أحمد الشرع... "كرة النار" السورية التي تتدحرج نحو "الإطار" العراقي (2-3)

أحمد الشرع... "كرة النار" السورية التي تتدحرج نحو "الإطار" العراقي (2-3)

كان لافتا جدا رد فعل الكثير من ساسة الإطار التنسيقي العراقي وإعلامييه والمؤيدين له، فضلا عن جزء ليس صغيرا من الجمهور الشيعي في العراق، على المواجهات المسلحة التي حصلت في الساحل السوري بين السادس والعاشر من مارس/آذار الماضي، وتحولها السريع إلى مجازر بحق مدنيين علويين على يد جماعات مسلحة متحالفة مع الدولة السورية الجديدة في إطار استهداف طائفي واضح.

اتسم هذا الرد العراقي، على نحو غير مألوف، بحس عال بالحقوقية والإنسانية في سياق الدفاع عن العلويين السوريين الذين تعرضوا لانتهاكات فظيعة في تلك الأيام العصيبة. بسبب هذه الانتهاكات، ظهر هؤلاء العراقيون الغاضبون بوصفهم مدافعين أساسيين ومبدئيين عن حقوق الإنسان ودعاة لاحترام التعددية على نحو غير مشروط، باستخدام لغة ساخطة تشي، في نصحها المتعالي، بأحاسيس الترفع الأخلاقي والرسوخ الديمقراطي العراقي إزاء سوريا "المتوحشة" التي يحكمها الآن جهاديون متطرفون ينتمون لعوالم التعصب والكراهية!

ليس ثمة شك أن إجراما كبيرا حصل بحق علويين مدنيين كثيرين ارتكبته جماعات مرتبطة بالدولة السورية الجديدة وأن على هذه الدولة أن تقتص من الفاعلين، وتشكل مصدات مؤسساتية تمنع تكرار هذه الجرائم مستقبلا. لكن اللافت هنا ليس ما حصل في سوريا، بل ما حصل في العراق لجهة الغضب الأخلاقي والاستنكار الشديد للفظائع السورية من جماعات عراقية أيدت كثير منها أفعالا شبيهة في العراق، ووجدت تبريرا متواصلا لها.

بالإمكان هنا المرور بسرعة بضحايا مجزرة الصقلاوية في 2016 حين اختطفت جماعات ميليشياوية شيعية نحو 700 مدني سني في محافظة الأنبار، وقامت بإخفائهم، ويُعتقد على نطاق واسع أنها قتلتهم إذ وُجدت جثث بعضهم في مقابر جماعية (أقرت الحكومة بالجريمة حينها وشكلت لجنة تحقيقية لكن كالعادة لم ينتج عن لجنة التحقيق هذه شيء مفيد ومنصف)، فضلا عن أكثر من 600 شخص من ضحايا "احتجاجات تشرين" من المدنيين في 2019 و2020 الذين استهدفهم رصاص القنص الميليشياوي وأدوات القتل الأخرى (وتكرر سيناريو اللجان التي تشكلها الحكومة لتعقب الجريمة والمجرمين، من دون جدوى).

تكمن خطورة فكرة "الحاضنة" في إلغائها الفارق الكبير، القانوني والفردي، بين المدنيين والمسلحين

في الحقيقة، السجل العراقي، الرسمي والميليشياوي، بالقتل والتمييز الطائفيين بعد 2003، تحت حجج وتسميات مختلفة، سجل طويل ومرعب وتقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية بهذا الصدد كاشفة وصادمة. برر الكثير من العراقيين، من ضمنهم إعلاميون وساسة وأناس عاديون، هذه الجرائم في العراق، لكنهم أظهروا غضبا لافتا ومتواصلا وتفصيليا على جرائم شبيهة في سوريا حصلت بعد تولي أحمد الشرع الرئاسة، مقابل سكوتهم، أو في أحسن الأحوال مرورهم الخجول والسريع والعمومي جدا على مدى سنوات بين 2011 و2024، على الجرائم المروعة التي فاقت في الحجم والوحشية والمدى جرائم الساحل السوري الأخيرة، التي ارتكبها نظام بشار الأسد ضد المدنيين، وهي جرائم الكثير منها موثق دوليا ومؤسساتيا على نحو دقيق. تنخر هذه الازدواجية الأخلاقية العراقية، المحفزة عادة بدوافع طائفية، بقيمة أي استنكار أخلاقي أو حقوقي عراقي للجرائم التي حصلت في سوريا ضد المدنيين العلويين.

