مسلسل "مراهقة" والجريمة بوصفها "إيموجي" آخر في عالم "المانوسفير"

عوالم متجاورة ومتناقضة في آن واحد

 Netflix © 2024
Netflix © 2024
أوين كوبر في دور جيمي ميلر، وإيرين دوهيرتي في دور بريوني أريستون، في مسلسل "Adolescence"

مسلسل "مراهقة" والجريمة بوصفها "إيموجي" آخر في عالم "المانوسفير"

نعيش في غابة رموز افتراضية تنتج أفعالا واقعية وتحدد الهويات وصورة الذات وملامح الشخصية. تحكم هذا العالم علاقات القوة والسيطرة على نحو لا يستند إلى أي نظام قيم معياري وأخلاقي، كما تبدو القوانين ومناهج التربية والتعليم عاجزة عن مواكبة هذه العلاقات، وتشكل في كثير من الأحيان مجالا لنموها وتطورها.

بناء على ذلك، يمكن التنمر الإلكتروني عبر استخدام رموز معينة اكتسبت صلابة ومعنى باتت بموجبها أفعالا مكتملة الأركان، أن تقتل الذات في حال توجهت إلى شخص معين. ينطلق مسلسل "مراهقة" Adolescence المعروض على منصة "نتفليكس" من هذا البعد ليطرح أسئلة قاسية بأسلوب صارم وثقيل، لا يترك مجالا للمهادنة ولا يعطي فرصة للتفريج عن النفس والنهايات السعيدة.

بأسلوب اتهامي ومقاربة إدانية، يستعرض مخرج العمل المكون من أربع حلقات، فيليب بارانتيني والكاتبان ستيفن غراهام وجاك ثورن، أخطار الانفصال اللغوي بين المراهقين والعائلة والمدرسة والمجتمع والسلطة، إذ يستند كل طرف إلى مرجعية لغوية ذات دلالات مختلفة ومتناقضة مع باقي الأطراف، فيسود العجز عن الفهم والتواصل، وتاليا يصبح الضبط مستحيلا.

عالم المراهقة كما يعرضه المسلسل، يحكمه المؤثرون والرموز، ويتحرك في وسط عائلي مشبع بالتقاليد، وينمو في بيئة تقدس الشعبية والظهور وفي مدارس ليست سوى بؤر عنف وتنمر.

الجريمة لغة رمزية

ينطلق المسلسل من مشهدية جريمة قتل يرتكبها مراهق في حق زميلته إثر تعرضه لتنمر إلكتروني، ليفتح أبواب الأسئلة حول كيفية تشكل الجريمة في عالم الرموز، وكيف ترسم الحدود بين الواقعي والافتراضي، وعن "المانوسفير" Manosphere (وهو اختصارا المصطلح الذي يشمل مجموعة المواقع والمنتديات التي تروج للذكورية) وأبطاله ونجومه وثقافته الشائعة، وعن تحول المؤسسات المختلفة إلى جزر معزولة تتحدث كل منها بلغة غريبة لا يفهمها الآخر.

يستعرض العمل مخاطر الانفصال اللغوي بين المراهقين والعائلة والمدرسة والمجتمع والسلطة، إذ يستند كل طرف إلى مرجعية لغوية ذات دلالات مختلفة ومتناقضة

يتحرك البناء الإيقاعي للمسلسل ضمن ما يمكن تسميته باستراتيجيا الصدمة، التي تسيطر على تفاصيل العمل وتحكمها، سواء من الناحية البصرية أو السيناريو أو أداء الممثلين. خيار اللقطة الواحدة المعتمد في الحلقات الأربع، لا يترك مجالا للنجاة من أي تفصيل مهما كان صغيرا وعابرا، وكأنه انعكاس لرغبة في موازاة العالم الافتراضي ورموزه ببنية شديدة الواقعية، وإظهار تأثيره الحاسم بوصفه الصانع الفعلي للواقع.

 Netflix © 2024
مشهد من المسلسل

في مشهد اقتحام منزل العائلة البسيطة، تحضر السلطة بسطوتها وأدواتها، بالرجال والأسلحة والصراخ والقمع والتكسير، لكن المجرم المطلوب، وهو المراهق ذو الثلاثة عشر عاما، يظهر في هذه اللحظة طفلا مرعوبا يبول على نفسه من الخوف.

