لماذا لن تنجح استراتيجية "كيسنجرية معكوسة" ضد الصين؟

ترمب الثاني" يريد عزل الصين والتقارب مع روسيا

جوليان د. بولسن
جوليان د. بولسن

لماذا لن تنجح استراتيجية "كيسنجرية معكوسة" ضد الصين؟

يشهد المشهد الجيوسياسي العالمي تحولا سريعا وعميقا، مع إعادة تشكيل العلاقات بين القوى النووية الثلاث الكبرى في العالم: الولايات المتحدة وروسيا والصين.

كانت إدارة جو بايدن تتبع إلى حد كبير استراتيجية احتواء مزدوجة تجاه كل من الصين وروسيا. ثم جاء دونالد ترمب. وعلى عكس فترته الأولى، التي انتهج خلالها نهجا متقلبا من الانخراط الاستراتيجي مع موسكو وبكين، فإن رؤيته لولايته الثانية تعتمد على عزل الصين استراتيجيا بالتوازي مع التقارب الجيوسياسي مع روسيا.

هذه الاستراتيجية هي نقيض السابقة التاريخية التي وضعها ريتشارد نيكسون وهنري كيسنجر في السبعينات، حين سعت الولايات المتحدة إلى استمالة الصين الشيوعية لعزل خصمها في الحرب الباردة، الاتحاد السوفياتي. أما اليوم، فيسعى ترمب إلى عكس هذا المنطق، في استراتيجية أطلق عليها البعض "كيسنجرية معكوسة".

إلا أن هذه الفرضية خاطئة؛ فالعالم اليوم مختلف جذريا عن ثنائية الحرب الباردة، ولم تعد الظروف التي مكّنت نيكسون وكيسنجر من دق إسفين بين الصين والاتحاد السوفياتي قائمة، مما يجعل تكرار تلك المناورة محكوما بالفشل.

من حلفاء شيوعيين إلى خصوم في الحرب الباردة

لقد تميزت العلاقة بين الصين وروسيا على الدوام بمزيج متقلب من التوافق الأيديولوجي، والريبة الاستراتيجية، والتعاون البرغماتي. في أعقاب الحرب الأهلية الصينية، تحالفت الصين الشيوعية بزعامة ماو تسي تونغ مع الاتحاد السوفياتي، معتقدة أن الرؤية الماركسية- اللينينية المشتركة بينهما ستضمن استمرار تحالفهما. وبدا أن معاهدة الصداقة الصينية- السوفياتية لعام 1950 قد عززت هذا الخيار. بيد أن الخلافات الأيديولوجية سرعان ما فرّقت بين الحليفين. وبحلول أوائل الستينات، تفاقمت الخلافات بسبب حملة الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف لإزالة آثار الستالينية من البلاد، من جانب، وتطرف ماو نفسه، من جانب آخر، إلى الانقسام الصيني- السوفياتي. وما إن حل عام 1969، حتى وجد الطرفان نفسيهما ينخرطان في اشتباكات حدودية عنيفة على طول نهر أوسوري، كادت أن تتسبب في أزمة نووية. وهكذا وجدت بكين نفسها في تحالف ضمني مع واشنطن ضد موسكو.

المنطق وراء تقارب ترمب مع روسيا واضح، فإنهاء الحرب في أوكرانيا يمنحه انتصارا دبلوماسيا، وفي الوقت نفسه، يتيح له محاولة إحداث شرخ بين موسكو وبكين

وبالانتقال سريعا إلى تسعينات القرن العشرين، شكّل تفكك الاتحاد السوفياتي فرصة وتحديا للصين في آن معا. فروسيا المستقلة حديثا، التي كانت تعاني من الانهيار الاقتصادي وعدم الاستقرار السياسي، تطلعت في البداية إلى الغرب، ساعية إلى الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) والانضمام إلى مجموعة الدول السبع الكبرى. وفي الوقت نفسه، كانت الصين، في ظل الإصلاحات البرغماتية التي قام بها دينغ شياو بينغ، تبرز بسرعة كقوة اقتصادية. وبحلول أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان العالم الأحادي القطب الذي تضع الولايات المتحدة حدوده قد جعل كلا البلدين أقرب إلى المدار الاقتصادي الأميركي.
على أن الصين وروسيا كانتا تعتبران نفسيهما، على الرغم من هذه التحولات، قوتين عالميتين عظميين، لكنهما استُبعدتا من صياغة النظام العالمي بعد الحرب الباردة، وهو ما عزز تقاربهما الاستراتيجي اليوم.

