تسريب "سيغنال" بين الشفافية والأمن القومي

هل يعيد تشكيل قوانين الأمن السيبراني الأميركية؟

أ ف ب
أ ف ب
النائب جيسون كراو يتحدث امام نسخة من رسالة لوزير الدفاع بيت هيغست اثناء جلسة استماع لتقييم المخاطر العالمية في واشنطن في 26 مارس

تسريب "سيغنال" بين الشفافية والأمن القومي

شهدت الإدارة الأميركية في مارس/آذار 2025 واقعة مثيرة للجدل بشأن تسريب معلومات حساسة تتعلق بمناقشة تفاصيل خطط عمليات عسكرية ضد الحوثيين في اليمن، عبر محادثات تطبيق المراسلة المشفر "سيغنال" (Signal) تضم مسؤولين رفيعي المستوى.

وأثارت الواقعة جدلا حادا وتساؤلات قانونية ودستورية جادة، خاصة في ما يتعلق بمعضلة الحدود الفارقة بين حرية التعبير والحق في الشفافية والوصول إلى المعلومات من ناحية، ومقتضيات حماية الأمن القومي والسيبراني للدولة من ناحية أخرى، لا سيما وأن هذه الواقعة تتعلق بعدة انتهاكات محتملة لبعض القوانين الفيدرالية الأميركية.

تفاصيل التسريب

خلال الفترة من 11 إلى 15 مارس 2025، فوجئ جيفري غولدبرغ، رئيس تحرير مجلة" ذي أتلانتيك"، بإضافته عن طريق الخطأ من قبل مستشار الأمن القومي مايكل والتز إلى مجموعة دردشة غير مؤمنة تضم حوالي 18 عضوا من أعضاء إدارة الولايات المتحدة وكبار مسؤولي الأمن القومي، من بينهم نائب الرئيس جيه دي فانس، ووزير الدفاع بيت هيغسيث، ووزير الخزانة سكوت بيسينت، بالإضافة إلى مستشار الأمن القومي.

وكان أعضاء هذه المجموعة يتواصلون بأجهزتهم الشخصية عبر تطبيق "سيغنال"، وهو تطبيق تجاري مشُفر يستخدم للمراسلة والتواصل الآمن بين مستخدميه. وقد ناقش الأعضاء تفاصيل خطط العمليات الأميركية العسكرية ضد الحوثيين في اليمن قبل بدايتها، بما في ذلك توقيت الضربات العسكرية وتسلسلها الزمني، وتفاصيل الأهداف وأنواع الأسلحة والذخائر المستخدمة بالإضافة لبعض المعلومات الاستخباراتية حول العملاء السريين لوكالة الاستخبارات المركزية في ميدان المعارك.

نشر جيفري غولدبرغ تقريرا مفصلا عن الواقعة متضمنة النص الكامل للمحادثة في "ذي أتلانتيك" بتاريخ 25 مارس 2025 بعد بداية العمليات العسكرية، وبعد خروجه من المجموعة.

الموازنة بين حرية التعبير والأمن القومي

تعتبر الموازنة بين حرية التعبير، والحق في الوصول إلى المعلومات، وضرورات الأمن القومي إحدى أبرز المعضلات القانونية في النظام الدستوري الأميركي، ويرجع ذلك إلى أن التمييز بين الحد الفاصل في الحقوق بين أنصار الشفافية وحرية الصحافة، وبين دعاة الحفاظ على أسرار الدولة يقع غالبا في منطقة رمادية شديدة التعقيد والتشابك من الصعب الجزم فيها بحقيقة مطلقة.

فمن ناحية يُعتبر التعديل الأول للدستور الأميركي حجر الزاوية في حماية حرية التعبير في الولايات المتحدة، حيث يمنع الحكومة من تقييد حق الأفراد في التعبير عن آرائهم بحرية، كما يضمن هذا التعديل حماية واسعة للخطاب السياسي والصحافة، ما يتيح للأفراد نشر المعلومات التي تهم الرأي العام دون خوف من الرقابة الحكومية.

