الشرق الأوسط ساحة لتداعيات الاضطراب الأميركي- الأوروبي

بعد تركيز دول "القارة العجوز" على القوة العسكرية بدلا من "القوة الناعمة"

سارة بادوفان
سارة بادوفان

الشرق الأوسط ساحة لتداعيات الاضطراب الأميركي- الأوروبي

واشنطن - يُسرّع الاضطراب في العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة من وتيرة التغيرات في السياسات العسكرية والاقتصادية الأوروبية، وهي تغيرات من شأنها أن تبدأ بالتأثير على علاقات أوروبا مع جيرانها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتعيد الدول الأوروبية تركيزها على القوة العسكرية بوصفها أداة جيوسياسية تهدف إلى تقليص اعتمادها على الولايات المتحدة، غير أن بناء قاعدة صناعية عسكرية متقدمة، وتصنيع أسلحة عالية الجودة، وتعبئة وتدريب جيوش أكبر حجما، سيحتاج إلى وقت.

وفي مستهل هذه المرحلة من التحول الجيوستراتيجي، تواجه أوروبا صعوبات في تعزيز نفوذها الناعم في الشرق الأوسط، خصوصا في ظل انخفاض ميزانيات المساعدات الاقتصادية. وستحتاج العواصم الأوروبية، أكثر من أي وقت مضى، إلى بناء شراكات جديدة، لا سيما مع دول الخليج، وإلى تحديد أولوياتها الاستراتيجية بشكل واضح ومحدد.

إيران

تتفق واشنطن والدول الأوروبية الرئيسة على ضرورة منع إيران من امتلاك سلاح نووي، وتعتبر العقوبات أداة ضغط أساسية لتحقيق هذا الهدف. إلا أن تحسن العلاقات بين واشنطن وموسكو، واحتمال أن تضطلع موسكو، التي تُعد تهديدا مباشرا للأمن الأوروبي، بدور الوسيط مع طهران، يثير قلقا لدى عدد من المحللين الأوروبيين. فقد زوّدت إيران روسيا بآلاف الطائرات المسيّرة التي استخدمتها في استهداف الأراضي الأوكرانية، وساهمت في تطوير برنامج الطائرات المسيّرة الروسي، ما يُعمّق الريبة الأوروبية، كما في واشنطن، إزاء أي اتفاقات وسطية قد تُبرم عبر موسكو.

سيحد خفض المساعدات الاقتصادية من قدرة أوروبا على تعزيز قوتها الناعمة في الشرق الأوسط، في ظل الانسحاب الأميركي المتزايد من المنطقة، إلا أن هناك مسارات بديلة يمكن لأوروبا من خلالها توسيع حضورها

الأوروبية إلى التأثير في أي اتفاق قد يُبرم بين واشنطن وموسكو وطهران. ومن المرجّح أن تنسّق الدول الأوروبية عن كثب مع دول الخليج ذات النفوذ، مثل السعودية والإمارات، التي تشاركها الهدف نفسه بمنع إيران من امتلاك سلاح نووي. ومع ذلك، فإن انخراط أوروبا في أي عمل عسكري أميركي أو إسرائيلي ضد إيران يبدو غير مرجح، إذ لا ترغب العواصم الأوروبية في إثارة مشاكل إضافية مع إدارة ترمب، خاصة في ظل اعتمادها المستمر على دعمه في ملف أوكرانيا. ولهذا، من المرجح أن تكون الانتقادات الأوروبية لأي ضربة أميركية ضد إيران محدودة النبرة والتأثير.

الميزانيات والقوة الناعمة

الأهم من ذلك أن التهديد المتزايد من جانب روسيا يدفع معظم الدول الأوروبية إلى رفع ميزانياتها العسكرية، ما يؤدي في المقابل إلى تقليص ميزانيات المساعدات الاقتصادية الخارجية. وقدرت مؤسسة "بروغل" البحثية الاقتصادية في بروكسل، في فبراير/شباط، أن تحقيق الهدف الذي أعلنته رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، برفع الإنفاق العسكري الأوروبي إلى نحو 3.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، سيتطلب 250 مليار يورو سنويا. (وللمقارنة، من المتوقع أن تبلغ ميزانية الدفاع الفرنسية لعام 2025 نحو 51 مليار يورو، بينما بلغت ميزانية الدفاع الألمانية في عام 2024 ما يقارب 82 مليار يورو، مع خطط لزيادتها بشكل كبير في عام 2025).

