اعتقال رياك مشار وتفاقم الأزمة... جنوب السودان ينزلق نحو الفوضى

تفكك اتفاق السلام قد يؤدي إلى انقسامات جديدة داخل الدولة

أ ف ب
أ ف ب
لاعبو كرة قدم يلوحون بأعلام جنوب السودان في العاصمة جوبا في 23 فبراير 2016

اعتقال رياك مشار وتفاقم الأزمة... جنوب السودان ينزلق نحو الفوضى

في الثلاثين من مارس/آذار 2025، وجّه بابا الكنيسة الكاثوليكية فرانسيس، نداء عاجلا إلى قادة جنوب السودان، حاثا إياهم على "تخفيف التوترات في البلاد" وتجنب الانزلاق مجددا إلى هاوية الحرب الأهلية، في ظل تصاعد الاشتباكات المسلحة التي تهدد بجرّ الدولة الأحدث عالميا إلى كارثة إنسانية جديدة.

جاء النداء ضمن خطاب التبشير الملائكي، الذي يلقيه البابا كل يوم أحد من نافذة مكتبه في القصر الرسولي المطل على ساحة القديس بطرس في الفاتيكان. وأعرب البابا فرانسيس في خطابه عن "قلقه العميق" إزاء التطورات الأخيرة في جنوب السودان، مؤكدا ضرورة "نبذ الخلافات" والالتزام بحوار بنّاء يتسم بالشجاعة والمسؤولية، بهدف تخفيف معاناة شعب جنوب السودان وبناء مستقبل قائم على السلام والاستقرار. لم يقتصر نداء البابا على مجرد دعوة للتهدئة، بل تضمن رسالة واضحة للقادة بأن "الجلوس إلى طاولة المفاوضات هو السبيل الوحيد" لإنقاذ البلاد من شبح الصراع، معبرا عن أمله في أن يستلهموا روح التضامن والمصالحة.

لم يكن نداء البابا فرانسيس الأخير حدثا معزولا، بل امتداد لمساعيه المتواصلة لتعزيز السلام في جنوب السودان. ففي أبريل/نيسان 2019، استضاف البابا قادة جنوب السودان، بمن فيهم الرئيس سلفا كير ونائبه رياك مشار، في رحلة روحية إلى الفاتيكان، وفاجأ العالم بمشهد رمزي عندما ركع على الأرض وقبّل أقدام هؤلاء الزعماء، داعيا إياهم إلى تجاوز الانقسامات. هذه الخطوة التي لاقت صدى واسعا في أفريقيا، عززت اتفاق السلام المُجدد لعام 2018. كما زار البابا جنوب السودان في 3 فبراير/شباط 2023، برفقة رئيس أساقفة كانتربري، حيث دعا إلى "نبذ الدماء والعنف"، مؤكدا أن "الشعب قد عانى بما فيه الكفاية".

جاء نداء البابا فرانسيس الأخير منسجما مع تحذيرات أساقفة كاثوليك السودان وجنوب السودان، الذين نبّهوا إلى خطر "كارثة وشيكة" إذا انهارت جهود السلام الهشة التي يقوم عليها اتفاق 2018. وفي بيان صدر في 28 مارس 2025، أعرب الأساقفة، بقيادة الكاردينال أميو مارتن مولا، رئيس مؤتمر أساقفة السودان وجنوب السودان الكاثوليك، عن قلقهم العميق إزاء تصاعد العنف في جنوب السودان.

وتفاقمت الأوضاع في جنوب السودان يوم 26 مارس 2025، إثر وضع نائب الرئيس الأول رياك مشار تحت الإقامة الجبرية في جوبا، حيث اقتحمت قوات أمنية، بقيادة وزير الدفاع ورئيس الأمن الوطني، منزل مشار ليلا. ووفقا لبيان "حركة الشعب لتحرير السودان" المعارضة (SPLM-IO)، وهو الحزب الذي يتزعمه مشار، تم نزع سلاح حراسه وتسليمه مذكرة توقيف بتهمة "التحريض على التمرد"، دون تفاصيل دقيقة.

 رويترز
رئيس جنوب السودان سالفا كير ونائبه رياك مشار في جوبا في 20 فبراير 2020

واحتُجز مشار مع زوجته، أنجلينا تيني، وزيرة الداخلية، في خطوة اعتبرها حزبه "إنهاء فعليّا" لاتفاق السلام. سبق ذلك اعتقال قادة موالين له، مثل نائب رئيس الأركان غابرييل دوب لام في 4 مارس، ووزير البترول بوت كانغ تشول في 5 مارس، ووزير بناء السلام ستيفن بار كوول في 6 مارس، مما يشير إلى استراتيجية منهجية من حكومة كير لتفكيك معسكر مشار.