مناورة ترمب في أوكرانيا ومساعيه للتقارب مع روسيا


من المفارقات أن يشترك الرئيس ترمب في رؤية جوهرية مع كل من شي جينبينغ وفلاديمير بوتين، بتفكيك النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة. فزعيم ما يُعرف بـ"العالم الحر" يُفترض به أن يتحمل أعباء اقتصادية وعسكرية كبيرة، وهو ما لا يجده ترمب أمرا جذابا.
تتمثل إحدى طموحات ترمب الجيوسياسية الرئيسة في إمكان التوسط لإنهاء الحرب في أوكرانيا، وهو هدف يسعى لتحقيقه من خلال وقف الدعم العسكري الأميركي لكييف، وإجبار الحلفاء عبر الأطلسي على قبول وقف فوري لإطلاق النار. وكان ترمب، خلال ولايته الأولى، يحرص على الحفاظ على علاقة ودية مع بوتين، وكثيرا ما شكك في جدوى التزامات الدفاع الأميركية تجاه "الناتو". ومن الطبيعي، وقد عاد اليوم إلى البيت الأبيض، أن يسعى إلى وقف إطلاق النار، بشروط تصب استراتيجيا في مصلحة موسكو.
المنطق وراء تقارب ترمب مع روسيا واضح، فإنهاء الحرب في أوكرانيا يمنحه انتصارا دبلوماسيا، وفي الوقت نفسه، يتيح له محاولة إحداث شرخ بين موسكو وبكين. ويعتقد ترمب أن تخفيف العقوبات الغربية ووقف توسع "الناتو" شرقا قد يدفع روسيا إلى تقليص اعتمادها على الصين.

في حالة قيام الولايات المتحدة بإغلاق مضيق ملقا، الذي يتدفق عبره أكثر من 70 في المئة من الطاقة الصينية، فإن روسيا ستكون المورد الوحيد للطاقة إلى الصين. ولذا فإن حفاظ الصين على علاقة قوية مع روسيا أمر وجودي

ولكنّ لترمب هدفا آخر وهو الحصول على دعم بوتين لإعادة إيران إلى طاولة المفاوضات بشأن برنامجها النووي. فمن خلال عرض تخفيف العقوبات وإعادة دمج إيران في الاقتصاد العالمي، بعد التوصل إلى اتفاق نووي جديد، يأمل في إخراج طهران من الفلك الجيوسياسي الصيني، ما قد يهيئ أرضية أكثر برغماتية لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط.
ومع ذلك، فإن إمكانية نجاح مثل هذا التحول الاستراتيجي تبقى موضع شك كبير، لأن اعتماد روسيا على الصين قد تضاعف في السنوات الأخيرة في مجالي التجارة والتكنولوجيا للالتفاف على العقوبات الغربية، وتجاوز حجم التجارة الثنائية بين البلدين - منذ عام 2023 - 200 مليار دولار، مدفوع بصادرات الطاقة الروسية واستيراد التكنولوجيا الصينية. وتؤكد هذه التبعية الاقتصادية المتنامية أن أي محاولة لإعادة روسيا إلى المعسكر الغربي غير واقعية، في هذه المرحلة، فقد جاءت متأخرة جدا وهي أضعف من أن تستطيع تحقيق أي اختراق حقيقي.

