن إثبات الحقائق التي لا يرقى إليها الشك. لقد أبرز المعري أهمية العقل في طرح الأسئلة الجوهرية المتعلقة بمناحي الحياة وبقضايا الوجود، وكذلك بالموت وبما بعد الموت. وأبرز أيضا أهمية الاقتداء بالعقل وليس بما تراكمه العادات والأعراف. ولكن الإجابات التي يمكن الحصول عليها عن طريق العقل ليست يقينية، فالظن والحدْس هما- بحسب المعري- أقصى ما يقوم به العقل، بل هما أقصى اجتهاد العقل (أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا).

إنها لمحنة كبرى هي محنة العقل. فكلما اتسعت آفاقه وكثُرت إبداعاته غدا أكثر وعيا بمحدوديته.

font change
مقالات ذات صلة