تعريفات ترمب الجمركية تخنق "التفاحة" الأميركية

"آبل" في مهب الريح...

رويترز
رويترز
زبائن يمرون أمام شعار شركة آبل داخل متجر آبل في محطة غراند سنترال بنيويورك، الولايات المتحدة.

تعريفات ترمب الجمركية تخنق "التفاحة" الأميركية

في فبراير/شباط الماضي، وقف تيم كوك، الرئيس التنفيذي لشركة "آبل"، مبتسما في البيت الأبيض ومعلنا خطة استثمارية ضخمة بقيمة 500 مليار دولار في الولايات المتحدة خلال السنوات الأربع المقبلة. بجانبه، كان الرئيس الأميركي دونالد ترمب يبتسم بدوره ابتسامة المنتصر، معتبرا هذا الاتفاق تتويجا لسياساته الاقتصادية. لكن الأقدار كانت تخبئ مفاجأة قاسية. فبعد أشهر فقط، تحولت ابتسامة كوك إلى عبوس، والاحتفالات إلى كابوس كبير، بعدما أعلن ترمب التعريفات الجمركية الجديدة التي من شأنها التأثير بشكل كبير على شركة "آبل".

فالرئيس الأميركي أصدر قرار بفرض تعريفات جمركية متفاوتة النسب على عدد من دول العالم. جاء هذا القرار ضمن وعوده الانتخابية التي تهدف إلى جذب الشركات المتعددة الجنسيات والمصانع للعودة إلى الولايات المتحدة، من أجل تعزيز الاقتصاد الأميركي.

إلا أن الواقع العالمي اليوم، الذي يعتمد بشكل كبير على سلاسل الإمداد والتوريد في تصنيع المنتجات، وضع الشركات الأميركية تحت ضغط كبير، بل تحت ضغط أكبر من الضغط الذي تتعرض له نظيراتها الأجنبية، لتعديل خطط الإنتاج وتحويلها إلى داخل الأراضي الأميركية تفاديا لهذه الرسوم الجمركية الجديدة.

على الفور، أثّر القرار على البورصة الأميركية التي لم يكن انهيار أسهم "آبل" بنسبة 9.4% مجرد رقم عابر في شاشات البورصة، بل صفعة قاسية لإحدى أعظم الشركات في التاريخ الحديث.

فهذه الخسارة الفلكية - التي تعادل الناتج المحلي لدولة متوسطة - جاءت كرد فعل عنيف على إعلان فرض تعريفات جمركية بنسبة 54% على الصين و26% على الهند.

فهنا تأتي المفارقة المؤلمة، فنحو 85% من إنتاج "آيفون" يأتي من الصين، و15% من الهند، بينما يباع ثلث هذه الأجهزة في السوق الأميركية.

في 2018 نجحت "آبل" في تفادي تعرفة ترمب بعد نقل الشركة العملاقة جزءا من مصانعها من الصين الى دول أخرى، أما اليوم فالسوق تتصرف كأن الإعفاء المستحيل أصبح ضربا من الخيال، إلى حد القول إن هذه التعريفات قد "تفجر آبل من الداخل"، مع تقدير تكاليف تصل إلى 39.5 مليار دولار.

فالدول التي نقلت إليها "آبل" مصانعها، فُرضت عليها بدورها تعريفات جمركية مرتفعة في معظم هذه الدول. إذ تواجه الهند على سبيل المثل 26%، وفيتنام 46%، وماليزيا 24%، وتايلاند 36%، وأيرلندا 20%.

بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، التي جرت في الخامس من نوفمبر من العام الماضي، بدت ملامح الارتياح واضحة على تيم كوك


وقد أعلن ترمب أن هذه التعريفات ستدخل حيز التنفيذ في التاسع من أبريل/نيسان، وهو ما يضع "آبل" أمام تحدٍ كبير لإعادة هيكلة خططها الإنتاجية بشكل جذري والتوجه نحو التصنيع داخل الولايات المتحدة.

وكالة أسوشيتد برس
المتظاهرون يهتفون بشعارات خلال مسيرة احتجاجية ضد الرئيس دونالد ترامب، يوم السبت 5 أبريل 2025، في نيويورك.

والآن، أصبحت الخيارات أمام "آبل" شبه مستحيلة: فإما ابتلاع التكاليف، مما يعني ضربة قاصمة للأرباح تصل إلى 32٪، وإما رفع الأسعار بنسبة تتجاوز 40٪، وهي مجازفة بفقدان شريحة كبيرة من المستهلكين.

