أميركا وكندا بعد "يوم التحرير"... احتدام الخصومة

الانتخابات الكندية المقبلة تحسم مسألة الاندماج أو الافتراق بين اقتصادي البلدين

.أ.ف.ب
.أ.ف.ب
ناخبون يحضرون تجمعا انتخابيا لرئيس الوزراء الكندي مارك كارني، في تورونتو، 4 أبريل 2025

أميركا وكندا بعد "يوم التحرير"... احتدام الخصومة

في وقت لا يزال الرئيس الأميركي دونالد ترمب يمتشق سلاح الرسوم الجمركية في وجه دول العالم مطمئنا الى أن "الأمور تسير على ما يرام بعد فرض الرسوم الجمركية وستتدفق 7 تريليونات دولار إلى بلادنا"، تتصاعد موجة العداء الكندي لأميركا، وتتجه البلاد الى انتخابات فيديرالية، والناخبون إلى صناديق الاقتراع في 28 أبريل/ نيسان الجاري، مع حاجة رئيس الوزراء الجديد مارك كارني الى تفويض قوي من الكنديين لمواجهة ترمب.

وبعد تصريحات وزيرة الخارجية الكندية ميلاني جولي بأن العلاقات مع الولايات المتحدة لن تعود الى سابق عهدها، وإعلانها أن كندا تتطلع الى "التقارب مع الاتحاد الأوروبي ونبحث عن شركاء في آسيا"، أكد كارني أن أوتاوا ستفرض رسوما بنسبة 25 في المئة على كل وارداتها من السيارات الأميركية التي لا يتم إنتاجها وفقا لاتفاق التجارة في أميركا الشمالية، الذي يضم المكسيك وكندا والولايات المتحدة. وأضاف أن الولايات المتحدة لم تعد "شريكا وديا" لكندا وأن بلاده ستدافع عن مصالحها وسيادتها.

إصرار على ضم كندا

في المقابل، لم ينفك الرئيس ترمب عن تكرار دعوته لأن تصبح كندا الولاية الحادية والخمسين، تحت غطاء المزاح حينا، والتهديد باستعمال القوة الاقتصادية حينا آخر. وقد أدلى بأول تصريح له في هذا الشأن في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، حول مائدة عشاء في مقر إقامته في منتجع ماريلاغو في ولاية فلوريدا، وفي حضور رئيس وزراء كندا (حينذاك) جاستن ترودو ومسؤولين أميركيين وكنديين كبار.

أطلب تفويضا إيجابيا قويا من مواطنيّ الكنديين. أننا نواجه أكبر أزمة في حياتنا بسبب إجراءات الرئيس ترمب التجارية وتهديداته لسيادتنا

رئيس الوزراء الكندي مارك كارني

وقد أثارت تصريحاته، وآخرها في 21 مارس/ آذار 2025، موجة من الاستياء والعداء في كندا، مما دعا كارني بعد أدائه اليمين الدستورية رئيسا جديدا للوزراء، الى الطلب من الحاكمة العامة في كندا ماري سيمون حل البرلمان. وبذلك أطلق حملة انتخابات فيديرالية آخر الشهر الجاري. وصرح بأنه يبحث عن تفويض قوي من الكنديين لمواجهة ترمب والتفاوض على "أفضل صفقة للكنديين"، مشددا أن "هناك الكثير مما يجب فعله لتأمين كندا، والاستثمار فيها وبنائها، وتوحيدها، ولهذا السبب أطلب تفويضا إيجابيا قويا من مواطنيّ الكنديين"، لافتا الى "أننا نواجه أكبر ازمة في حياتنا بسبب إجراءات الرئيس ترمب التجارية وتهديداته لسيادتنا".