وفي موازاة ذلك، شرعت العواصم الأوروبية في تقليص المساعدات التنموية. فقد أعلن رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، أمام البرلمان في فبراير/شباط، أن حكومته ستخفض المساعدات الخارجية بأكثر من 13 مليار جنيه إسترليني (نحو 16 مليار يورو)، لتمويل زيادة مماثلة في الإنفاق الدفاعي. كما دعا وزير الدفاع الفرنسي، في مارس/آذار، إلى زيادة قدرها 40 مليار يورو في ميزانية الدفاع خلال السنوات المقبلة، في وقت كانت فيه باريس قد خفّضت بالفعل مساعداتها الخارجية بأكثر من الثلث لتصل إلى 3.8 مليار يورو في عام 2025. أما ألمانيا وهولندا، فقد قلصتا أيضا ميزانيات المساعدات الخارجية بشكل حاد خلال العامين الماضيين. وتأتي هذه التخفيضات الأوروبية إضافة إلى التقليصات الكبيرة التي نفذتها الولايات المتحدة في مجال مساعداتها الخارجية.

وسيحد خفض المساعدات الاقتصادية من قدرة أوروبا على تعزيز قوتها الناعمة في الشرق الأوسط، في ظل الانسحاب الأميركي المتزايد من المنطقة، إلا أن هناك مسارات بديلة يمكن لأوروبا من خلالها توسيع حضورها. فقد اعتمدت أوروبا، على مدار العقود الماضية، بشكل كبير على قدراتها المالية لكسب النفوذ. ففي فبراير/شباط 2024، وقّع الاتحاد الأوروبي اتفاقا مع مصر يشمل نحو 7 مليارات يورو من المساعدات والاستثمارات موزعة على مدى ثلاث سنوات. ووفقا للإحصاءات الرسمية، فقد تلقت الأردن نحو 4 مليارات يورو من الاتحاد الأوروبي منذ عام 2011، كما اتفق الجانبان على حزمة مساعدات واستثمارات جديدة بقيمة 3 مليارات يورو للفترة الممتدة بين 2025 و2027. وبالمثل، حصل لبنان على نحو 3.5 مليار يورو من المساعدات الأوروبية منذ عام 2011.

تحتاج سوريا في السنوات المقبلة إلى مساعدات اقتصادية ضخمة. حيث قدر البنك الدولي في عام 2022 أن تكلفة إعادة الإعمار لا تقل عن 250 مليار دولار

ومع تصاعد الضغوط على الميزانيات الأوروبية خلال السنوات المقبلة بسبب الإنفاق العسكري المتزايد لردع روسيا، إلى جانب متطلبات البرامج الاجتماعية الداخلية ذات الحساسية السياسية، سيصبح من الصعب تبرير الإبقاء على مستويات مرتفعة من الدعم لدول مثل مصر والأردن ولبنان. ويزداد هذا التحدي تعقيدا في ظل استمرار الدول الأوروبية في تمويل برامج مساعدات تنموية في كل من أفريقيا وآسيا.

ومع انحسار تدفق المساعدات الغربية إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من المرجح أن تزداد أهمية الدعم القادم من دول الخليج وتركيا وحتى الصين. ومع ذلك، لا تقتصر القوة الناعمة على الدعم المالي فقط؛ ففي ظل تراجع الإقبال على الدراسة في الولايات المتحدة، يمكن لأوروبا أن تواصل استقطاب الطلاب إلى جامعاتها وبناء جسور مع الجيل القادم. وعلاوة على ذلك، ومع تراجع الاهتمام الأميركي بالمنطقة، ستجد الدول الأوروبية والإقليمية نفسها أمام حاجة متزايدة للتنسيق فيما بينها وإدارة النزاعات الإقليمية. وسيتاح لها هامش أوسع للتحرك في هذا الإطار دون تدخل مباشر من الولايات المتحدة، لا سيما في النزاعات التي لا ترتبط بإسرائيل بشكل مباشر.

سارة بادوفان

سوريا: تباين بين أوروبا والولايات المتحدة

وبشكل مماثل، تحتاج سوريا في السنوات المقبلة إلى مساعدات اقتصادية ضخمة. حيث قدر البنك الدولي في عام 2022 أن تكلفة إعادة الإعمار لا تقل عن 250 مليار دولار (ما يعادل 230 مليار يورو على الأقل)، ومن المرجح أن تكون التكلفة الفعلية اليوم أعلى بكثير. وفي مؤتمر بروكسل التاسع للمانحين من أجل سوريا، الذي عقد في مارس/آذار 2025، تعهدت الدول الأوروبية بتقديم نحو 5.8 مليار يورو، وهو تقريبا نفس المبلغ الذي جرى التعهد به في مؤتمر مارس/آذار 2024.

