"السرية المصرفية" مفتاح للازدهار أم بوابة للانهيار؟

اتفاقات دولية للجم مفاعيلها، وفي لبنان استحالت سببا للهدم والفساد ولم يعد من مبرر لاعتمادها

Shutterstock
Shutterstock

"السرية المصرفية" مفتاح للازدهار أم بوابة للانهيار؟

تعود حكاية السرية المصرفية الى إلغاء مرسوم "نانت" في عام 1685 الذي كان يعطي بعض الحريات للبروتستانت في فرنسا، مما تسبب بفرار العديد منهم، وغالبيتهم من المقتدرين، إلى جنيف في سويسرا. ومن هناك، وعلى الرغم من سخطهم على الملك الفرنسي، واصلوا تمويله لأنه كان من الصعب أن يحظوا بعميل أفضل منه. ومن أجل التغطية على الأمر، ولدت فكرة سرية عمل المصرفيين، فحظر مجلس مدينة جنيف في عام 1713 على هؤلاء المصرفيين "الكشف عن عملائهم لأي شخص ثالث إلا بموافقة صريحة من مجلس المدينة".

بعدها، أتاحت الثورة الفرنسية ظرفا مواتيا لتطور السرية المصرفية، إذ وجد النبلاء الفارون من الثورة في سويسرا المكان المثالي للجوء بسبب الأمان المالي الذي توفره. وترسخ لدى المصرفيين في سويسرا أن هذا الأمان ليس في مصلحة عملائهم فقط، بل أيضا لمصلحتهم هم أيضا، إذ مكنهم من اجتذاب الثروات الكبيرة من الخارج.

ظهر أول نص يتعلق بالسرية المصرفية في قانون مصرف كانتون بال عام 1899، وانتشر لاحقا في قوانين مصارف الكانتونات الأخرى، ما بين عامي 1912 و1931.

العامل الأساس وراء انتشار السرية المصرفية كان استيعاب تدفق الأموال الناتجة من أعمال غير مشروعة بهدف تبييضها، بدءا بالمخدرات في ثمانينات القرن العشرين، واحتلت المرتبة الثانية بعد تجارة الأسلحة

لاحقا، دفع صعود اليسار المتطرف والفاشية في أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين، الى انتقال مبالغ من الثروات من فرنسا ويهود ألمانيا إلى سويسرا. وكان رد السلطات السويسرية على تقييدات جارتها هذا الأمر، إصدار قانون في عام 1934 يفرض عقوبات جنائية ضد المصرفيين الذين يرفعون السر المصرفي من دون رضى العميل، بل سجنهم لمدة 5 سنوات، لكن مع الاحتفاظ بأحكام التزام إبلاغ السلطة والشهادة أمام القضاء.

انتشار السرية المصرفية

النجاح الذي حققته سويسرا في استقطاب المدخرات الأجنبية بفعل سريتها المصرفية، دفع العديد من الدول إلى اقتفاء أثرها. بداية، كانت النمسا، حيث نص الدستور على السرية، ثم لوكسمبورغ التي باتت تعتمد على نسبة 40 في المئة من ناتجها القومي على الدخل المتأتي من الخدمات المالية، وليختنشتاين وموناكو وأندورا وسان مارينو وجزر فيرجن البريطانية وجيرسي وجزر كايمان وبرمودا وهونغ كونغ وسنغافورة ولبنان وغيرها.

.أ.ف.ب
مقر البنك السويسري الوطني في مدينة بيرن، 25 سبتمبر 2019

العامل الأساس وراء انتشار السرية المصرفية، كان استيعاب تدفق الأموال الناتجة من أعمال غير مشروعة بهدف تبييضها، بدءا بالمخدرات في ثمانينات القرن العشرين، حين بلغ حجم كتلتها النقدية ما بين 2 و5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، واحتلت المرتبة الثانية بعد تجارة الأسلحة. ثم الأموال الناتجة من الجريمة المنظمة والتهرب الضريبي والفساد في التسعينات الماضية. وقد نبهت أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 إلى مدى خطورة السرية المصرفية، ليس فقط في "تبييض" الأموال الملوثة بل أيضا في "تسويد" الأموال النظيفة لغايات إرهابية.