هل ستنجح الاستراتيجية "الكيسنجرية المعكوسة"؟
سعت الاستراتيجية "الكيسنجرية" الأصلية إلى استغلال الانقسام الصيني- السوفياتي والعداء العميق لاحتواء الاتحاد السوفياتي. وبحلول عام 1970، كانت العلاقة بين الصين والاتحاد السوفياتي في الحضيض. فقد اندلعت اشتباكات مسلحة على نهر أوسوري في عام 1969، كما أن الصدامات الأيديولوجية العميقة داخل الكتلة الشيوعية جعلت المصالحة غير محتملة. واستفاد نيكسون وكيسنجر من هذا الانقسام، ودبّرا  الانفتاح التاريخي للصين على الغرب لموازنة القوة السوفياتية.
أما اليوم، فالوضع مختلف بشكل ملحوظ. فالصين وروسيا، على الرغم من أنهما ليستا حليفتين رسميتين، فإنهما تتشاركان شراكة استراتيجية عميقة يدعمها الاعتماد الاقتصادي المتبادل والمعارضة المشتركة للهيمنة الأميركية. وعلى عكس ما كان عليه الحال في عام 1970، عندما كانت الصين تخشى التطويق العسكري السوفياتي وعزلة الكتلة الشيوعية، فإن روسيا اليوم ترى الصين شريكا اقتصاديا وداعما جيوسياسيا لا غنى عنه.
وفي حالة قيام الولايات المتحدة بإغلاق مضيق ملقا، الذي يتدفق عبره أكثر من 70 في المئة من الطاقة الصينية، فإن روسيا ستكون المورد الوحيد الموثوق به للطاقة إلى الصين. ولذا فإن حفاظ الصين على علاقة قوية مع روسيا أمر وجودي.
اليوم، تقف الصين وروسيا في قلب نظام عالمي ناشئ يسعى إلى تقويض النفوذ الأميركي، ويشكل البلدان المحور الأساسي لكل من "منظمة شنغهاي للتعاون" (SCO)، وهي تحالف أمني أوروآسيوي، ومجموعة "بريكس+" (+BRICS)، التي تضم قوى اقتصادية رئيسة من الجنوب العالمي.

كان الانقسام الصيني-السوفياتي مدفوعا بالانقسامات الأيديولوجية والاستراتيجية، وترسخ الانقسام عندما قطع الاتحاد السوفياتي الدعم التكنولوجي والعسكري عن بكين. ولم يكن أمام الصين خيار سوى البحث عن راعٍ جديد، فانتهزت الولايات المتحدة الفرصة السانحة

ومع ذلك، يصر فريق ترمب على أن بإمكانه إعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي بحيث يتم إغراء روسيا بالعودة إلى المنظومة الغربية، مما يدفعها للابتعاد عن الصين. غير أن هذا الافتراض يستخف بعمق الروابط الصينية-الروسية. فمن التدريبات العسكرية  المشتركة إلى التعاون في الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات، بنت بكين وموسكو علاقة تتجاوز بكثير مجرد المصالح الظرفية.
ويبقى سؤال أساسي: هل ستنجح جهود ترمب في إبعاد الصين وروسيا عن بعضهما البعض؟ تشير عدة عوامل إلى أن مثل هذه الاستراتيجية تواجه عقبات كبيرة، بينها:
-    التكامل الاقتصادي العميق: خلال الحرب الباردة، كانت الصين والاتحاد السوفياتي معزولين اقتصاديا وعدائيين بشدة، لدرجة أن موسكو فكرت في شن هجوم نووي على بكين في ذروة نزاعاتهما الحدودية. أما اليوم، فاقتصاداهما متكاملان إلى حد كبير، حيث تزود روسيا الصين بالمواد الخام والطاقة التي تحتاجها، بينما توفر الصين لروسيا التكنولوجيا ورأس المال الذي تفتقر إليهما.
-    معارضة موحدة للهيمنة الأميركية: ترى بكين وموسكو في الولايات المتحدة قوة عظمى متراجعة تعتمد على تفوقها العسكري، وهيمنة الدولار، وسيطرتها على المؤسسات الدولية، وكلها أدوات يعتبرانها مسيسة ومسلحة. هذا التصور عزز تصميمهما على التعاون في بناء هياكل بديلة للسلطة العالمية.
-    انعدام ثقة روسيا العميق بالغرب: حتى لو عرض ترمب على بوتين تقاربا، فلن يكون لدى موسكو سبب وجيه للوثوق بأي مصالحة غربية. فقد أدى انهيار اتفاقيات الحد من التسلح السابقة واستمرار توسع "الناتو" شرقا إلى تعميق شكوك روسيا تجاه العروض الغربية. كما أن العقوبات المالية الغربية أثبتت أنها سلاح سياسي يمكن استخدامه مجددا، سواء ضد روسيا أو الصين. والأهم من ذلك، فإن أي اتفاق يعقده ترمب قد يتم التراجع عنه فور وصول إدارة أميركية أكثر ميلا للحلفاء إلى السلطة.
-    الحسابات الاستراتيجية طويلة المدى للصين: ليس لدى بكين مصلحة في رؤية روسيا ضعيفة. فروسيا الضعيفة تعني تعزيز قوة "الناتو" وزيادة النفوذ الغربي في آسيا الوسطى، وهو سيناريو تسعى الصين إلى تفاديه بأي ثمن. إذ إن أي ميول لحكومات آسيا الوسطى نحو الغرب سيجلب نفوذ "الناتو" إلى الحدود الغربية للصين، وهو خط أحمر بالنسبة لبكين. لذلك، فإن المصالح الاستراتيجية طويلة المدى للصين تقتضي بقاء روسيا قوية ومستقرة، لا ضعيفة ومنعزلة.
 