لا يعرف فعلا سبب القبض عليه. الجريمة التي ارتكبها ليست في نظره سوى استكمال لمنطق التبادل الإلكتروني الرمزي، أو رد فعل على ما كان لحق به من قتل معنوي عبر التنمر، فكانت الجريمة التي ارتكبها قتلا موازيا لا مجال فيه للتفرقة بين الواقعي والافتراضي. رعبه كان الحقيقي، وكانت تلك اللحظة هي الوحيدة التي تتمثله بوصفه طفلا، من خلال ارتباطها بواقعه البيولوجي الذي تمظهر في التعبير عن الرعب بالبول اللاإرادي. كل المشهديات اللاحقة ستجعل تلك اللحظة مستحيلة، وتجعل استحالتها ذنبا يتشارك الجميع في صناعته، حيث لا مجال في العالم المعاصر لأن يكون المرء طفلا.

 Netflix © 2024
أوين كوبر في دور جيمي ميلر، في مسلسل "Adolescence"

العماء اللغوي

يكشف المسلسل عن بنى ملتوية وحادة. المحقق خلال بحثه عن الجريمة يصطدم بمحدودية أساليبه ومرجعياته التي تجعله خارج المسألة أساسا، فهو غير قادر على فهم الأسباب التي أنتجت الجريمة وتمثلها. يتعامل معها كفعل أنتجه المراهق المجرم ويكتفي بجمع الإثباتات على ذلك، والتي تصبح حاسمة مع ظهور فيديو يصور لحظة وقوعها، لكن مساراتها بقيت غير قابلة للكشف، قبل أن يساعده ابنه الطالب في المدرسة التي ينتمي إليها كل من المراهق القاتل والمراهقة القتيلة. يدله على درب الرموز، فيصبح قادرا على فهم ما جرى بشكل أفضل، ليس في ما يتعلق بمسار الجريمة، ولكن في ما يتصل بعلاقته معه كذلك، حيث ينبهنا إلى أنه يتبادل معه لغة غريبة عليه، إذ يناديه "بني"، بينما يحتج الولد غاضبا قائلا إن هذا ما تنادي به الغرباء.

الواقعية المفرطة التي يتبناها العمل، من خلال التصوير في مواقع حقيقية مثل "بونتفراكت"، و"كاري فيو"، و"مينستروب كوميونيتي كوليدج"، واستخدام منشأة في "ساوث كيركبي" لبناء المشاهد الداخلية، انعكست بشكل مباشر على أداء الممثلين.

كان من الصعب تصديق أن المراهق أوين كوبر، الذي يؤدي دور جيمي ميلر، يمثل للمرة الأولى. كما كانت مشاركة كاتب القصة ستيفن غراهام في التمثيل في دور الأب لافتة. وينطبق الأمر على الأداء الصارم والمنضبط للممثلين: آشلي والترز في دور المحقق المفتش لوك باسكومب، وإيرين دوهرتي في دور الطبيبة النفسية بريوني أريستون، وكريستين ترماركو في دور ماندا ميلر والدة جيمي، إميلي  بيز في دور ليزا ميلر الأخت الكبرى لجيمي، وفاي مارساي في دور المحققة الرقيب ميشا فرانك، حيث لم يفلت منهم أي تعبير أو حركة، وبرز التناغم بين حركات الجسد المتوترة والقلقة وتعبيرات الوجه وطبقات الصوت، والانسجام بين الممثلين والأمكنة المغلقة التي اختيرت للتصوير، مما أبرز التطابق بين الأحوال النفسية وروح المكان، للإيحاء بحالة الانغلاق والصدمة.

لا أحد في المسلسل يسيطر على نفسه وعلى عواطفه وانفعالاته، ولا أحد ممتلك لدوره ووعيه أو يبدو قادرا على تعريفه

لا أحد في المسلسل يسيطر على نفسه وعلى عواطفه وانفعالاته، ولا أحد ممتلك لدوره ووعيه أو يبدو قادرا على تعريفه. المحقق أب فاشل، المحللة النفسية تبكي، الأب يظهر عاجزا، الأم تحيا الصدمة، الأخت تحاول بيأس الحفاظ على بنية العائلة. لا أحد منهم يمتلك لغة عامة ومتبادلة. يغرق كل منهم في عالمه عاجزا عن تعريف نفسه وتحديد دوره.