تباينت أحكام المحكمة العليا الأميركية بين تأييد سلطة الدولة في حماية الأمن القومي وتوسيع الحماية الدستورية لحرية التعبير والصحافة وفقا لتغير الظروف

مع ذلك، فإن هذه الحماية ليست مطلقة، حيث توجد استثناءات مثل الخطابات البذيئة والخطاب المحرّض على العنف والكراهية، والتي قد تخضع للتنظيم بموجب قوانين محددة. بالإضافة إلى ذلك، يحمي التعديل الأول حق التجمع السلمي وتقديم التماس للحكومة، ما يعزز دور حرية التعبير في تعزيز الحقوق المدنية والسياسية للأفراد. وتطبيقا لهذا صدر قانون حرية المعلومات الأميركي عام 1967 (Freedom of Information Act – FOIA)، وأصبحت بموجبه الحكومة الأميركية ملزمة بتقديم إفصاح كامل أو جزئي عن المعلومات أو الوثائق الحكومية عند طلبها، ما عدا السجلات المحمية من الكشف، الواقعة ضمن الإعفاءات والاستثناءات الواردة بهذا القانون والتي تتعلق بالأمن القومي، وقد أدى ذلك إلى تمكين الأفراد مثل الصحافيين والمبلغين عن المخالفات (Whistleblowers) الذين يكشفون قضايا تتعلق بالفساد أو إساءة استخدام السلطة من الوصول إلى السجلات الحكومية.

أ ف ب
شريط اخباري لمحطة "فوكس نيوز" على واجهة مبنى في نيويوك في 26 مارس

ومن ناحية أخرى، يُرسّخ الدستور الأميركي حق الدولة في حماية الأمن القومي عبر تفويض واسع للسلطة التشريعية بموجب الفقرة 8 من المادة الأولى، التي تمنح الكونغرس سلطة إعلان الحرب، وتنظيم الجيش، ووضع التشريعات اللازمة لضمان الدفاع المشترك، وبموجب هذه السلطة صدر قانون مكافحة التجسس عام 1917 (Espionage Act) والذي جرم نقل المعلومات الحربية والعسكرية دون سلطة أو إذن إذا كان القصد بذلك الإضرار بالولايات المتحدة أو إفادة جهة أجنبية، وقد صدر ذلك القانون في أعقاب دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى إلى جانب الحلفاء وإعلانها الحرب على ألمانيا ودول المحور، وقد جرى تعديل هذا القانون عدة مرات كان آخرها عام 1961، إلا أن أخطر تعديل لهذا القانون كان بموجب إصدار قانون الفتنة عام 1918 (Sedition Act)، الذي وسّع نطاق قانون مكافحة التجسس لعام 1917 ليشمل مجموعة أوسع من الجرائم، لا سيما الخطاب والتعبير عن الرأي الذي يضع الحكومة أو المجهود الحربي في صورة سلبية أو يعوق بيع سندات الحرب (سندات الدفاع) الحكومية التي كانت تصدرها وزارة الخزانة الأميركية دعما للمجهود الحربي. كذلك حظر استخدام أي كلمات "غير مخلصة، أو بذيئة، أو مسيئة، أو تحقيرية" ضد حكومة الولايات المتحدة أو علمها أو قواتها المسلحة، أو أي تعبير يجعل الناس ينظرون إلى الحكومة أو مؤسساتها بازدراء. وكان الأشخاص الذين يُحاكمون بموجب هذا التعديل غالبا ما يتلقون أحكاما بالسجن تتراوح بين 5 إلى 20 عاما، وقد تم إلغاء هذا التعديل في ديسمبر/كانون الأول 1920.

سوابق أحكام المحكمة العليا 


تباينت أحكام المحكمة العليا الأميركية بين تأييد سلطة الدولة في حماية الأمن القومي وتوسيع الحماية الدستورية لحرية التعبير والصحافة وفقا لتغير الظروف، فنجد على سبيل المثال في الحكم الصادر في قضية "تشارلز شينك وإليزابيث باير ضد حكومة الولايات المتحدة" عام 1919 أن المحكمة أيدت بالإجماع إدانة تشارلز شينك وإليزابيث باير بموجب قانون التجسس لعام 1917، بسبب توزيع منشورات تحث المجندين على مقاومة التجنيد الإجباري خلال الحرب العالمية الأولى، وقد أرست المحكمة مبدأ هاما في هذا الحكم وهو أن "الظروف المحيطة بحرية الخطاب والكلام هي التي تُحدد طبيعته القانونية، فمن الممكن أن ما قد يكون محميا دستوريا في أوقات السلم، أن يصبح غير محمي في أوقات الحرب إذا كان يهدد الأمن القومي أو يعيق جهود التجنيد". 
ويمثل هذا الحكم نقطة تحول في تفسير التعديل الدستوري الأول، حيث منح الحكومة صلاحيات أوسع لتقييد حرية التعبير خلال فترات الحرب لحماية المصلحة الوطنية. ومع ذلك، أثارت القضية نقاشا مستمرا حول حدود هذه القيود وآثارها على الحق في الوصول إلى المعلومات والتعبير الحر، خاصة عندما تتعارض مع مقتضيات الأمن القومي.
بينما في قضية "شركة نيويورك تايمز ضد حكومة الولايات المتحدة" عام 1971 والمعروفة إعلاميا باسم قضية "أوراق البنتاغون"، والتي تُعدّ حجرا أساسيا في فهم التوازن بين حرية التعبير والصحافة وحماية الأمن القومي في الولايات المتحدة، عدلت المحكمة العليا عن اتجاهها السابق والذي رجح الأمن القومي على حرية التعبير، وذلك عندما حاولت الحكومة الفيدرالية في إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون منع صحيفتي" نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" من نشر وثائق سرية تتعلق بالحرب في فيتنام مُستندة إلى قانون التجسس لعام 1917 ومزاعم بتهديد الأمن القومي. 