ما الذي أغفلته "الكيسنجرية المعكوسة"؟ 

 

أولا: روسيا ليست معزولة كما كانت الصين في عام 1970
كان العامل الرئيس في نجاح كيسنجر هو عزلة الصين الجيوسياسية العميقة في السبعينات. في ذلك الوقت، لم يكن لدى بكين أي تحالفات رسمية، وكانت معزولة عن التجارة الغربية، وكانت لا تزال تتعافى من الدمار الذي فرضته على نفسها بسبب الثورة الثقافية. وكانت يائسة من الانفتاح على العالم يأسا جعلها مستعدة لقبول العرض الأميركي، حتى لو كان ذلك على حساب الانفصال عن الكتلة الشيوعية التي كان يقودها الاتحاد السوفياتي.
وعلى النقيض من ذلك، فإن روسيا اليوم ليست يائسة بنفس القدر، فمع أنها تضررت بالفعل من العقوبات الغربية في أعقاب غزو أوكرانيا، فإنها لا تزال مندمجة بعمق في النظام العالمي من خلال علاقات ثنائية قوية مع اللاعبين الرئيسين في الجنوب العالمي. ولا تزال الهند شريكا ملتزما في تجارة متنامية في المجالات العسكرية وتجارة الطاقة. ويرى الشرق الأوسط في موسكو لاعبا ضروريا في تشكيل السياسة النفطية، وترى الدول الأفريقية استمرار الارتباطات الأمنية الروسية.
ومن الناحية الدبلوماسية، وعلى عكس الصين الشيوعية خلال الحرب الباردة، التي واجهت عزلة شبه تامة متعددة الأطراف، لا تزال روسيا جزءا لا يتجزأ من محافل عالمية متعددة، سواء في إطار الأمم المتحدة بما في ذلك مجلس الأمن ومجموعة العشرين والتجمعات العالمية الناشئة. وهذا يعني أن موسكو ليست في حاجة ماسة إلى تقارب مع الولايات المتحدة بالطريقة التي كانت الصين تحتاجها في عام 1970، مما يجعلها أقل عرضة لاستراتيجية "كيسنجر المعكوسة".

ثانيا: لم تعزل الصين روسيا... ولن تفعل ذلك


كان الانقسام الصيني- السوفياتي مدفوعا بالانقسامات الأيديولوجية والاستراتيجية، ففي أواخر الخمسينات، كان خروتشوف وماو تسي تونغ منخرطين في عداء متصاعد حول العقيدة الماركسية والاستراتيجية النووية وتعالي الاتحاد السوفياتي المتصور تجاه الصين. وترسخ الانقسام عندما قطع الاتحاد السوفياتي الدعم التكنولوجي والعسكري عن بكين. ومنذ تلك اللحظة، لم يكن أمام الصين خيار سوى البحث عن راعٍ جديد، فانتهزت الولايات المتحدة الفرصة السانحة.