وأعلن بقية قادة الحزب عن مقاطعتهم لوفد الاتحاد الأفريقي المقرر زيارته لجوبا يوم الأربعاء 2 أبريل/نيسان، بسبب مخاوفهم من الاعتقال على خلفية التوترات السياسية الأخيرة، واشترطوا إطلاق سراح مشار للانخراط في مفاوضات مع وفد لجنة الحكماء الأفريقية. كما هدد الجنرال جون مابيه غار، وهو قائد عسكري بارز في حزب مشار، باتخاذ إجراءات عسكرية للإفراج عن مشار إذا لم تتراجع الحكومة عن هذه الإجراءات، مما ينذر بالمزيد من تدهور الأوضاع الأمنية في البلاد.

انفجرت الأزمة في جنوب السودان بين فبراير ومارس 2025، عندما برزت توترات سياسية وعسكرية متصاعدة في ولاية أعالي النيل، وتحديدا في مدينة الناصر، التي تُعد موقعا استراتيجيا قريبا من الحدود مع إثيوبيا. بلغ التوتر العسكري ذروته عندما استولى "الجيش الأبيض"، وهو ميليشيا شبابية مسلحة تنتمي إلى قومية النوير التي ينحدر منها نائب الرئيس الأول رياك مشار، على قاعدة عسكرية تابعة لقوات الدفاع الشعبي لجنوب السودان (الجيش الحكومي).

تفاقمت الأوضاع في 16 مارس، عندما نفذت القوات الحكومية غارة جوية جديدة أدت إلى مقتل 21 مدنيا، بينهم نساء وأطفال

بدأت المواجهة في 14 فبراير 2025، عندما رفضت المجتمعات المحلية الموالية لمشار في ولاية أعالي النيل، خاصة في مدينة الناصر، ونشر قوات حكومية جديدة غير مدرجة ضمن القوات الموحدة المنصوص عليها في اتفاق السلام لعام 2018. 
جاء هذا الرفض بعد محاولات الحكومة استبدال قوات متمركزة في المنطقة منذ سنوات، مما اعتبره أنصار مشار تهديدا لسيطرتهم الإقليمية. وتصاعدت الأمور عندما شنت الحكومة غارات جوية في 25 فبراير على مواقع يُعتقد أنها تابعة لـ"الجيش الأبيض"، مستهدفة مناطق عسكرية ومدنية على حد سواء، في محاولة لاستعادة السيطرة. لكن هذه الغارات لم توقف تقدم الميليشيا، بل زادت من حدة الصراع.
وفي 4 مارس، اجتاحت قوات "الجيش الأبيض" القاعدة العسكرية في الناصر بعد اشتباكات عنيفة استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة والمدافع، مما أدى إلى طرد القوات الحكومية واستيلاء الميليشيا على مخزون كبير من الأسلحة والمعدات، بما في ذلك دبابات وذخائر. 
ردت الحكومة بقوة أكبر، إذ شهدت المنطقة في 7 مارس مواجهات دامية أسفرت عن مقتل جنرال بارز في الجيش الحكومي، اللواء مجور داك، إلى جانب 20 جنديا على الأقل. وخلال هذه العمليات، أُسقطت طائرة تابعة للأمم المتحدة كانت تحمل طاقما أوكرانياً وتسعى إلى إجلاء بعض قادة الجيش المحاصرين، مما أثار جدلا دوليا حول استهداف البعثات الإنسانية وسط النزاع. اتهمت الحكومة "الجيش الأبيض" وحركة مشار بالمسؤولية، بينما نفى حلفاء مشار هذه الرواية، مشيرين إلى أن الطائرة ربما أُسقطت عن طريق الخطأ خلال الغارات الحكومية.
تفاقمت الأوضاع في 16 مارس، عندما نفذت القوات الحكومية غارة جوية جديدة أدت إلى مقتل 21 مدنيا، بينهم نساء وأطفال، في قرية قريبة من الناصر. وأثار هذا الهجوم موجة غضب واسعة وتسبّب في نزوح جماعي للسكان، حيث أفادت تقارير الأمم المتحدة بأن ما لا يقل عن 60 ألف شخص فرّوا من ديارهم، معظمهم باتجاه المناطق الداخلية أو عبر الحدود إلى إثيوبيا. ورافق النزوح انهيارٌ في البنية التحتية المحلية، حيث دُمّرت أسواق ومدارس ومرافق صحية، مما زاد من معاناة السكان في منطقة تعاني أصلا من الفقر وانعدام الأمن الغذائي.
وقبل احتجاز مشار، شهدت البلاد محاولات لاحتواء التصعيد. ففي فبراير 2025، حذّرت بعثة الأمم المتحدة (UNMISS) من تفاقم الاشتباكات في الناصر، داعية إلى وقف العنف. كما دعا الاتحاد الأفريقي إلى التهدئة بعد تقارير عن استخدام أسلحة ثقيلة. 
وفي 3 مارس 2025، عقد الرئيس سلفا كير اجتماعا رئاسيا طارئا في جوبا حضره مشار وأعضاء بارزون في الحكومة الانتقالية، بهدف تهدئة الأوضاع. وخلال الاجتماع، اتفق الطرفان ظاهريا على نشر قوات جديدة مشتركة في الناصر لاستعادة الاستقرار، لكن هذا القرار أثار جدلا بين أنصار مشار، الذين اعتبروا أن القوات المقترحة تهيمن عليها قومية الدينكا الموالية لكير، مما يناقض روح اتفاق السلام. 
نتيجة لذلك، استمرت الاشتباكات. وفي 4 مارس، اجتاحت قوات "الجيش الأبيض" قاعدة عسكرية حكومية، مما أظهر فشل الاتفاق الرئاسي في تحقيق هدفه. 