توم كوك ومحاولة إرضاء ترمب

بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، التي جرت في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، بدت ملامح الارتياح واضحة على تيم كوك، الرئيس التنفيذي لشركة "آبل"، الذي حاول – قبل الانتخابات وبعدها – التقرب من دونالد ترمب بكل الطرق الممكنة.

ورغم أن سياسات ترمب تختلف في كثير من الجوانب عن توجهات "آبل"، لا سيما في ما يتعلق بخفض الانبعاثات الكربونية، فإن كوك كان يرى أن إدارة ترمب ستكون أقل قسوة من إدارة بايدن، التي لاحقت الشركة بدعوى احتكار، وهي التهمة نفسها التي وجهتها إلى العديد من شركات التكنولوجيا الأميركية.

ورغم أن جذور القضية تعود إلى عام 2019، عندما كان ترمب في ولايته الأولى، فإن توجه إدارة بايدن هو الذي جعل ترمب يبدو خيارا أفضل أمام "آبل" للهروب من الملاحقات القانونية والتنظيمية المتزايدة.

حضر تيم كوك حفل تنصيب دونالد ترمب في 20 يناير/كانون الثاني، إلى جانب عدد من كبار التنفيذيين في شركات التكنولوجيا الكبرى، مثل "أمازون"، و"غوغل"، و"ميتا"، في محاولة لإعادة بناء العلاقات مع الإدارة الجديدة.

وخلال ولاية ترمب الأولى، التقى كوك الرئيس مرات عدة، وكان ضيفا دائما في البيت الأبيض، على عكس علاقته مع بايدن، حيث لم يظهر الاثنان معا إلا نادرا جدا خلال السنوات الأربع التي أمضاها الرئيس السابق في الحكم.

ونجح كوك خلال تلك الفترة في تجنيب "آبل" أضرار الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب على الصين، مبررا ذلك بأن فرض هذه الرسوم على منتجات "آبل" سيصب في مصلحة المنافسين الأجانب. كما استغل العلاقة الجيدة مع ترمب ليؤكد أهمية بعض منتجات "آبل"، مثل الساعات الذكية، التي تحتوي على تطبيقات صحية تعد مفيدة للمجتمع.

في ولاية ترمب الثانية، لجأ كوك إلى خطاب جديد أكثر توافقا مع أجندة "أميركا أولا" التي يروج لها الرئيس، حيث أعلن استثمارات ضخمة تُقدّر بنحو 500 مليار دولار على مدى السنوات الأربع المقبلة

وقد سعت شركة "آبل" إلى نقل جزء من خطوط إنتاجها خارج الصين إلى عدد من الدول، أبرزها الهند، حيث بدأت بتجميع هواتف "آيفون" هناك، وهو أمر استغرق خمس سنوات لبناء البنية التحتية وتدريب الأيدي العاملة المطلوبة لإنتاج أحدث طرازات "آيفون" داخل البلاد. وتطمح "آبل" أن تتمكن المصانع الهندية من تصنيع ما يقارب ٢٥% من إجمالي ٢٠٠ مليون جهاز "آيفون" تبيعها الشركة سنويا.

وفي إطار استراتيجيا تنويع سلاسل التوريد، بدأت "آبل" أيضا بنقل عمليات تجميع منتجاتها الأخرى مثل"ايباد" و"ماك بوك آير" و"آير بودز" إلى فيتنام، التي باتت اليوم تلعب دورا مهما في سلسلة التوريد العالمية للشركة. وقد أصبحت مصانع فيتنام مسؤولة عن أكثر من 10% من إجمالي أهم 200 مورد تعتمد عليهم "آبل" في عملياتها الإنتاجية.

لكن، ومع الحزمة الجديدة من التعريفات الجمركية التي لا تستهدف الصين وحدها، بل تشمل أيضا دولا تعتمد عليها "آبل" بشكل أساسي في تصنيع وتجميع منتجاتها، تجد الشركة نفسها أمام خيارات اقتصادية صعبة: إما أن تتحمل هذه التكاليف الباهظة، أو أن تمررها إلى المستهلك مباشرة.

حاليا، تبيع "آبل" أكثر من 220 مليون جهاز "آيفون" سنويا. وفي حال تطبيق الزيادات الجمركية، من المتوقع أن يصل سعر أرخص نسخة من "آيفون 16" إلى نحو 1142 دولارا، بعدما كان يباع بسعر 799 دولارا، أي بزيادة تقارب 43%. أما طراز "آيفون 16 برو ماكس"، بسعة تخزين تصل إلى 1 تيرابايت، الذي يباع حاليا بسعر 1599 دولارا، فقد يرتفع سعره ليصل إلى نحو 2300 دولار، في حال تم تحميل المستهلك كامل الأعباء الناتجة من هذه الرسوم.