ربما يكمن الخلل الأساسي في استراتيجية "الكيسنجرية المعكوسة" في افتراضها القديم بأن العالم لا يزال ساحة صراع ثنائية بين قوتين عظميين

اليوم، تختلف العلاقة بين الصين وروسيا اختلافا جوهريا. فبكين ليست الشريك الاقتصادي الأكبر لموسكو فحسب، بل هي أيضا الداعم المالي لها في أوقات الأزمات. فمنذ الحرب الأوكرانية، كانت الصين بمثابة شريان الحياة الاقتصادية لروسيا، وكانت الضامن لاستمرار التجارة على الرغم من العقوبات الغربية. وعلى عكس الحرب الباردة، عندما انقلب الاتحاد السوفياتي على الصين، لم تنقلب بكين على موسكو، بل ضاعفت من التعاون الاستراتيجي، وتقاسم التكنولوجيا، وتعميق العلاقات التجارية، وتزويد روسيا بنظام اقتصادي بديل خارج النظام المالي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة.

جوليان د. بولسن

وفي المقابل، ليس لدى روسيا أي حافز للانفصال عن الصين. وإذا كان ثمة من شيء، فهو إدراك موسكو أن بقاءها على المدى الطويل رهن بالحفاظ على شراكتها مع جارتها القريبة، بكين. ولئن كانت سترحب بالتأكيد بتقارب واشنطن معها، فإنها لم تعد تلهث وراء انفراج غير موثوق به مع واشنطن.

ثالثا: لن تثق روسيا أبدا في نظام عالمي تقوده الولايات المتحدة
الافتراض المركزي لاستراتيجية "الكيسنجرية المعكوسة" هو أنه يمكن إغراء روسيا بالعودة إلى النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة مع تقديم حوافز مناسبة. ويعتقد معسكر ترمب أنه إذا رفعت عن روسيا العقوبات النفطية ومكّنت البنوك الروسية من العودة إلى نظام سويفت، فقد يؤدي ذلك إلى تنفير الصين.
هذا الافتراض ساذج. فمن منظور موسكو، أثبت نظام العقوبات المفروضة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا أن المنظومة المالية التي يقودها الغرب مسيّسة وغير موثوقة بطبيعتها. حتى لو قامت واشنطن برفع العقوبات غدا، فإن صناع القرار في روسيا يدركون تماما أن هذه الإجراءات يمكن إعادة فرضها في أي وقت. فأي تحول مفاجئ في السياسة الأميركية- سواء تحت إدارة جديدة أو نتيجة تغيرات في الكونغرس- قد يعيد شل الاقتصاد الروسي بضربة واحدة.
وبعبارة أخرى، لن تخاطر موسكو بمستقبلها من أجل عرض أميركي تعتبره غير مستقر بطبيعته. وعلى عكس الصين في حقبة الحرب الباردة، التي رأت في الانفتاح الأميركي مخرجا دائما من الهيمنة السوفياتية، تنظر روسيا إلى أي تقارب تعرضه واشنطن عليها كترتيب مؤقت مشروط، يمكن إلغاؤه بمجرد أن تتغير المصالح الأميركية. لهذا السبب، لا يمكن لأي قدر من الحوافز الاقتصادية أن يقنع روسيا بالتخلي عن الصين لصالح نظام عالمي تقوده الولايات المتحدة، وهو نظام لا تثق به موسكو على الإطلاق.

رابعا: العالم متعدد الأقطاب يعني أن روسيا ليست بحاجة إلى الاختيار
ربما يكمن الخلل الأساسي في استراتيجية "الكيسنجرية المعكوسة" في افتراضها القديم بأن العالم لا يزال ساحة صراع ثنائية بين قوتين عظميين، حيث يتعين على روسيا في النهاية "الاختيار" بين الانحياز للولايات المتحدة أو الصين الصاعدة. قد يكون هذا المنطق صحيحا خلال الحرب الباردة، عندما كان النظام العالمي منقسما بشكل صارم بين كتلتين أيديولوجيتين واقتصاديتين متنافستين. لكن اليوم، لم يعد العالم ثنائي القطبية، بل أصبح متعدد الأقطاب.