من الضحية ومن القاتل؟

لعل ذلك البعد الحاد في طرح المشكلة، هو ما يفسر الشعبية العارمة التي نالها المسلسل، الذي بات بسرعة قياسية أحد أكثر مسلسلات "نتفليكس" مشاهدة، وحظي بتقييمات نقدية عالية على المواقع المتخصصة، وكذلك في المنصات التي تستجلي آراء المشاهدين. وكان بارزا قرار رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر دعم عرضه مجانا في جميع مدارس بريطانيا. لقد وجدت فيه المؤسسات الرسمية قدرة على طرح أزمة تبدو عاجزة عن فهمها وقراءتها، فبادرت إلى تعميم ودعم ما يطرحه المسلسل كآلية تكفير واستبدال واعتراف بالقصور، وخصوصا بعد شيوع الجرائم التي ترتكب بسبب التنمر الإلكتروني وطروحات الذكورية السامة و"المانوسفير" الذي يقوم على تعميم كراهية النساء والدفاع عن صورة ذات ذكورية بمواصفات عنيفة واغتصابية.

 Netflix © 2024
مشهد من المسلسل

تنبني اللغة على نظام تعريف وتفسير يتسم بالعمومية والشمول والقدرة على التعبير الواضح عن الأفكار والمشاعر. حتى الرموز والأيقونات، فإن تفسيرها يحال إلى اللغة. تقع المشكلة حين يختل نظام التواطؤ العام على التعابير، ويضيق العالم الخاص بمجموعة ما إلى حدود الانحصار داخل دائرة تعبيرية تمتلك دلالاتها الخاصة المتداولة في إطار محدد. ينشئ هذا الواقع لغات داخل اللغة، فلا تعود إطارا تبادليا جامعا وعاما، بل تنشأ تمايزات وافتراقات قد تتطور إلى حدود القطيعة بين المجموعات المختلفة التي تتبادل في ما بينها نوعا من لغة سرية لها دلالات تستعصي على الجماعات الأخرى.

تتجاوز الأزمة حدود التعبير لتصل إلى صناعة المواقف والتفكير والسلوك وبناء الهوية. يطرح المسلسل تلك المسألة بأصالة لم يسبق أن عولجت بهذه الدرجة من العمق والحدة والجرأة. في كل لحظة، يضع المشاهدين أمام مسألة الشلل التعبيري والقطيعة اللغوية، وما تنتجه من قطيعة عامة واستحالة التشارك والفهم. يقود الجهل العلاقات وينتج الأفعال والمواقف على نحو دائم.

 Netflix © 2024
مشهد من المسلسل

ضابط الشرطة يستند في قراءته للجريمة على إرث بوليسي، يقول لزميلته المحققة إنه يجب البحث في سيرة الأب ليرى إن كان متحرشا، مما يعني أن الطفل ارتكب الجريمة كرد فعل على تلك المسرحية العائلية الاغتصابية الشائعة. تلك لغته التي لا يعرف سواها، وهي عاجزة عن قراءة واقع ما يحيط بمجتمع المراهقين من رموز. يبدو حين يتحدث مع زميلته واثقا ومطمئنا إلى لغته، ولكنها تخونه أمام ابنه المنتمي إلى جيل المراهقين.

المؤسسة العقابية بدورها، لا تعرف سوى لغة التجريم والإدانة. في مشهدية التحقيق مع الطفل، يطلب منه خلع ملابسه، فيعترض الوالد متسائلا إذا كان من المقبول في نظره أن يتعرى الولد أمام ذكرين بالغين ينظران إليه، فيكون جواب الشرطي: أنا لم  أرتكب جريمة؟ لغته تحتوي على توصيف للقاصر بأنه الكائن الذي سقط من العالم وبات آيلا للانتهاك، الذي من المفترض أن واجب السلطات حماية الناس منه.

 Netflix © 2024
مشهد من المسلسل

ومؤسسة التحليل النفسي تحيل إلى النقد الجذري الذي كان الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز وجهه اليها، في أنها تفرض على المريض رموزا مسبقة وجاهزة، ولا تصغي حقا إلى ما يعبر عنه. تعيد تاليا إنتاج السلطة عوض تفكيكها، وتعيد المريض إلى الأب والأم كمصدر لكل رموزه، في حين أن المريض يحاول أن يصنع لغة جديدة، فما يقوله ليس قصة تحتاج إلى تأويل، بل نشاط إنتاجي للرغبة يفكك العالم ويعيد تركيبه.