بسبب حالة من الفراغ التشريعي في البنيان القانوني الأميركي، تختلف واقعة تسريب "سيغنال" عما سبقها من وقائع

وقد ألغت المحكمة العليا قرار الحكومة بمنع النشر استنادا على أن "عبء الإثبات يقع على الحكومة لتبرير تقييد الحرية، وهو ما فشلت فيه الإدارة لعدم تقديمها أدلة محددة تربط النشر المزعوم بأضرار ملموسة على العمليات العسكرية أو الأمن". وعلى الرغم من ذلك، لم تحكم المحكمة بعدم دستورية قانون التجسس عام 1917، بل قيدت استخدامه فقط في فرض رقابة مسبقة دون تفويض تشريعي صريح. ورسخت هذه القضية مبدأ دستوريا بأن حرية النشر لا تُقيد إلا في أضيق الحدود، حتى في سياقات تتعلق بالأمن القومي، ما يعكس أولوية الشفافية وحرية تدفق المعلومات في النظام الديمقراطي.

أ ف ب
تصاعد الدخان فوق الابنية بعد قصف اميركي للعاصمة اليمنية صنعاء في 19 مارس

إصدار المشرع لقانوني الإجراءات الإدارية والسجلات الفيدرالية لحل معضلة الموازنة بين حرية التعبير وحماية الأمن القومي: 
حاول المشرع الأميركي بموجب قانون الإجراءات الإدارية عام 1946 (Administrative Procedure Act) وقانون السجلات الفيدرالية عام 1950 (Federal Records Act) خلق أدوات قانونية تضمن الشفافية، وحرية التعبير، والنشر، والوصول إلى المعلومات، مع الحفاظ على مقتضيات حماية الأمن القومي، إذ يُعد قانون الإجراءات الإدارية إطارا تنظيميا يضمن نشر القواعد والإجراءات الحكومية في السجل الفيدرالي، ويتيح المشاركة العامة من خلال التعليق على القوانين المقترحة، تعزيزا لمبدأ الديمقراطية التشاركية وضمانا للتوازن بين حقوق الأفراد ومتطلبات الأمن القومي من جهة، ومن جهة أخرى، يُلزم قانون السجلات الفيدرالية الوكالات الحكومية بتوثيق وحفظ السجلات الرسمية، مما يساهم في تحقيق المساءلة العامة وضمان حق المواطنين في الوصول إلى المعلومات ذات الصلة بأعمال الحكومة. بما مؤداه أن هذه القوانين توازن بين الحق في حرية التعبير والنشر من خلال توفير آليات قانونية للوصول إلى المعلومات العامة ومراجعة القرارات الحكومية. ومع ذلك، يتم تقييد هذه الحقوق أحيانا بموجب استثناءات تتعلق بالأمن القومي، حيث يُسمح للوكالات بحجب المعلومات التي قد تُعرّض أمن الدولة للخطر.

اختلاف تسريب "سيغنال" عما سبقه


بسبب وجود حالة من الفراغ التشريعي في البنيان القانوني الأميركي، تختلف واقعة تسريب "سيغنال" عما سبقها من وقائع في وجود شقين لها وليس شقا واحدا كما كان فيما سبق من قضايا، فالشق الأول هو وجود تسريب للمعلومات من داخل الحكومة الفيدرالية نفسها، هو الذي قام باستخدام وسيلة اتصال خاصة تجارية غير مرخص بها في التواصل الحكومي، مع إدخال أشخاص غير مصرح لهم بالاطلاع على معلومات سرية دون سند من القانون. أما الشق الثاني فهو قيام جيفري جولدبرغ، بنشر تقرير كامل عن الواقعة متضمنا النص الكامل للمحادثة في مجلة" ذي أتلانتيك".