أكبر دولة في العالم وأغناها

في غضون ذلك، وعلى إيقاع التداعيات الاقتصادية والسياسية للرسوم القاسية وغير المسبوقة لـ"يوم التحرير"، يحتدم النقاش حول مبررات التكامل الاقتصادي بين البلدين، وينقسمون بين مؤيد ومعارض، لكن ماذا سيحدث باقتصاد البلدين لو انضمت كندا الى الولايات المتحدة، أو تكاملت معها بشكل أو بآخر؟

رويترز
كندي يرفع لافتة خلال تجمع انتخابي لرئيس الوزراء مارك كارني، في تورونتو، 4 أبريل 2025

في حال انضمت كندا إلى الولايات المتحدة، ستبلغ مساحة اليابسة مجتمعة 19,817 مليون كيلومتر مربع، وستصبح الدولة الكبرى في العالم، متجاوزة مساحة روسيا البالغة 17,1 مليون كيلومتر مربع. كما تتمتع الدولتان باقتصادين متكاملين ومتشابكين بعمق، ويرتبطان بواحدة من أكبر العلاقات التجارية الثنائية، هي "اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية" (USMCA)، وبلغت قيمة التجارة بينهما أكثر من 900 مليار دولار أميركي في عام 2023، حيث أصبحت كندا ثاني أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة بعد المكسيك.

يبلغ الناتج المحلي الإجمالي مجتمعا نحو 31,24 تريليون دولار، مما يفوق أي اقتصاد آخر في العالم، وهو أعلى بكثير من الناتج المحلي الإجمالي للصين البالغ 17,9 تريليون دولار

يبلغ الناتج المحلي الإجمالي مجتمعا نحو 31,24 تريليون دولار، مما يفوق أي اقتصاد آخر في العالم، وهو أعلى بكثير من الناتج المحلي الإجمالي للصين البالغ 17,9 تريليون دولار. كما يبلغ انتاج النفط الخام مجتمعا نحو 18,9 مليون برميل يوميا، أي أعلى بكثير من انتاج المملكة العربية السعودية البالغ 10,81 ملايين برميل يوميا.

ومن شأن دمج الاقتصادين، ولادة سوق واحدة بلا حدود، وإزالة الحواجز التجارية مثل الرسوم الجمركية والاختلافات التنظيمية، وتبسيط سلاسل التوريد، مما قد يعزز الكفاءة. ومن شأن الموارد الطبيعية الوفيرة في كندا، أن تكمل قطاعات التكنولوجيا والتصنيع والخدمات في الولايات المتحدة، في حين تستطيع كندا الاستفادة من الابتكار ورأس المال الأميركيين بشكل أكثر سلاسة.

رويترز
شاحنة بضائع تعبر الحدود الأميركية في بلين قبيل ساعات من فرض الرسوم الجمركية على كندا، في 2 أبريل 2025

ستعزز موارد كندا الطبيعية أمن الطاقة والقدرة الصناعية للولايات المتحدة، حيث يمكنها الاستفادة من الطاقة الكهرومائية والمعادن الحيوية في كندا (مثل تلك المستخدمة في البطاريات)، مما يقلل الاعتماد على الواردات الأجنبية. لكن اللوائح البيئية قد تصبح ساحة صراع، حيث قد تتعارض المعايير الصارمة في كندا مع سياسات الولايات المتحدة.

تأثيرات سوق العمل

مع عدد سكان يبلغ نحو 382 مليون نسمة (340,1 مليون أميركي، و41,3 مليون كندي)، فإن أسواق العمل سوف تتكامل، وستسمح سوق العمل الموحدة بحرية تنقل العمال، وقد يتجه الكنديون جنوبا للحصول على أجور أعلى، في حين قد تستفيد الشركات الأميركية من القوى العاملة الماهرة في كندا. وقد تؤدي فجوات الأجور (متوسط الدخل في الولايات المتحدة أعلى من كندا) إلى إشعال التوتر، ما لم تتم موازنة ذلك. كما قد تتقلص أو تتسع الفجوات في الأجور بمرور الوقت، اعتمادا على السياسة المتبعة، لكن المناطق الريفية في كلا البلدين قد تفقد المواهب لصالح المراكز الحضرية. كما يرى محللون أن الضم قد يؤدي إلى انتقال نحو نصف سكان كندا وتوزعهم في ولايات أميركية مختلفة، مما قد يتسبب في انخفاض ملحوظ في الكثافة السكانية في كندا.