يُعدّ اعتقال رياك مشار ومحاولة تفكيك منظومته السياسية والعسكرية بالقوة نقطة تحوّل حاسمة تعجّل بانهيار اتفاق السلام الهشّ الموقع عام 2018

وفي 28 مارس، عرضت الكنيسة الكاثوليكية التوسط، بينما أرسلت كينيا رئيس الوزراء السابق رايلا أودينغا للوساطة، فالتقى كير في 29 مارس لكنه مُنع من رؤية مشار، مما قلص من فاعلية الجهود. 
وفي 31 مارس، أعلن رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي الجديد، محمود علي يوسف، عن إرسال بعثة من لجنة حكماء أفريقيا إلى جوبا في الفترة من 2 إلى 6 أبريل/نيسان الجاري للتوسط بين كير ومشار لإنهاء النزاع، إلا أن استمرار احتجاز مشار لا يزال يعقّد فرص نجاح مهمة لجنة الحكماء.

 أ ب
دورية للجيش في جوبا عاصمة جنوب السودان في 13 فبراير

ومنذ منتصف مارس، أرسلت أوغندا قوات خاصة إلى جوبا بناء على طلب الرئيس سلفا كير، بزعم "تأمين" العاصمة وسط تصاعد التوترات. غير أن هذا التدخل، الذي يعزّز موقف كير في مواجهة خصومه، يثير مخاوف أوسع بشأن أقلمة النزاع وتحويله إلى ساحة لصراعات القوى الإقليمية والدولية. خصوصا مع تقاطعه مع استمرار الحرب في السودان، التي لا تخلو من أصابع أطراف خارجية متعددة، يزداد القلق من أن يصبح جنوب السودان ساحة جديدة لحرب بالوكالة، في ظل الاتهامات المتبادلة بين دول الإقليم بشأن دعم الفصائل المتحاربة في كلا البلدين.
يعود الصراع بين الدينكا، الذين يشكلون نحو 35  في المئة من سكان جنوب السودان، والنوير، الذين يمثلون حوالي 16 في المئة، إلى تنافس تاريخي طويل على السلطة والموارد، تفاقم عبر العقود نتيجة العوامل السياسية والعسكرية. فقد شهدت فترة الحرب الأهلية السودانية الثانية (1983-2005) انقسامات حادة داخل الحركة الشعبية لتحرير السودان، بلغت ذروتها عام 1991 عندما قاد رياك مشار انشقاقا عن الحركة بزعامة جون قرنق. وارتكبت قوات مشار المنشقة مذبحة بور، التي قُتل فيها نحو 2000 من الدينكا، وهو حدث لا يزال يؤجج مشاعر العداء بين الطرفين.
بعد استقلال جنوب السودان عام 2011، تولّى سلفا كير، المنتمي إلى الدينكا، رئاسة البلاد، بينما عُيّن رياك مشار، نائبا له، في محاولة للحفاظ على توازن هش في السلطة. غير أن هذا الترتيب لم يصمد طويلا، إذ تفجّرت حرب أهلية دامية بين عامي 2013 و2018، خلّفت ما يقارب 400 ألف قتيل، إضافة إلى ملايين النازحين. ورغم توقيع اتفاق السلام عام 2018، ظل الاتفاق هشا في ظل انعدام الثقة، وتأخر تنفيذ بنوده الأساسية، واستمرار الاستقطاب العرقي والسياسي، مما جعل خطر تجدّد النزاع قائما في أي لحظة.
يُعدّ اعتقال رياك مشار ومحاولة تفكيك منظومته السياسية والعسكرية بالقوة نقطة تحوّل حاسمة تعجّل بانهيار اتفاق السلام الهشّ الموقع عام 2018. فالاتفاق، كان قائما بالأساس على تقاسم السلطة بين كير ومشار، وضمان ترتيبات أمنية حساسة تهدف إلى دمج الفصائل المسلحة المتناحرة في جيش وطني موحد. غير أن التنفيذ ظل بطيئا ومتعثرا، حيث احتفظ كل طرف بقواته الموالية، ما أدى إلى استمرار مناخ عدم الثقة.
وفي ظل غياب القيادة السياسية، فإن "الجيش الأبيض"، الذي يتسم بقدرته على الحشد السريع واستعداده للعنف، قد يلجأ إلى تصعيد أكبر في المناطق التي يسيطر عليها النوير، خاصة في أعالي النيل وجونقلي، مما يعيد شبح الحرب الأهلية.