أما في ولاية ترمب الثانية، فلجأ كوك إلى خطاب جديد أكثر توافقا مع أجندة "أميركا أولا" التي يروج لها الرئيس، فأعلن استثمارات ضخمة تُقدّر بنحو 500 مليار دولار على مدى السنوات الأربع المقبلة، تشمل توفير 20 ألف فرصة عمل، وإنشاء مصنع لإنتاج خوادم "آبل" في مدينة هيوستن، إلى جانب تأسيس أكاديمية للتقنية في ولاية ميشيغان، واستثمارات أخرى تهدف إلى توطين سلاسل الإمداد والتوريد، وتعزيز دور "آبل" في دعم الثورة الأميركية في مجال الذكاء الاصطناعي.

مسمار لا توفره أميركا

في قصة تبدو كاستعارة مثالية لتحديات العولمة، تحول مسمار صغير إلى عقبة كأداء أمام "آبل" في رحلتها لإحياء التصنيع الأميركي.

ففي عام 2012، أعلنت الشركة خططا طموحة لإنتاج جهاز "ماك برو" في ولاية تكساس، ليكون أول منتج رئيس "يُصنع في أميركا" منذ سنوات. لكن الحماسة سرعان ما اصطدمت بواقع مرير: نقص في براغي -مسامير- متخصصة كانت تنتج بسهولة في الصين، بينما عجزت المصانع الأميركية عن تلبية الطلب.

في مواجهة "ثقافة المصانع الصينية"، تظهر الفجوة الجوهرية بين النموذجين الصناعيين ليس فقط في التكلفة، بل في الفلسفة الإنتاجية ذاتها.


وقتذاك، كشف تحقيق لـ"نيويورك تايمز" تفاصيل غريبة. فحين احتاجت "آبل" إلى 28 ألف مسمار لتصنيع ذلك الجهاز، اضطرت شركة "كالدويل" في تكساس إلى إنتاجها بواسطة ماكينات أعيد تشغيلها لهذا الغرض، ثم نقلتها عبر 22 رحلة منفصلة، بعضها تمت بسيارة "لكزس" موديل قديم! وقد أوضح ستيفن ميلو، مالك المصنع، المفارقة: "من الصعب الاستثمار في أميركا لإنتاج مثل هذه المكونات، عندما يمكن شراؤها بثمن بخس من الخارج".

هذه الأزمة الصغيرة عكست مشكلة أعمق تتعلق بضعف البنية التحتية الصناعية في الولايات المتحدة، وغياب القدرة على تلبية متطلبات التصنيع الحديث. كما تواجه البلاد نقصا واضحا في الكفاءات الفنية، لا سيما في مجالات الهندسة والتقنيات الصناعية المتقدمة. وقد عبّر تيم كوك، الرئيس التنفيذي "آبل"، عن هذه الفجوة بقوله: "في الصين يمكننا ملء ملاعب كرة قدم بمهندسي أدوات التصنيع، أما في الولايات المتحدة، فلا يمكننا حتى ملء غرفة واحدة".

في مواجهة "ثقافة المصانع الصينية"، تظهر الفجوة الجوهرية بين النموذجين الصناعيين ليس فقط في التكلفة، بل في الفلسفة الإنتاجية ذاتها.

مفارقة صناعية

فبينما تتحول المصانع الصينية إلى كيانات شبه عسكرية قادرة على العمل على مدار الساعة - حيث يمكن إيقاظ العمال من نومهم لمواكبة الطلبات العاجلة - تقف المنشآت الأميركية مقيدة بقوانين العمل وثقافة الحقوق العمالية.

تتجسد هذه المفارقة في قدرة عملاق مثل "فوكسكون" على تعبئة 50 ألف عامل بين عشية وضحاها، بينما يعاني نظيره الأميركي لتوظيف بضعة عشرات. والأكثر إثارة أن هذه المرونة الصينية ليست مجرد مسألة عمالة رخيصة، بل نظام شمولي متكامل، كما توضح الخبيرة الاقتصادية سوزان هيلبر، التي تقول إن "الصين ليست رخيصة فحسب، بل هي نظام يمكنه حشد 100 ألف شخص للعمل طوال الليل إذا تطلب الأمر"، في مقابل آليات السوق الأميركية البطيئة التي تتحرك بقوانين العرض والطلب التقليدية.