الحاضنة... أداة شيطنة المدنيين


بعيدا عن الدوافع الطائفية والأيديولوجية التي تغذي الاستنكار الأخلاقي والحقوقي بخصوص الفظائع السورية وغيابه بخصوص الفظائع العراقية، ما يثير الدهشة أكثر هي الأدوات المستخدمة في صناعة هذا الاستنكار في سوريا وإلغائه في العراق. كانت فكرة "الحاضنة" هي الأداة الأساسية بهذا الصدد في العراق التي منعت بروز الغضب الأخلاقي بين الشيعة العراقيين إزاء الفظائع التي ارتكبت ضد السنة العراقيين. تُمثل "الحاضنة" أو "حواضن الإرهاب"، فكرة خطيرة ذات منحى طائفي صنعتها الطبقة السياسية الشيعية الحاكمة، في أثناء سنوات الصراع الطائفي الشيعي-السني، وصعود المد الإرهابي الذي تصدره تنظيم القاعدة أولا، ثم "داعش" تاليا. 

رويترز
مؤيدون "للحشد الشعبي" العراقي اثناء مسيرة لاحياء "يوم القدس" في بغداد في 28 مارس

دَعَم هذه الطبقة السياسية في الترويج لهذه الفكرة التمييزية والطائفية جمهور شيعي كبير حينها، بينهم إعلاميون وناشطون وحتى مشتغلون في مجالات الثقافة. وَظفت هذه الطبقة، وحتى المسؤولون الأمنيون، مصطلح "الحاضنة" الذي لا معنى قانونيا أو مؤسساتيا له، لترسيخ الفهم المغلوط بأن الإرهاب في العراق في تلك السنوات، جذره اجتماعي، أي التفسير الطائفي له عبر المحاججة بأن جوهر المشكلة هو في جمهور سني واسع وحاقد يدعم إرهابيي "القاعدة" و"داعش"، بسبب كراهية هذا الجمهور المفترضة للشيعة، ولذلك استطاع هؤلاء الإرهابيون التحرك بسهولة والقيام بأعمالهم الإجرامية، بمعنى وجود تواطؤ بين المدنيين السنة، أو معظمهم، والمسلحين الإرهابيين. 
تكمن خطورة فكرة "الحاضنة" في إلغائها الفارق الكبير، القانوني والفردي، بين المدنيين والمسلحين، أي بين الفاعلين الذين يشتركون ماديا وعلى نحو متعمد ومقصود في ممارسة الإرهاب، من خلال التخطيط والدعم والتنفيذ، من جهة، ومن جهة أخرى المدنيين الذين التزموا الصمت خوفا من سطوة الإرهابيين، أو حتى تعاطفوا معنويا مع القضية التي كان يروج لها الإرهابيون بقوة، أي "الدفاع عن السنة"، لكنهم لم يدعموهم ماديا في تنفيذ عملياتهم الإرهابية.

مع انفجار الغضب الأيديولوجي العراقي بخصوص فظائع الساحل السوري، لم يلجأ الغاضبون العراقيون، إلى توظيف فكرة "الحاضنة" في تشكيل موقفهم من تلك الفظائع بعكس توظيفهم الكثيف لها في السياق العراقي

كانت إحدى النتائج الأشد خطورة من إلغاء الفارق بين المدنيين والمسلحين عبر التوظيف المريب لفكرة "الحاضنة"، هي إلغاء مسؤولية الدولة القانونية والأخلاقية عن تولي الأمن في المناطق المختلفة، ومنع سقوطها تحت سيطرة قوى إرهابية، إذ أصبح اللوم يوجه للسكان المدنيين في المناطق السنية، لأنهم هم الذين سمحوا بتسلل الإرهابيين إليها والسيطرة عليها، وبالتالي فإن مهمة تخليص مناطقهم من "آفة الإرهاب" تقع عليهم، وليس على الدولة! كان هذا الخطاب الذي ردده كثيرا ساسة وإعلاميون وأناس عاديون وحتى مسؤولون رسميون يغذي الطائفية ويحرض على السنة العاديين بوصف هؤلاء متواطئين مع الإرهاب بحيث انتهى الكثير من هؤلاء السنة في السجن بسبب اعتقالات ظالمة تعرضوا فيها للتعذيب والابتزاز والإهانة كما أشارت إلى ذلك تقارير دولية كثيرة، وبعضها رسمية عراقية. 
لا يكمن تناقض هذا الخطاب فقط في إعفائه الدولة من مسؤوليتها الرسمية بالحفاظ على الأمن وتعقب الخارجين على القانون، سواء لأسباب إرهابية أو إجرامية، وتحميلها للسكان المدنيين، وإنما أيضا في المفارقة المريرة فيه عبر الدعوة المضمرة فيه بتسليح المدنيين أنفسهم، في دولة تطالب قياداتها السياسية والأمنية، كما تدعو قوانينها، بحصر السلاح بيد الدولة! تظهر الطائفية الفجة في خطاب "الحاضنة" عند غياب استخدامه بخصوص المناطق ذات الأغلبية الشيعية، واقتصاره على المناطق ذات الأغلبية السنية، فعندما سقطت مدن شيعية في الوسط والجنوب تحت قبضة مجاميع ميليشياوية على مدى سنوات، لم تستخدم الدولة مفهوم "الحاضنة" ولم يحاول مسؤولوها وصحافيوها إقناع الرأي العام بوجود "حاضنة ميليشياوية" متواطئة مع الميليشيات سمحت للأخيرة بالسيطرة عليها، كما لم تلم سكان تلك المحافظات على سقوط مناطقهم بيد الميليشيات، بل أدت تالياً وعلى نحو صحيح واجبها بتحريرها من قبضة الميليشيات، وسط فرح شعبي هائل.