وهذه هي النقطة الحاسمة. ففي عالم متعدد الأقطاب، لا تحتاج روسيا إلى الانضمام رسميا إلى تحالف تقوده الولايات المتحدة لموازنة نفوذ الصين. بدلا من ذلك، يمكنها أن ترسّخ نفسها كقطب قوة مستقل، مستفيدة من علاقاتها مع الصين، والشرق الأوسط، والهند، وأوروبا، وقوى صاعدة أخرى لتعظيم مصالحها الاستراتيجية.
ورغم تقلباته، يبدو أن ترمب يفهم هذه الحقيقة أكثر من الكثير من الاستراتيجيين الأميركيين التقليديين، الذين لا يزالون عالقين في عقلية الحرب الباردة. وعلى عكسهم، أعرب ترمب مرارا عن شكوكه تجاه فكرة نظام عالمي تقوده الولايات المتحدة. فهو، مثل بوتين وشي جينبينغ، يرى أن النظام الدولي الحالي متقادم ويحتاج إلى إعادة هيكلة جذرية. وفي هذا، تتلاقى أهداف القادة الثلاثة، ليس لاستعادة الهيمنة الأميركية، بل لتفكيك النظام الأحادي القطب بالكامل لصالح نظام عالمي لا مركزي متعدد الأقطاب. وهنا تحديدا تنهار استراتيجية "الكيسنجرية المعكوسة". فالمعادلة الجيوسياسية تغيرت. في السبعينات، نجح نيكسون وكيسنجر لأن الصين احتاجت إلى الولايات المتحدة للتحرر من الهيمنة السوفياتية. أما في عام 2025، فلا تحتاج روسيا إلى الولايات المتحدة لتحرر نفسها من الصين، بل إنها مرتاحة تماما في عالم لا تفرض فيه قوة واحدة قواعد اللعبة. ببساطة، لا توجد حوافز تدفع موسكو إلى التحول نحو واشنطن على حساب بكين، لأن النظام العالمي الجديد لا يتطلب مثل هذه الخيارات الثنائية.

استراتيجية مبنية على سوء قراءة التاريخ


في جوهرها، تقوم "الكيسنجرية المعكوسة" على سوء فهم تاريخي. فرغم أن منطق فصل الصين عن روسيا كان منطقيا في إطار البنية الثنائية الصارمة للحرب الباردة، فإن الواقع متعدد الأقطاب اليوم يجعل مثل هذه المناورة غير قابلة للتنفيذ. فروسيا ليست في حاجة ماسة إلى التقارب مع الولايات المتحدة، والصين لا تزال شريكا موثوقا. بالمقابل، فإن عدم ثقة موسكو العميقة بالنظام الذي يقوده الغرب قمينة بأنها لن تراهن من جديد على حسن نية أميركية غير مضمونة.
والأهم من ذلك، أن النظام الدولي لم يعد قائما على تحالفات جامدة تتطلب ولاء أيديولوجيا واستراتيجيا مطلقا. لقد كانت الدول، خلال حقبة الحرب الباردة، أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما: الانحياز لواشنطن أو لموسكو، أما اليوم، فقد باتت القوى الكبرى تركز بشكل متزايد على تعظيم مصالحها الوطنية من خلال شراكات مرنة وبرغماتية.
على الإدارة الأميركية القادمة– سواء كانت من دعاة "أميركا أولا" أم ذات نهج أكثر تقليدية في السياسة الخارجية– أن تتخلى عن الوهم القائل بإمكانية إعادة إنتاج الماضي. فمحاولة دق إسفين بين الصين وروسيا ليست مجرد خطوة غير عملية، بل هي سوء تقدير جوهري للواقع الجيوسياسي اليوم. وفي لعبة القوى العظمى، نادرا ما تمر مثل هذه الحسابات الخاطئة دون عواقب.

font change

مقالات ذات صلة