سيكون التوافق السياسي صعبا، إذ يتعارض النظام اللامركزي في الولايات المتحدة مع النظام البرلماني في كندا

قد تزدهر مقاطعات مثل أونتاريو (التصنيع) وكولومبيا البريطانية (التجارة مع آسيا) في إطار أميركي، بينما قد تنعكس على مقاطعة كيبيك بسبب تميزها الاقتصادي. ستستفيد الولايات الوسطى والشمالية الشرقية الأميركية من الوصول الأقرب إلى الأسواق الكندية، لكن الولايات المنافسة لكندا في قطاعات مثل الزراعة وانتاج الألبان قد تعارض ذلك.

السياسة النقدية والمالية

من المرجح أن تتبنى كندا الدولار الأميركي، مما يعني التخلي عن الدولار الكندي، وهذا سينهي السياسة النقدية المستقلة لبنك كندا، وترتبط عندذاك بقرارات الاحتياطي الفيديرالي الأميركي. وفيما قد يبسّط ذلك المعاملات، ويثبت تقلبات سعر الصرف (وهو أمر مفيد للأعمال عبر الحدود)، فقد يحد من قدرة كندا على تخصيص أسعار الفائدة أو أهداف التضخم بحسب احتياجاتها الخاصة، وقد يؤدي أيضا إلى الانكماش، وهذا يعتمد على كيفية إدارة عملية الانتقال. وقد يبرز "الدولار الأميركي الشمالي" الموحد كحل وسط.

.أ.ف.ب
عامل في مصنع "بومباردييه" في مونتريال بكندا، 18 فبراير 2025

أما معدلات الضرائب الأعلى في كندا وبرامجها الاجتماعية (مثل الرعاية الصحية الشاملة)، فستتعارض مع نهج الولايات المتحدة المعتمد على السوق والضرائب المخفضة. توحيد هذه الأنظمة قد يعني إما رفع الضرائب الأميركية لتمويل خدمات على الطراز الكندي أو تقليص شبكة الأمان الاجتماعي في كندا، وكلاهما سيثير احتكاكات شعبية وسياسية اقتصادية. كذلك، يقل دين كندا الفيديرالي (نحو 30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي) عن دين الولايات المتحدة (أكثر من 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي)، لذا قد يؤدي الدمج إلى توزيع الأعباء المالية بشكل غير متساوٍ.

الحوكمة والسياسة والثقافة

سيكون التوافق السياسي صعبا، إذ يتعارض النظام اللامركزي في الولايات المتحدة مع النظام البرلماني في كندا، وتختلف أنظمة الأحزاب الفيديرالية في الولايات المتحدة وكندا اختلافا كبيرا نظرا الى هياكلها السياسية وتطورها التاريخي وأطرها الحاكمة وطريقة عملها.

وقد تصبح كندا الولاية الـ 51، أو تصبح مقاطعاتها العشر وأقاليمها الثلاثة مجموعة من الولايات تضيف نجوما جديدة إلى العلم الأميركي.

قد يكون هناك مطالبات كندية بوضع شروط للاندماج إذا حدث هذا الأمر، منها الحفاظ على نظام الرعاية الصحية الكندي، وإبقاء هويات المقاطعات، وإجراء إصلاحات قانونية تشمل تمويل الحملات الانتخابية والتعليم والسيطرة على الأسلحة

وتختلف قوانين الأسلحة والنظم بشكل حاد بين البلدين، مما يتطلب التوفيق بين هذه الأمور عبر تنازلات قد لا يتقبلها أي من الجانبين بسهولة.

من الناحية الثقافية، هناك اختلافات بين ثنائية اللغة والتعددية الثقافية في كندا، في مقابل هوية الولايات المتحدة التي تنصهر فيها الثقافات. وقد تؤدي المصالح الإقليمية، مثل تميز مقاطعة كيبيك الكندية، أو تمسك الولايات الجنوبية الأميركية بتراثها وثقافتها، إلى خلافات. وقد يكون هناك مطالبات كندية بوضع شروط للاندماج إذا حدث هذا الأمر، منها الحفاظ على نظام الرعاية الصحية الكندي، وإبقاء هويات المقاطعات، وإجراء إصلاحات قانونية تشمل تمويل الحملات الانتخابية والتعليم والسيطرة على الأسلحة. وفي حين أن كلا البلدين عضو في حلفي "ناتو" و"نوراد"، فإن لدى الولايات المتحدة خصوما وأعداء في دول العالم، على عكس كندا.