سوريا وازدواج المعايير العراقية


مع انفجار الغضب الأيديولوجي العراقي بخصوص فظائع الساحل السوري، لم يلجأ الغاضبون العراقيون، المحفزون بمشاعر طائفية وليست حقوقية أو إنسانية غير مشروطة، إلى توظيف فكرة "الحاضنة" في تشكيل موقفهم من تلك الفظائع، بعكس توظيفهم الكثيف لها في السياق العراقي، هذا بالرغم من أن السياق السوري يسمح بتوظيفٍ أعلى لهذه الفكرة مما جرى في العراق. في تصوير أحداث الساحل السوري الذي اعتمدته لغة الاستنكار العراقي، بالنسخة التي رُوج لها على نحو واسع، غابت تفاصيل الأحداث وسياقها الأمني والسياسي، بالأفعال وردود الأفعال الناشئة عنها. 
بدأت أحداث الساحل، في السادس من مارس بهجمات شنها مسلحون علويون من الجيش المنحل، أو ما أصبح يُطلق عليهم في سوريا "الفلول"، ضد القوات الأمنية للنظام الجديد، ما أدى إلى مقتل العشرات من عسكريي هذه القوات واحتلال هؤلاء المسلحين مناطق في الساحل، في سياق ما بدا تمردا مسلحا منظما للإطاحة بالنظام الجديد، بقيادة ضباط علويين من العهد السابق لهم تاريخ معروف بممارسة القمع ضد المعارضين، مثل مقداد فتيحة، وغياث دلا، خصوصا مع نشر الأخير بيانا باسم "المجلس العسكري لتحرير سوريا"، دعا فيه إلى "تحرير كامل التراب السوري من جميع القوى المحتلة والإرهابية"، و"إسقاط النظام القائم...". 
ردا على هذه الهجمات المفاجئة والمنُظمة، قامت الحكومة بتحشيد قوات كثيرة، بينها مجاميع رسمية وفصائل مسلحة، لاستعادة هذه المناطق من قبضة المسلحين العلويين وتعقبهم، ليندلع قتال ضارٍ بين الطرفين انتصرت فيه القوات الحكومية والفصائل المسلحة المتحالفة معها. 
بعد الانهيار السريع للتمرد المسلح وهروب بعض زعمائه، حصلت جولات انتقام وحشي قامت بها بعض هذه الفصائل ضد قرى علوية اعتبرها هؤلاء المسلحون "حواضن" للتمرد العلوي المسلح الذي يريد إعادة نظام الأسد المخلوع، خصوصا أن هذه المناطق العلوية دعمت تاريخياً هذا النظام وزودته بالكثير من القوى البشرية التي احتاجها النظام لترسيخ حكمه، وتالياً الدفاع عنه ضد خصومه الداخليين الذين ازدادوا قوة وجرأة بعد 2011. 