وتعززت النشاطات الإجرامية السابقة بعولمة مالية وبانغماس عدد من مكاتب الخبرة القانونية والمحاسبية والمالية في تقديم خبراتهم لتسهيل عمليات التبييض من دون خطر المساءلة القانونية، وساعدهم التطور التقني في مجال الاتصالات والمعلوماتية.

إعادة النظر دولياً في السرية المصرفية

في المقابل، ظهرت اعتراضات ترفض أن تأتي الوفرة المالية الى دولة على حساب حقوق خاصة وعامة أساسية، وكانت الباكورة مؤتمر قانوني عقد في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1971 بتنظيم من "مركز الاقتصاد المصرفي العالمي"، و"المركز الجامعي للدراسات للمجموعة الأوروبية" التابع لجامعة باريس، صدرت في نهايته توصية بعدم جواز الاعتداد بالسر المصرفي عند إقامة الدعوى في شأن واقعة تشكل جريمة وفقا لقانون بلد القاضي.

في 1989، أنشئت مجموعة العمل المالي (FATF) بمبادرة من مجموعة الدول الصناعية السبع، لسن التوصيات والمعايير لمكافحة غسل الأموال وانتشار التسلح. أضيف إليهما تمويل الإرهاب عام 2001 بعيد هجمات 11 سبتمبر/أيلول

لاحقا، أطلقت مبادرات دولية متعددة ومتنوعة للحؤول دون استخدام السرية المصرفية في تسهيل ارتكاب الجرائم أو التمويه عليها، فكانت بداية العد العكسي للسرية.

ففي العام 1988، وقعت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الاتجار غير المشروع بالمخدرات والمؤثرات العقلية، وأشير فيها إلى إمكان أن تخول كل دولة محاكمها أو غيرها من سلطاتها المختصة تقديم السجلات المصرفية أو المالية أو التجارية أو التحفظ عليها وعدم الامتناع عن تقديم المساعدة القانونية المتبادلة بحجة سرية العمليات المصرفية.

Shutterstock

وفي العام التالي، 1989، أنشئت مجموعة العمل المالي (Financial Action Task Force-FATF) بمبادرة من مجموعة الدول الصناعية السبع لسن التوصيات والمعايير لمكافحة غسل الأموال وانتشار التسلح. أضيف إليهما تمويل الإرهاب عام 2001 بعيد هجمات 11 سبتمبر/أيلول. 

في ما بعد، اعتمدت آلية تظهر مدى التزام الدول تلك المعايير. وقد نصت التوصية رقم 40 على عدم جواز اعتداد الدول بالقوانين التي تلزم مؤسساتها المالية الحفاظ على السرية كسبب لرفض تقديم التعاون.

بعدها اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 2000 اتفاقية مكافحة الجريمة المنظمة غير الوطنية، التي عرفت باتفاقية باليرمو، وأشير فيها إلى القيود نفسها المنصوص عليها في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الاتجار غير المشروع في المخدرات والمؤثرات العقلية، في ما يتعلق بسرية العمليات المصرفية.

تأسس قانون الامتثال الضريبي الأميركي على أساس الجنسية لا الإقامة، خلافا لقاعدة إقليمية القوانين. فقد خاطب القانون مباشرة المصارف والمؤسسات المالية في كل دول العالم داعيا إياها للإبلاغ الضريبي التلقائي لمصلحة الضرائب الداخلية الأميركية

وفي عام 2003، تم توقيع الاتفاقية الأممية لمكافحة الفساد، فألزمت كل دولة طرف اعتماد آليات مناسبة في نظامها القانوني لتذليل العقبات التي قد تنشأ من تطبيق قانون السرية المصرفية في حال القيام بتحقيقات جنائية في أفعال مجرمة.

ما الفرق بين"فاتكا" و"غاتكا"؟

في العام 2010، اعتمدت الولايات المتحدة الأميركية في عهد الرئيس باراك أوباما قانون الـ"فاتكا" (FATCA-Foreign Account Tax Compliance Act)، وذلك على أثر الكشف عن واقعة فتح 52 ألف أميركي حسابات "خارجية" في سويسرا بقيمة 14,8 مليار دولار للتهرب من دفع الضرائب في بلدهم الأم.