ويعكس الحفاظ على هذا المستوى المرتفع من الدعم- رغم التخفيضات العالمية في ميزانيات المساعدات- مدى الأهمية التي توليها أوروبا للملف السوري. وتسعى حكومات أوروبية كبرى، إلى جانب الاتحاد الأوروبي، إلى تحقيق الاستقرار وإعادة إعمار سوريا، جزئيا لتفادي موجة جديدة من اللاجئين السوريين نحو أراضيها. وفي هذا السياق، قامت وزيرة الخارجية الألمانية بزيارة ثانية إلى دمشق في مارس/آذار، وأعلنت عن حزمة مساعدات جديدة بقيمة 300 مليون يورو لدعم جهود إعادة الإعمار.

قد تربط إدارة ترمب تحسين علاقاتها مع دمشق بموافقة الأخيرة على الانضمام إلى "اتفاقات أبراهام". ومن المرجح أن يمارس ترمب ضغوطا على دمشق لتطبيع العلاقات مع إسرائيل قبل الإعفاء الكامل من العقوبات

وبالتوازي، علق كل من الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة في فبراير/شباط العقوبات المفروضة على شركات سورية محددة تعمل في قطاعي الطاقة والنقل، إضافة إلى خمسة مصارف تجارية سورية، وذلك في خطوة تهدف إلى دعم الشركات الحكومية والقطاع الخاص في البلاد.

في المقابل، لا يُبدي الرئيس الأميركي دونالد ترمب اهتماما يُذكر بالملف السوري، إذ غرّد عقب سقوط الأسد في ديسمبر/كانون الأول الماضي قائلا إن "سوريا ليست مشكلة أميركا". ويعتقد عدد كبير من المحللين في واشنطن أن إدارة ترمب ستسحب القوات الأميركية من شرق سوريا خلال السنوات القليلة المقبلة، كجزء من استراتيجية أوسع تركز على مواجهة التهديدات في آسيا.

وعلى خلاف الموقف الأوروبي، لم تُخفف إدارة ترمب العقوبات المفروضة على سوريا، باستثناء بعض الخطوات المحدودة التي اتخذتها إدارة بايدن في منتصف يناير/كانون الثاني. كما امتنعت عن تقديم أي تعهدات جديدة بالمساعدات خلال مؤتمر بروكسل للمانحين. وصرحت مسؤولة أميركية بارزة خلال المؤتمر بأن الإدارة لا تزال تشكك في استعداد الحكومة السورية للتخلي عن "التطرف العنيف" و"انتهاك حقوق الإنسان"، مؤكدة أن "أي قدر من المساعدات الخارجية أو تخفيف العقوبات لن يكون كافيا" لجذب الاستثمارات الضرورية لإعادة الإعمار.

وفي حين أعادت ألمانيا فتح سفارتها في دمشق بطاقم دبلوماسي محدود، لم تُبدِ إدارة ترمب حتى الآن أي استعداد للجلوس مع الحكومة السورية لبحث مستقبل العلاقات الثنائية.

ومن اللافت أن المبعوث الخاص للرئيس ترمب إلى الشرق الأوسط، ستيفن ويتكوف، صرح في فبراير/شباط أمام منظمة يهودية أميركية بأن سوريا ولبنان قد تُقدمان في نهاية المطاف على توقيع اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل. ووفقا لمصادر مطلعة في واشنطن، قد تربط إدارة ترمب تحسين علاقاتها مع دمشق بموافقة الأخيرة على الانضمام إلى "اتفاقات أبراهام". ومن المرجح أن تمارس إدارة ترمب ضغوطا على دمشق لتطبيع العلاقات مع إسرائيل قبل منحها إعفاء كاملا من العقوبات.

أما الدول الأوروبية، فلم تُصدر أي إشارات مماثلة بخصوص تطبيع سوريا مع إسرائيل، وإن كانت لا تعارض هذا المسار في حال قررت دمشق السير فيه.

من غير المرجح أن تُبدي إدارة ترمب أو الحزب الجمهوري، وحتى جزء كبير من قيادة الحزب الديمقراطي، أي استعداد لتمويل إعادة إعمار غزة

أوروبا وغزة وإسرائيل

ينصبّ التركيز الأوروبي تجاه إسرائيل حاليا على الحرب في غزة وإعادة إعمار القطاع بعد توقف القتال. وقد رفضت الدول الأوروبية مقترح ترمب الذي يدعو إلى ترحيل الفلسطينيين من غزة وتسليم إدارتها إلى الولايات المتحدة ومستثمرين من القطاع الخاص. كما أكدت حكومات فرنسا وألمانيا وإيطاليا أن هذه الفكرة تتجاهل القانون الدولي وتُعيق الوصول إلى حل الدولتين.