يوفر "الجولاني" ومعه كامل تجربة التحول السورية الصعبة بضمنها أحداث الساحل الأخيرة، الأرضيةَ الأيديولوجية والطائفية اللازمة لصناعة تهديد جديد للشيعة العراقيين يُعيدهم إلى التضامن المذهبي


صنعت هذه الخلفية التاريخية، وبعضها حديث زمنيا، الكثير من الارتياب بين العلويين كمجموعة بشرية تمثل أقلية سكانية لكن مؤثرة في سوريا من جهة، والنظام الجديد بالفصائل المسلحة ذات التوجه الإسلامي المتحالفة معه، والكثير من الجمهور العام السني السوري الداعم للنظام الجديد، من جهة أخرى. وفي ظل ضبط مؤسساتي ضعيف من جانب الدولة السورية الحديثة العهد ما بعد الأسد، وهيمنة المخاوف المتبادلة التي غذاها بقوة بروز التمرد العلوي المسلح الهادف لإعادة النظام السابق، تحولت بعض هذه المخاوف من جانب الطرف القوي والمنتصر أخيرا في هذه المواجهة، الفصائل المسلحة، إلى أعمال انتقامية منهجية ضد المدنيين العلويين الأبرياء، يتجاوز عدد ضحاياها حسب آخر التقديرات 1700 مدني علوي بضمنهم الذين سقطوا في مناطق أخرى غير الساحل، كما في حمص. 
كانت هذه الأعمال الانتقامية مثالا سيئا آخر على توظيف فكرة "الحاضنة" عبر إلغاء المسافة الفاصلة والمهمة بين المسلحين والمدنيين العلويين. كي تبرهن الدولة السورية الجديدة أنها مهتمة فعلا بتحقيق العدل عبر تطبيق مهني للقانون، تحتاج هذه الدولة أن تعيد الاعتبار لهذه المسافة وتحاسب الفاعلين وتنصف الضحايا..

الإطار التنسيقي وصناعة الشيطان السوري
في سياق الفهم العراقي التبسيطي لأحداث الساحل السوري، ضاعت كل هذه التفاصيل المهمة والخلفيات التاريخية والأمنية والسياسية المرتبطة بها لصالح اختصار فج لكامل المشهد بصراع بين الباطل القوي والكبير عدديا (السنة السوريين بقيادة "الجولاني" وتنظيمه "الإرهابي") والحق الضعيف ذي الأقلية الصغيرة (العلويين الأبرياء). 

رويترز
مؤيدون للحكومة السورية يتظاهرون في حلب في 7 مارس

يهدف هذا التوصيف للأحداث السورية الذي تصدره الإطار التنسيقي العراقي لتوحيد الشيعة العراقيين ضد خطر متخيل قادم من "سوريا القاعدية" عليهم الاستعداد من الآن للتصدي له في المستقبل القريب. 
وتجيد أحزاب الإسلام السياسي الشيعي الحاكمة في العراق إدارة الصراع، خصوصا في نسخه الطائفية والأمنية، الذي يحتاج مخيلة مؤامراتية واستنفار الهوية المذهبية وتخويف الشيعة العراقيين من أعداء مفترضين، بعضهم حقيقيون وأغلبهم مُتخيلون، وتفشل عادة في البناء والتنمية وتقديم الخدمات وصناعة تجربة حكم رشيد يخدم المصالح العراقية العامة ويشكل وقائع إيجابية في حياة العراقيين. ومنذ توليها الحكم في العراق في 2005 حتى الآن، كانت هذه سيرتها، وسجلها عبر عقديها في الحكم موثق ومعلن بهذا الصدد. 
ترفض هذه الأحزاب وأنصارها وإعلاميوها عادة استخدام اسم "أحمد الشرع"، لأن هذا يعني إقرارا ضمنيا بمهمته الجديدة كرئيس لسوريا، وتصر على اسم "أبو محمد الجولاني" في دلالة على الإصرار على أنه زعيم منظمة مصنفة على أنها إرهابية، ولا يمكنه مغادرة تلك الوظيفة السابقة. 
في هذا السياق، يوفر "الجولاني" ومعه كامل تجربة التحول السورية الصعبة بضمنها أحداث الساحل الأخيرة، الأرضيةَ الأيديولوجية والطائفية اللازمة لهذه الأحزاب لصناعة تهديد جديد للشيعة العراقيين يُعيدهم إلى التضامن المذهبي السابق الذي ضَمِن لهذه الأحزاب الفوز بجولات انتخابية كثيرة وقيادة كل حكومات ما بعد 2003 وصولا إلى هيمنتها الحالية على الحكم. 
لقد غادر الكثير من هؤلاء الشيعة هذا التضامن تدريجيا وبأعداد كبيرة، لكن فزاعة "ابو محمد الجولاني" تبدو مناسبة لإعادة تشكيل هذا التضامن…

font change