يقف جنوب السودان على حافة كارثة جديدة، حيث تهدد التطورات الأخيرة بإنهاء اتفاق السلام الهشّ وإغراق البلاد في موجة جديدة من العنف

لكن الأخطر من ذلك أن تفكك اتفاق السلام قد يؤدي إلى انقسامات جديدة داخل الدولة، حيث يمكن أن يستغل زعماء محليون الوضع لتوسيع نفوذهم. على سبيل المثال، هناك تقارير عن تنامي سخط بعض قادة الشلك في أعالي النيل، الذين يشعرون بالتهميش في الصراع بين الدينكا والنوير. كذلك، فإن بعض الجنرالات في جيش جنوب السودان قد ينشقون إذا رأوا أن سلفا كير يتحوّل إلى سلطة فردية مطلقة.
أما التداعيات الإقليمية للصراع، خصوصا بعد التدخل الأوغندي- وكانت أوغندا قد سبق لها التدخل لدعم سلفا كير خلال الحرب الأهلية (2013-2018)- فستكون كارثية إذا ما قُرنت بالحرب المستعرة أصلا في السودان. وكلها مهددة بتحويل النزاع إلى صراع متعدد الأطراف.
ورغم كل ذلك، لا تزال بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان (UNMISS)، التي تضم أكثر من 15 ألف جندي لحفظ السلام، تفتقر إلى التفويض أو القدرة على منع التصعيد العسكري بشكل فعّال، حيث ينحصر دورها حتى الآن في مراقبة الوضع والإبلاغ عن الانتهاكات.
أما الولايات المتحدة التي لعبت دورا محوريا في استقلال جنوب السودان عام 2011، فقد تراجعت بشكل ملحوظ عن الانخراط في الأزمة، خاصة مع انشغالها بملفات أخرى مثل الحرب في أوكرانيا، وتصاعد التوترات مع الصين، وانسحابها العام من المشهد الدولي. كما أن الانقسامات داخل مجلس الأمن الدولي جعلت من الصعب فرض عقوبات فعالة أو التدخل الدبلوماسي المباشر.
ويقف جنوب السودان على حافة كارثة جديدة، حيث تهدد التطورات الأخيرة بإنهاء اتفاق السلام الهشّ وإغراق البلاد في موجة جديدة من العنف. ولن تقتصر التداعيات على الداخل، بل قد تمتد إلى السودان والدول المجاورة، مما يزيد من تعقيد المشهد الإقليمي. ورغم النداءات الدولية المتزايدة، فإن غياب استراتيجية واضحة للتدخل يجعل فرص احتواء الأزمة ضعيفة، ما لم تحدث مبادرة قوية على المستويين الإقليمي والدولي، مقرونة بتنازلات من كل الأطراف، تضع مصلحة شعب جنوب السودان أولا وتبدأ بإطلاق سراح مشار والانخراط في عملية إصلاح شاملة للمنظومة العسكرية تمنع استغلالها في التشاحن السياسي.

font change