وفي أعقاب انتقاداتهم لخطة ترمب في فبراير/شباط، أعلن وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة دعمهم للخطة المصرية التي أقرها القادة العرب في مارس/آذار. وإذا ما جرى تنفيذ هذه الخطة، فمن المتوقع أن تساهم الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي في تمويلها، انسجاما مع السياسة الأوروبية الرامية إلى استقرار غزة وإعادتها إلى السلطة الفلسطينية.

وتُظهر السياسات الأوروبية ميلا واضحا نحو دعم إعادة الإعمار في غزة، إلا أن القيود المتزايدة على الميزانيات ستدفع العواصم الأوروبية إلى إعادة ترتيب أولوياتها بين ملفات عدة، منها سوريا، ومصر، والأردن، ولبنان، وغزة. ومن المرجح أن تضع بعض الدول الأوروبية أولويات خاصة بها، فقد تختار دول معينة توجيه مساعداتها إلى بلدان يمكن أن تُسهم فيها هذه المساعدات في تقليل تدفقات الهجرة من الجنوب إلى الشمال. في المقابل، قد تتبع دول أوروبية أخرى خيارات القوى السياسية المحلية، فتُفضل، على سبيل المثال، دعم الفلسطينيين أو سوريا أو لبنان، بحسب توجهات الرأي العام الداخلي وظروف كل دولة.

في المقابل، من غير المرجح أن تُبدي إدارة ترمب أو الحزب الجمهوري، وحتى جزء كبير من قيادة الحزب الديمقراطي، أي استعداد لتمويل إعادة إعمار غزة. كما سيكون من شبه المستحيل تمرير هذا التمويل سياسيا في واشنطن إذا اعترضت عليه إسرائيل قبل انتخابات عام 2028. ونتيجة لذلك، يُتوقع أن تتحمل دول الخليج القسم الأكبر من تمويل خطة إعادة الإعمار العربية، والتي تُقدّر قيمتها بـ53 مليار دولار.

من المرجح أن تدفع الضغوط المالية المتزايدة، بعض العواصم الأوروبية إلى التجاوب بشكل أقل مع الاعتراضات التي قد تطرحها إسرائيل أو الولايات المتحدة حيال بيع الأسلحة إلى الدول العربية

إسرائيل

لن تتغير المواقف الأوروبية تجاه إسرائيل بشكل مباشر نتيجة التوتر القائم في العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة، إلا أن مؤشرات توتر مستقبلي بين أوروبا وتل أبيب باتت واضحة. فلكل دولة أوروبية علاقتها الثنائية الخاصة بإسرائيل، والتي تتأثر بعوامل عدة، منها التاريخ والسياسات الداخلية والأولويات الاستراتيجية. فعلى سبيل المثال، تُعد إسبانيا وأيرلندا، نظرا لبعدهما الجغرافي عن المشرق، من بين أكثر الدول الأوروبية انتقادا لإسرائيل.

ومن اللافت أن كبار القادة السياسيين في الحزبين الأميركيين بدأوا يبتعدون تدريجيا حتى عن المجاهرة بدعم حل الدولتين. وفي هذا السياق السياسي، يُرجَّح أن تعترف واشنطن بضم إسرائيل لأجزاء من غزة والضفة الغربية، في حين لا تزال العواصم الأوروبية، على الأقل في خطابها العلني، متمسكة بحل الدولتين، وستعمد إلى انتقاد أي عملية ضم تنفذها إسرائيل.

ومن السهل تخيل تصاعد الدعوات داخل بعض الأوساط الأوروبية إلى فرض إجراءات اقتصادية ضد إسرائيل. وإلى جانب ذلك، وعلى المدى المتوسط، من المتوقع أن تسعى أوروبا، مع تزايد إنتاجها من الأسلحة والمعدات العسكرية عالية الجودة، إلى تسويق هذه المنتجات في دول الشرق الأوسط لتحقيق وفورات الحجم في خطوط الإنتاج، على غرار ما تفعله واشنطن من خلال بيع طائرات "إف - 35" لعدد من الدول.

ومن المرجح أن تدفع الضغوط المالية المتزايدة، خصوصا في النصف الثاني من هذا العقد، بعض العواصم الأوروبية إلى التجاوب بشكل أقل مع الاعتراضات التي قد تطرحها إسرائيل أو الولايات المتحدة حيال صفقات بيع الأسلحة إلى الدول العربية، ما قد يشكل بؤرة توتر جديدة في العلاقات بين الجانبين.

font change