يرتبط المؤرخ بالمجتمعات ارتباطاً وثيقاً، فيجتهد للاطلاع على لغاتهم وقراءة خطوطهم، وضرورة الدراية بالجغرافيا الطبيعية والسياسية والتاريخية والدينية للمكان، كي يستطيع أن يقوم بمهارة التفسير والترتيب على مسرح الأرض ومصائر الناس وعلومهم الأساسية دون دوافع خاصة، والتجرد من العواطف والأهواء والميول الذاتية... ليصبح في النهاية مرجعاً.
على أن هذا التمهيد يجعلني أقدم مؤرخاً من نوع آخر، يعنى بالخليج العربي، وإجمالاً بجزيرة العرب، وهو المعتمد البريطاني في الخليج جون لوريمير، الذي قتل نفسه بالخطأ في فبراير/شباط عام 1914، أثناء تنظيفه مسدسه الأوتوماتيكي الجديد الذي طلبه من مومباي. كان في غرفة ملابسه بمدينة بوشهر، ليجدوه ملقى على الأرض ميتاً عن عمر يناهز الثالثة والأربعين متأثراً بطلق ناري أطلقه على نفسه. وبعد تحقيق- حسب ما ذكر في صحيفة "تايمز أوف إنديا"- فإن لوريمير أثناء فحص مسدسه، سحب الزناد وأطلق آخر رصاصة في معدته، مسببة تمزقاً في الأوعية الدموية الرئيسة، ويحتمل أنه فقد الوعي فوراً وتوفي في اللحظة نفسها.
ولم يكن على بال أحد أن جون لوريمير- وهو أحد مديري شركة الهند الشرقية الإنكليزية، وأحد أكفأ موظفي وزارة الخارجية البريطانية- أن يترك دليلاً جغرافياً ضخماً شبه مكتمل، هو عملٌ موسوعي مؤرخ بدقة الإحصاء والحقائق، مع تحليل ذي قيمة بالغة للحكومة البريطانية، لما فيه من معرفة خاصة بالخليج العربي، ففي الدليل رصد كامل عن مدن وقرى الخليج وعمان ووسط جزيرة العرب واليمن... استُخدم بعد وفاته ليساهم في السيطرة على المنطقة.
بالطبع لم يخرج الدليل إلى العلن، بل بقي يتداول سراً بين العاملين في الحكومة البريطانية والهندية حتى عام 1953، وظل تحت السيطرة المشددة حتى عام 1970، ليتم الإفراج ومن ثم الترجمة، والنتيجة أن "الدليل" بقي دليلاً على انتصارهم، بفضل شخصية عسكرية سياسية نادرة مثل جون لوريمير، ودوره المحوري في توثيق تاريخ الخليج في دراسة غير مسبوقة ليكشف فيها عن حياة الخليجيين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في ديارهم برا وبحراً، وإلقاء الضوء على كل ما هو غير معروف عنهم، بتقارير مقنعة، ولا غنى عنه حتى اليوم، فلم يُنشر عمل يماثله، لا قبله ولا بعده، والجدير بالذكر أنه ليس بشخصية مستقلة كمؤرخ مستقل، لأنه جَنّدَ رجالاً ومغامرين وجواسيس يبحثون بأوامره، ويقدمون أرقاماً دقيقة لكل الموجودات، مثل عدد الآبار والأشجار، وأعداد الناس في كل قبيلة، وعدد رؤوس الحيوانات التي يملكونها وأنواعها، وعدد أسلحتهم وسفنهم وقواربهم، ومستوى تجارة كل عائلة على حدة، وأين تؤدي الطرقات... من مدينة أو قرية أو وادٍ بامتداد جزيرة العرب، من البصرة ومدن الخليج والإمارات إلى عمان ووسط الجزيرة العربية حتى اليمن... لتقرأ الدليل وكأنك في استكشاف شيق، لمصدر أساسي لا يضاهى بعد قرابة قرن من إنشائه.
وبالتالي لا غرابة كيف كانت صدمة موته مأساوية وصاعقة على بريطانيا، ليرسلوا سفينة خاصة لنقله بعد وفاته بأربعة أيام، مع طقوس الجنازة العسكرية المهيبة في بحر الخليج، بحضور الجاليات الهندية والفارسية واليهودية، ونقله من الخليج إلى مسقط رأسه في اسكتلندا.
تقرأ الدليل وكأنك في استكشاف شيق، لمصدر أساسي لا يضاهى بعد قرابة قرن من إنشائه
جون جوردون لوريمير، ترك هذا العمل واشتهر به، فالمجلد ضخم جداً، وهو بعنوان: "دليل الخليج العربي وعُمان ووسط الجزيرة العربية"، قام بتأريخ المنطقة بهدف السيطرة العسكرية، ويبدو أنهم أمروه بالبدء فيه منذ عام 1908، وربما قبل ذلك لما لديه من خبرة سابقة لكتاب بعنوان "القانون العرفي والمدني لدى مجتمعات البشتو الأفغانية والباكستانية"، بالإضافة إلى كتاب "اللغة البشتونية ومفرداتها" الصادر عن جامعة أدنبرة عام 1902، ليتم تحويله إلى الخليج العربي، ويتحمل مسؤولية جمع المعلومات الدقيقة في مجلدين ضخمين، يحتوي كل منهما على خمسة آلاف صفحة، المجلد الأول يتعلق بالجزء الجغرافي، والآخر بالجزء التاريخي، حتى صدر مجلده الضخم عام 1955، أي بعد حوالي أربعة عقود على وفاته، وتخرج الموسوعة التي كانت مخصصة للاستخبارات الاستعمارية، عن جغرافيا المنطقة، لكنه أذهل العرب أنفسهم في حقائقه ومعلوماته...
واليوم يستعين الباحثون بالدليل في دراساتهم، والبعض منهم يطلقون عليه "دليل لوريمير". وتذمر البعض من حجمه الضخم، وسعره المرتفع وكان شبه عائق، وغير متاح كثيراً سوى في المكتبة البريطانية، ولكن ذلك تغير عبر مؤسسة قطر التي قامت بشراء ترجمة المكتبة البريطانية، والتي تكاد تنتهي من رقمنة الدليل بالكامل ليكون متاحاً مجاناً عبر الإنترنت، بجانب سجلات مكتب الهند وكل ما يتعلق بالخليج العربي.