من الناحية الاقتصادية، ورغم محاولات "آبل" تقليل أهمية عامل تكلفة الأجور، إلا أن الفارق بين ما يُدفع في الصين وما يُدفع في الولايات المتحدة لا يمكن التغاضي عنه. فمتوسط أجر العامل في مصانع تجميع "آيفون" في الصين لا يتجاوز 3 دولارات في الساعة، بينما تتضاعف هذه الكتلفة بشكل كبير داخل الولايات المتحدة، مما يجعل من الصعب الحفاظ على الأسعار الحالية دون تحميل المستهلك عبء الفارق.

ما يجري مع "آبل" ليس حالة فردية، بل مؤشر الى اتجاه أوسع نحو تصاعد السياسات الحمائية في الاقتصاد العالمي، التي تتعارض مع مبادئ العولمة التي استفادت منها الشركات الأميركية الكبرى لعقود.

لذلك، فإن فكرة نقل عمليات التصنيع بالكامل إلى الداخل الأميركي ليست مجرد قرار مالي، بل هي خطوة معقدة تتطلب إعادة هيكلة شاملة للنظام الصناعي في البلاد، بما يشمله ذلك من استثمارات طويلة الأمد، وتطوير للبنية التحتية، وتدريب للقوى العاملة. وهو أمر لا يمكن تحقيقه بين عشية وضحاها، بل يحتاج إلى رؤية واضحة وتخطيط استراتيجي يمتد لسنوات.

وكالة فرانس برس
تُعرض ساعات آبل في متجر آبل في 4 أبريل 2025 في نيويورك

وهنا؛ يتضح أن شركة أبل تقف أمام مفترق طرق حاسم في ظل السياسات الحمائية التي تتبناها إدارة ترامب، والتي قد تُغيّر شكل الصناعة التكنولوجية العالمية.

نموذج في مهب الريح

لطالما اعتُبرت شركة "آبل" نموذجًا في إدارة سلاسل الإمداد العالمية، حيث بنت على مدار عقود شبكة مترامية الأطراف من الموردين والمصانع الممتدة من الصين إلى الهند وفيتنام وماليزيا وغيرها من دول جنوب شرق آسيا. وقد برزت في السنوات الأخيرة استراتيجية واضحة للشركة تهدف إلى تقليل اعتمادها على الصين كمركز رئيسي للإنتاج، خصوصًا بعد ما شهدته من تحديات خلال الحرب التجارية الأولى في عهد ترامب، والأزمات اللاحقة كجائحة كوفيد وأزمة أشباه الموصلات.

لكن هذه الاستراتيجية التي بدت ذكية في ظاهرها، تعرضت الآن صفعة قوية في أعقاب إعلان ترمب الرسوم الجمركية المتبادلة" والتي لم تقتصر على الصين، بل شملت أيضًا الدول التي كانت "آبل" تعوّل عليها كبدائل استراتيجية، مثل الهند، وفيتنام، وماليزيا، وتايوان، وكوريا الجنوبية، وحتى اليابان. وهكذا، بدا وكأن الشركة قد هربت من فم التنين لتقع في قبضة الفيل.

وما يجري مع "آبل" ليس حالة فردية، بل مؤشر على اتجاه أوسع نحو تصاعد السياسات الحمائية في الاقتصاد العالمي، والتي تتعارض مع مبادئ العولمة التي استفادت منها الشركات الأمريكية الكبرى لعقود. وتأتي المفارقة أن هذه السياسات تحت شعار "إعادة التصنيع إلى أمريكا"، بينما تكلف الشركات الأمريكية أكثر مما تحميها، وتضعف قدرتها على المنافسة عالميًا.

ومع دخول الرسوم الجمركية في حسابات التسعير والتكلفة والإنتاج، يُتوقع أن تبدأ موجة تضخمية جديدة في أسعار الإلكترونيات، وهو ما قد يدفع المستهلكين للتريث أو حتى للعزوف عن شراء أحدث الإصدارات. ومن جهة أخرى، لا يُستبعد أن ترد الصين وغيرها من الدول بإجراءات مماثلة، ما يفاقم مناخ عدم اليقين ويهدد بأزمة تجارية جديدة.

سيناريوهات مستقبلية

ومع تصاعد التوترات التجارية وتقلّب السياسات العالمية، قد تجد أبل نفسها مضطرة إلى إعادة صياغة استراتيجيتها الإنتاجية ليس فقط لتفادي الخسائر، بل لضمان بقائها في صدارة المشهد التكنولوجي العالمي.

ففي مواجهة الرسوم الجمركية الجديدة، تمتلك "آبل" مجموعة من الإجراءات السريعة التي يمكن تنفيذها دون الحاجة لإعادة هيكلة نموذج أعمالها بالكامل.