وقد أسس قانون الامتثال الضريبي الأميركي على أساس الجنسية لا الإقامة، خلافا لقاعدة قانونية دولية معروفة هي إقليمية القوانين. فقد خاطب  القانون مباشرة المصارف والمؤسسات المالية في جميع دول العالم داعيا إياها للإبلاغ الضريبي التلقائي لمصلحة الضرائب الداخلية الأميركية (Internal Revenue Service)، عن الحسابات المالية المنتجة للدخل العائدة لمواطنيها المقيمين  سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها ولأصحاب بطاقة الإقامة الدائمة، تحت طائلة إدراج المصارف المتقاعسة على القائمة السوداء، وبالتالي خسارة سمعتها وعلاقاتها مع المصارف الأميركية المراسلة.

وتضمنت آلية التنفيذ طلب المصارف  من العملاء التوقيع على نموذج ينكر أو يؤكد علاقاتهم بالولايات المتحدة  مع منح الإذن برفع السرية المصرفية عن حساباتهم بموجب ترخيص موقع مسبقاً يسمح بنقل المعلومات المطلوبة إلى مصلحة الضرائب الاميركية.

في عام 2014، دفع الغش الضريبي كما التهرب الضريبي المشروع  المسند إلى اتفاقات تجنب الازدواج الضريبي، منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) إلى اعتماد قانون الامتثال الضريبي للحسابات العالمية (Global Account Tax Compliance Act) أو الـ(GATCA). وقد تضمن معايير جديدة بشأن الشفافية وتبادل المعلومات المالية، بدأت بفرض تبادل المعلومات عند الطلب، قبل أن يصبح تلقائيا لاحقا، بمقتضى معيار الإبلاغ المشترك (CRS)، بحيث يستحيل على مواطني أي من هذه الدول إخفاء أو التهرّب من دفع الضرائب على أموالهم المنقولة، من خلال توظيفها أو ايداعها في مصارف دول أخرى.

الفرق بين الـ"فاتكا" والـ"غاتكا" اللذين يرميان إلى مكافحة الإفلات من العقاب الضريبي، هو أن الإبلاغ في الأولى يتم من جانب واحد من المصارف إلى الإدارة الأميركية. أما في الـ"غاتكا"، فيكون الإبلاغ من دولة إلى دولة وبشكل متبادل

الفرق بين الـ"فاتكا" والـ"غاتكا" اللذين يرميان إلى مكافحة الإفلات من العقاب الضريبي، هو أن الإبلاغ في الأولى يتم من جانب واحد من المصارف إلى الإدارة الأميركية. أما في الـ"غاتكا"، فيكون الإبلاغ من دولة إلى دولة وبشكل متبادل. وهو وضع يشجع على نقل الأموال إلى الولايات المتحدة التي لم تنضم إلى الـ"غاتكا" ولا إلى المنتدى العالمي بشأن الشفافية وتبادل المعلومات الضريبية، مما مكنها من الحصول على معلومات حول سكانها في الخارج أكثر من تقديم معلومات حول الأجانب الذين لديهم حسابات على أراضيها. لذا تم تصنيفها بالدولة الأولى في مؤشر الغموض المالي.

وتفاديا لهروب كبير لرؤوس الأموال من المراكز الأوروبية المعروفة بسريتها المصرفية المتطورة، كالنمسا وبلجيكا ولوكسمبورغ، في حال إلزامها إبلاغ جيرانها بمعلومات ضريبية عن مواطني الأخيرة لديها، تم التوافق على أن تقوم هذه المراكز بفرض ضريبة على الفائدة التي تدفع لزبائن غير مقيمين يعيشون في دول أخرى في الاتحاد الأوروبي و"تحبس" لصالح هذه الدول، مما سيمكن الأشخاص من إبقاء حساباتهم سرية ومخفية عن السلطات الضريبية في دولهم.

ما مصير السرية المصرفية الشهيرة في لبنان؟

في لبنان، صاحب مشروع إدراج السرية المصرفية في التشريع اللبناني هو السياسي الفذ الراحل ريمون إده، وقد اقتبسه من القانون السويسري. لكن النص اللبناني تجاوز الأخير بإلزام المصارف التكتم اتجاه السلطات العامة، بما فيها القضائية، باستثناء طلبات الأخيرة في قضايا الإثراء غير المشروع.