كيف أصبحنا غرباء عن بعضنا بهذا الشكل الحاد الذي يجعل القتل بمثابة سعي محموم إلى التواصل

في الحلقة الثالثة التي تنطوي على جلسة تحليل مطولة، يبرز المسلسل تلك الفكرة بوضوح. المراهق يكافح لكي يكون مسموعا ومرئيا. تتحدث المحللة عن أبيه وتسأله عنه، فيعترض محتجا، محاولا أن يمتلك الكلام، وأن يكون مرجعه ومصدره من دون جدوى.

 يسأل المحللة كيف تصف الناس، يضعها في مشكلة مع لغتها، ساخرا منها ومحاولا استجلاب اهتمامها، بينما لا تبالي سوى بالاحترافية والمهنية وتطبيق تعاليم المؤسسة ورصد عناصر القصة المكتوبة سلفا والتي جاءت كي تبحث عن شواهد عليها. جيمي يناضل باستماتة كي يتكلم، معتقدا أنها تأتي لتحدثه لأنها تهتم به، ولأنه قد يستطيع أن يكون محلا للإعجاب، وحين يتبين له أنه ليس كذلك، ينفجر الغضب والجنون، كرد فعل على الإقصاء الذي مورس ضده.

 Netflix © 2024
أوين كوبر في دور جيمي ميلر، وإيرين دوهيرتي في دور بريوني أريستون، في مسلسل "Adolescence"

يرينا المسلسل في لقطة مميزة، المحللة النفسية تبكي وكأنها ترثي أدواتها ومهنيتها العاجزة عن احتواء مأساة ذلك الطفل الذي دخل عالما يقوده أمثال أندرو تيت ونظرية الثمانين إلى عشرين، التي تعتبر أن ثمانين بالمائة من النساء ينجذبن إلى عشرين بالمائة من الرجال. تاليا فإن معظم الرجال الذين لا يتمتعون بمواصفات الجمال والثروة والقوة الجسدية، لا فرصة لهم في إقامة علاقة، وسيجدون أنفسهم في حالة من الـ" incel"، أي العزوبية القسرية، لا مجال للخروج منها إلا بالتحايل والخداع والأساليب الملتوية وغير الخاضعة للاعتبارات الأخلاقية.

الذاكرة الحية والحاضر المقفل

في الحلقة الرابعة، يختفي الطفل تماما وتروى سيرة العائلة، ويحاول الأب إيجاد كلامه ولغته عبر الذاكرة وحسب. يروي تاريخ الإغواء الذي كان بريئا في زمانه، والذي كان يقوم على احترام المرأة والتعبير عن الرغبة فيها باللطف وإبراز الاهتمام بأدوات بسيطة مثل المشاركة في الرقص والنزهات وما إلى ذلك.

 Netflix © 2024
ستيفن غراهام في دور إدي ميلر، وكريستين تريمَركو في دور ماندا ميلر، في مسلسل "Adolescence"

يعود إلى زمنه مستعرضا بعض التفاصيل الحميمة أمام ابنته التي تحتج على ذلك الكلام، ولكنه يبدو سعيدا وواثقا، بقدر ما ينفصل عن الحاضر الذي ينفجر قبل فترة من إصدار الحكم، باتصال من الطفل السجين يقول فيه إنه من الأفضل له الاعتراف بجريمته.

يعود الأب إلى الحاضر متلعثما وفاقدا لغته. يضع لعبة الدب التي تعود إلى طفله الذي كُرّس قاتلا على سريره، ويغطيها، وكأنه يدفن ذلك الطفل الذي صار ضحية وقاتلا، مبديا أسفه لعجزه عن حمايته. يتكثف هنا خطاب المسلسل الذي خلافا للمنطق السائد، يطلق الأسئلة ولا يعرض الأجوبة. فتكون الخلاصة الحادة التي يصوبها في وجه المشاهدين والسلطات هي السؤال: من القاتل ومن الضحية، وكيف أصبحنا غرباء عن بعضنا بهذا الشكل الحاد الذي يجعل القتل بمثابة سعي محموم إلى التواصل، أو رد فعل متطرف على استحالته.

font change

مقالات ذات صلة