من أبرز هذه الخطوات سعي الشركة للحصول على إعفاءات جمركية من الإدارة الأمريكية، كما فعلت سابقًا في عهد ترمب، مستفيدة من علاقات تيم كوك السياسية، بما في ذلك لقاءاته المعلنة مع ترامب هذا العام. وفي الوقت ذاته، قد تلجأ الشركة إلى امتصاص جزء من التكاليف داخليًا بدلاً من تحميلها بالكامل على المستهلك، خاصة في المنتجات ذات الهوامش الربحية العالية وذلك للحفاظ على تنافسيتها في السوق. كذلك، من المرجح أن تعيد الشركة جدولة إطلاق بعض المنتجات أو تعديل خطوط إنتاجها لتقليل الاعتماد على الدول المتضررة بالرسوم، أو حتى تقليص عدد الفئات المعروضة مؤقتًا، مما يمنحها هامشًا من المناورة في سوق يشهد اضطرابًا متزايدًا.

قد تلجأ "آبل" إلى إنشاء "شبكة حماية جيوسياسية" عبر شراكات استراتيجية مع حكومات تقدم دعما مباشرا، سواء عبر الإعفاءات أو تمويل البنية التحتية، كما في حالات إقامة مصانع مشتركة في دول حليفة تجاريا للولايات المتحدة

ضمن الخيارات الاستراتيجية المتوسطة المدى، يمكن شركة "آبل" أن تتحرك في أكثر من اتجاه لتقليل أثر الرسوم الجمركية دون الدخول في تغييرات جذرية مكلفة. أحد هذه الاتجاهات هو تعميق علاقاتها مع شركاء محليين داخل الولايات المتحدة، من خلال توسيع برامج الشراكة لتشمل تصنيع بعض المكونات داخليا، مثل الشرائح وقطع الغيار والتغليف، دون الحاجة لنقل عمليات التجميع النهائية بالكامل.

كذلك، يمكن الشركة أن تعيد توزيع جزء من خطوط إنتاجها إلى دول غير مشمولة بالرسوم مثل المكسيك، أو دول أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، وهي مناطق قد لا تمتلك الجاهزية التقنية نفسها للدول الآسيوية، لكنها توفر بيئة سياسية أكثر استقرارا. أما على مستوى التكنولوجيا، فإن توسيع استثمارات "آبل" في مجالات الأتمتة والروبوتات قد يفتح أمامها باب التصنيع المحلي من جديد، حيث تصبح تكلفة العمالة المرتفعة في الولايات المتحدة أقل تأثيرا، مما يجعل نقل جزء من عمليات التصنيع إلى الداخل الأميركي خيارا أكثر واقعية على المدى المتوسط.

أما الرهان الكبير فقد يأتي في عملية إعادة النظر في نموذج التصنيع العالمي، وهو الخيار الأكثر جرأة وتعقيدا، لكنه قد يكون ضرورة لا مفر منها إذا استمر التصعيد التجاري. إذ يمكن "آبل" أن تبني نظام تصنيع مرنا متعدد المحاور، بحيث لا تعتمد على مركز إنتاج واحد، بل تمتلك بنية توزيع تمكّنها من نقل عمليات التصنيع بين دول عدة وفقا للمتغيرات الجيوسياسية والاقتصادية. وقد تلجأ إلى إنشاء "شبكة حماية جيوسياسية" عبر شراكات استراتيجية مع حكومات تقدم دعما مباشرا، سواء عبر الإعفاءات أو تمويل البنية التحتية، كما في حالات إقامة مصانع مشتركة في دول حليفة تجاريا للولايات المتحدة.

ويمكن أن تتبنى الشركة نموذج "التجميع المحلي من مكونات عالمية"، حيث يتم تصنيع الأجزاء في دول متعددة لكن يُنقل التجميع النهائي إلى أراضٍ معفاة من الرسوم مثل الولايات المتحدة أو دول اتفاقيات التجارة الحرة، مما يخلق توازنا دقيقا بين كفاءة التكلفة والامتثال للواقع السياسي المتغير.

لكن، هل "آبل" مستعدة لفعل ذلك كله؟ الجواب ليس بسيطا، فالشركة تُعرَف بحذرها الاستراتيجي ودقتها المتناهية في اتخاذ القرارات، خاصة في ما يتعلق بسلاسل التوريد التي تُعدّ شرايينها الحيوية, كما أنها بطيئة في التحوّل لكنها نادرا ما تخطئ الحساب، وهي تدرك أن أي تعديل متسرع في بنية التصنيع قد يؤدي إلى خسائر بمليارات الدولارات.

font change

مقالات ذات صلة