وكانت الفكرة أن المنافع التي سيجنيها الاقتصاد من استقطاب الرساميل الناجمة عن الفورة النفطية، والهروب من ثورات مصر والعراق وسوريا، ستعوض كفاية الأضرار التي قد يلحقها التشريع الجديد بخزينة الدولة لجهة تحصيل الضرائب. لاحقا، ضغطت الاتفاقات الدولية التي أبرمت لمكافحة تشوهات السرية المصرفية على لبنان لتعديل قوانينه ليتوافق مع أحكامها. فتم رفعها بالقدر المطلوب في قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وقانون التصريح عن الذمة المالية والمصالح ومعاقبة الإثراء غير المشروع وقانون مكافحة الفساد في القطاع العام. 

وقد كشفت الحرب اللبنانية، والانهيار المالي، عن إمكانات للتلطي وراء السرية المصرفية لعرقلة التدقيق الجنائي في عمليات المصارف ومصرف لبنان، فسن قانون خاص لرفعها لسنة واحدة، ودفعت الظروف إلى تمديدها سنة أخرى ولمصلحة الشركة المدققة حصرا. لكن ذلك لم يكن مجديا لتجاوز كل العراقيل التي وضعها حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامه، مما أدى إلى إصدار الشركة تقريرا اعترفت فيه بأن الرفع الموقت للسرية غير كافٍ لتحديد المسؤوليات الجنائية.

السرية المصرفية في لبنان فقدت مبررات اعتمادها، وباتت تستخدم للهدم والتخريب بالتغطية على سرقة الودائع والجرائم المالية وعمليات الفساد، وسيؤدي التمسك بها إلى مزيد من التشكيك في سلامة النظام المصرفي اللبناني، وسيقف عائقا أمام الإصلاح

كذلك، في عام 2022 أجري تعديل جوهري لقانون السرية المصرفية بناء لطلب من صندوق النقد الدولي، فألغيت الحسابات المرقمة ووسع نطاق الوصول إلى المعلومات المصرفية من قبل قضاة التحقيق والنيابة العامة، وهيئة التحقيق الخاصة، والهيئة الوطنية لـمكافحة الفساد، والإدارة الضريبية، ومصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع.

السرية المصرفية مفيدة في دولة يسودها القانون

لكن صندوق النقد رأى أن التعديلات التي أجريت غير كافية لأنها تطلق يد لجنة الرقابة على المصارف ومصرف لبنان في التدقيق ابتداء من تاريخ صدور القانون، مما يحصر رفع السرية المصرفية بالحسابات والقيود الجديدة، فيحول تاليا دون المحاسبة، ويعفو عن كل الجرائم السابقة لتاريخ صدوره لصعوبة إثباتها في غياب الكشف عنها. فاقترح مجلس الوزراء تطبيق القانون بأثر رجعي لرفع السرية لمدة عشر سنوات من تاريخ صدور قانون عام 2022، آخذا في الاعتبار أن مبدأ عدم رجعية القوانين ينطبق حصرا على القوانين التي تتسبب بجرائم جديدة أو تنص على عقوبة أكثر قسوة، وهذا ليس الحال في موضوع رفع السرية المصرفية.

رويترز
البنك المركزي اللبناني في العاصمة بيروت، 3 سبتمبر 2024

ما يجب الإقرار به في النهاية، هو أن السرية المصرفية في لبنان فقدت مبررات اعتمادها، وباتت تستخدم للهدم والتخريب بالتغطية على تبديد الودائع والجرائم المالية وعمليات الفساد المستشرية في إدارات الدولة وبين المسؤولين السياسيين وكبار الموظفين والمصارف. وسيزيد التمسك بها، التشكيك في سلامة النظام المصرفي اللبناني، وسيقف عائقا أمام الإصلاح.

يقول الاقتصادي السويسري جان بيار غلفي إن نظام السرية المصرفية لا يكفي وحده كي يجعل من دولة نامية دولة مالية قوية، فهي لا يمكن أن تصبح في أوج نموها مركزا ماليا متطورا، لكن يخضع استمرار نجاح ذلك الى عوامل طارئة قد تسرع وتيرة النمو أو بالعكس تقضي عليه، ولا يكون للسر المصرفي في كل ذلك سوى دور مكمل وفرعي. ما يجب إدراكه هو أن السرية المصرفية هي نظام قانوني يفرض ذاته تلقائيا عند اكتمال دولة القانون وليس قبل ذلك ولا يمكن أن يعول عليها وحدها في جعل المجتمع ذا أداء مالي فاعل.

font change