.أ.ف.ب
شاحنة نقل عربات تعبر الجسر الفاصل بين كندا والولايات المتحدة، قادمة من أونتاريو في كندا، 3 أبريل 2025

وإذا انضمت كندا إلى الولايات المتحدة، فإن عدد سكانها البالغ 41,3 مليون نسمة سيجعلها أكبر ولاية، متجاوزة سكان كاليفورنيا البالغ عددهم 39,4 مليون نسمة. وستحصل كندا على عضوين في مجلس الشيوخ ولكن أيضا على 55 مقعدا في مجلس النواب. من شأن ذلك أن يجعل كندا الجائزة الأغنى في السباق الرئاسي، مع 57 مندوبا في الهيئة الانتخابية، متجاوزة كاليفورنيا التي يبلغ عدد مندوبيها 54.

وسيعزز الكيان الموحد بين الولايات المتحدة وكندا، هيمنة أميركا الشمالية اقتصاديا، وربما يواجه نفوذ الصين أو الاتحاد الأوروبي. لكن علاقات كندا التجارية مع دول أخرى قد تضعف، مثل اتفاق الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ حيث ستتولى السياسة الخارجية الأميركية الأولوية.

تأثير الضم على البلدين

على المدى القصير، هناك توقع للاضطرابات: انتقال العملة، توحيد التنظيمات، والمقاومة السياسية، ستخلق حالة من عدم اليقين. على المدى الطويل، يمكن أن يصبح الكيان الموحد قوة اقتصادية هائلة، لكن الكثير يعتمد على كيفية إدارة الحوكمة والهوية. قد تشعر كندا، بسكانها الأقل، بأنها في الظل، مما يهدد بتوترات إقليمية قد تقوض المكاسب الاقتصادية.

تاريخيا، حافظت كندا على سيادتها بقوة وصدّت محاولات الضم الأميركية في القرن التاسع عشر

لن يحدث الضم بين عشية وضحاها، وقد تستغرق المفاوضات والاستفتاءات عقودا من الزمن، والضم هو احتمال غير مرجح للغاية. ناهيك عن عدم وجود سوابق لهذا الأمر في العالم، ولكن بالنظر إلى الاتحاد الأوروبي، فقد عززت الاقتصادات المتكاملة التجارة، ولكنها لم تمح الهويات الوطنية أو توحد السياسة المالية بالكامل. ومن المرجح أن يذهب اندماج كندا والولايات المتحدة، إذا حصل، إلى أبعد من ذلك، وأن يشبه سيناريو دولة واحدة، مثل إعادة توحيد ألمانيا الشرقية والغربية، وإن كان بأعباء أيديولوجية أقل.

.أ.ب
ناقلة نفط كندية تصل إلى بوتلاند الأميركية، في 2 أبريل 2025

باختصار، من شأن الاقتصاد الأميركي - الكندي الموحد أن يخلق عملاقا على الساحة العالمية، يمزج بين نقاط القوة، ولكنه يتصارع مع عدم التوافق في السياسة والهوية والأولويات.

هل تنضم كندا إلى الولايات المتحدة؟

التنبؤ بما إذا كانت كندا ستنضم إلى الولايات المتحدة، أمر معقد، ويعتمد على عوامل سياسية وثقافية واقتصادية، ولا توجد مؤشرات واضحة تشير إلى "نعم" أو "لا" في الوقت الحالي.

تاريخيا، حافظت كندا على سيادتها بقوة وصدّت محاولات الضم الأميركية في القرن التاسع عشر. وتتشارك الولايات المتحدة وكندا أطول حدود في العالم، وعلاقة تجارية ضخمة، وروابط عسكرية. هما متكاملتان بالفعل، لكن من الصعب تخيل الاندماج السياسي الكامل، الذي يحتاج الى تحول جذري، ربما لعقود وليس سنوات.

لا رهان على الاندماج في القريب العاجل، لكن التاريخ مليء بالمفاجآت التي قد تدفع البلدين للاتحاد، أو يبقيهما منفصلين. لكن مع توالي قرارات ترمب المفاجئة والاستفزازية من طرف واحد، فإن حظوظ التباعد والافتراق تبدو أعلى بكثير من إمكانات الانضمام واللقاء!

font change