تصنف واقعة سيغنال على أنها حالة (Shadow IT)، والتي يمكن ترجمتها بأنها "تكنولوجيا معلومات الظل"، وهو مصطلح قانوني حديث نسبيا

والواقع أن الوضع في هذا الحالة يختلف كثيرا، إذ من غير المحتمل مساءلة جيفري غولدبرغ عن النشر، بحسبان أنه لم يحاول الوصول إلى هذه المعلومات بطرق غير قانونية أو غير مشروعة أو غير أخلاقية، إذ إن المعلومات وصلت إليه نتيجة خطأ الإدارة الأميركية، ومن ثم فإنه، وبحسب الظاهر، لم يرتكب جريمة في هذا الصدد، وفي حالة مساءلته لأي سبب آخر يمكن القول إن خطأ الإدارة قد استغرق خطأ غولدبرغ، وذلك بسبب جسامة أخطاء الإدارة في الاستهانة بمقتضيات الأمن القومي وأسرار العمليات العسكرية والتي لولاها ما تم التسريب بهذا الشكل وما وصل إلى أشخاص غير مصرح لهم الاطلاع عليها.

تسريب "سيغنال" يعتبر نموذجا لـ"تكنولوجيا معلومات الظل"


تصنف واقعة سيغنال على أنها حالة (Shadow IT)، والتي يمكن ترجمتها بأنها "تكنولوجيا معلومات الظل"، وهو مصطلح قانوني حديث نسبيا، يقصد به "استخدام أجهزة أو برامج أو خدمات تكنولوجيا المعلومات في بيئة عمل ما دون الحصول على موافقة أو إذن أو دعم أو إشراف من قسم تكنولوجيا المعلومات والأمن السيبراني المختص". ويشمل ذلك استخدام خدمات إلكترونية، وتطبيقات البرامج المختلفة، وتطبيقات التخزين السحابي، وأدوات الذكاء لإصطناعي، وخوادم البريد الإلكتروني غير المصرح بها، وأجهزة الكمبيوتر المحمولة، والهواتف الذكية، وأجهزة ذاكرة فلاش متنقلة (يو إس بي)، دون أن تكون الإدارة التقنية المختصة على دراية بها أو تتحكم فيها، وهو ما يمكن أن يخلق ثغرات أمنية خطيرة ويعرض البيانات الحساسة للخطر، ما يزيد من مخاطر انتهاكات البيانات وتسريبها.

ولعل أقرب حالة لهذه الواقعة هي فضيحة تسريب بريد هيلاري كلينتون الإلكتروني عام 2016، عندما قامت أثناء فترة توليها منصب وزيرة خارجية الولايات المتحدة بين عامي 2009-2013، باستخدام خادم بريد إلكتروني خاص من أجل الاتصالات العامة الرسمية بدلا من استخدام حسابات البريد الإلكتروني الرسمية لوزارة الخارجية والمحفوظة على خوادم فيدرالية آمنة، وقد تضمنت الرسائل المسربة معلومات "سرية" "وسرية للغاية".

معركة قضائيةمن المحتمل أن تصل إلى المحكمة العليا


في 26 مارس 2025 قامت منظمة من منظمات المجتمع المدني غير الحزبية تسمى "أميركان أوفرسايت" والمختصة بالمراقبة الحكومية برفع دعوى أمام المحكمة الابتدائية الأميركية لمقاطعة كولومبيا بواشنطن العاصمة، طالبت فيها بإلزام إدارة الرئيس ترمب باحترام أحكام الدستور ومحاسبة المسؤولين في الإدارة الذين خالفوا قانوني الإجراءات الإدارية والسجلات الفيدرالية وإلزام الحكومة بحفظ الوثائق والمراسلات الحكومية بشكل أكثر انضباطا.
واختصمت المنظمة فيها كلا من: وزير الدفاع، ومديرة الاستخبارات الوطنية، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية، ووزير الخزانة، ووزير الخارجية، بالإضافة إلى اختصام إدارة الأرشيف والوثائق الوطنية، وقد أمرت المحكمة بالتحفظ على المحادثات التي تمت بين يومي 11-15 مارس والقيام بفحصها وإعداد تقرير عنها لفحصها والتأكد من مدى قانونية ومشروعية هذه الرسائل.
وقد تحدد لنظر هذه الدعوى القاضي جيمس بوسبيرغ، وهو القاضي نفسه الذي نظر عدة دعاوى أخرى أثارت جدلا واسعا، مثل الحكم برفض دعوى عام 2012 بإلزام الحكومة الأميركية بنشر صور مقتل زعيم تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن، والدعوى الخاصة بفضيحة تسريب بريد هيلاري كلينتون الإلكتروني عام 2016، والدعوى الخاصة بسجلات الضرائب الخاصة بالرئيس دونالد ترمب عام 2017، وأخيرا القضية الخاصة بإبعاد وترحيل مهاجرين من أصول فنزويلية عام 2025 استنادا إلى قرارات رئاسية من الرئيس ترمب بالمخالفة لقوانين الهجرة والجنسية الأميركية.

font change

مقالات ذات صلة