كيف تنظر القاهرة الى هجمات أميركا على "الحوثيين"؟

مجرد عرض من أعراض أزمة أعمق

أ.ف.ب
أ.ف.ب
تصاعد دخان من ناقلة النفط اليونانية "سونيون" قبالة سواحل الحديدة في البحر الأحمر، بعدما هاجمها الحوثيون في اليمن في أغسطس الماضي

كيف تنظر القاهرة الى هجمات أميركا على "الحوثيين"؟

من المستبعد أن تُعوِّض مصر الولايات المتحدة عن قصف الميليشيات الحوثية في اليمن، وما قد يترتب على ذلك من استعادة حرية الملاحة في البحر الأحمر، وبالتالي انتعاش حركة قناة السويس.

وبرزت قضية التعويضات إلى الواجهة بعد أن نشرت مجلة "ذي أتلانتيك" مراسلاتٍ متبادَلة بين مسؤولين في الإدارة الأميركية عبر تطبيق التراسل المشفّر مفتوح المصدر "سيغنال" تناولت خطط الولايات المتحدة الهادفة لضرب الحوثيين في اليمن. بحث المسؤولون فرص الحصول على امتيازات اقتصادية من الجانبين المصري والأوروبي، مقابل ضمان أمن الملاحة البحرية في المنطقة.

كما استأثرت هذه الضربات الجوية باهتمام كبير، خلال المكالمة الهاتفية التي جمعت الرئيس الأميركي دونالد ترمب بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في الأول من أبريل/نيسان.

ولم تتضمن التغريدات التي نشرها ترمب على حسابه بمنصة "إكس" أي تفاصيل عن محتوى نقاشه مع الرئيس المصري. كما جاء البيان الصادر عن الرئاسة المصرية حول المكالمة مُجملا خاليا من التفاصيل أيضا.

غير أنه يمكن استشفاف موقف مصر من قضية التعويضات من خلال منهجية تعامل القاهرة مع هجمات الحوثيين على السفن التجارية في البحر الأحمر، منذ بدايتها في نوفمبر/تشرين الثاني 2023.

في الحقيقة، سبقت هجمات الحوثيين على السفن المارة بمضيق باب المندب والساحل اليمني للبحر الأحمر، الضربات الإسرائيلية على غزة بفترة طويلة، والتي جاءت ردا على الهجوم الذي شنته حركة "حماس" وفصائل أخرى من غزة على المستوطنات جنوب إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول.

إلا أن وتيرة هذه الهجمات ازدادت حدّة وعشوائية، تزامنا مع تصاعد القمع الإسرائيلي الوحشي لقطاع غزة، حيث فرضت سلطات الاحتلال حصارا شاملا، ومنعت وصول المواد الأساسية من غذاء وماء ووقود إلى المدنيين الفلسطينيين. وفي الحقيقة، لم يفت هذا التحليل على واضعي السياسة المصريين، الذين رأوا في تصاعد هجمات الحوثيين بالبحر الأحمر مجرد عرضٍ من أعراض أزمة أعمق: الحرب الإسرائيلية على غزة.

وقد أكدت الأحداث صحة الرؤية المصرية، عندما أوقف الحوثيون هجماتهم في البحر الأحمر عقب دخول الهدنة بين "حماس" وإسرائيل حيز التنفيذ في 19 يناير/كانون الثاني.2024 حيث أعاد تراجع هجمات الحوثيين إحياء آمال انتعاش حركة قناة السويس- الممرّ الأقصر بين آسيا وأوروبا، وأحد أهم مصادر النقد الأجنبي لمصر.

لم يفت هذا التحليل على واضعي السياسة المصريين، الذين رأوا في تصاعد هجمات الحوثيين بالبحر الأحمر مجرد عرضٍ من أعراض أزمة أعمق: الحرب الإسرائيلية على غزة

فقد أجبرت تلك الهجمات معظم سفن الحاويات وناقلات النفط على تحويل مسارها نحو طريق رأس الرجاء الصالح، الذي وإن كان أطول مسافة، فإنه أكثر أمانا، وهو الأمر الذي تسبب في خسائر مالية جسيمة لمصر، حرمتها من عائدات كان اقتصادها الوطني في أمسّ الحاجة إليها.

كشف الرئيس المصري عن خسارة بلاده ما يقارب 7 مليارات دولار من إيرادات قناة السويس خلال عام 2024، نتيجة الاضطرابات في حركة الملاحة بالبحر الأحمر، وبدأت ملامح انتعاش القناة تظهر مع إعلان عدد من شركات الملاحة الدولية عن عزمها إعادة سفنها إلى مسار قناة السويس، إلا أن تجدُّد الهجمات الإسرائيلية على غزة في 18 مارس/آذار 2024 دفع الحوثيين إلى استئناف هجماتهم، وذلك بعد إنذارات نهائية، كانوا قد وجهوها لإسرائيل بضرورة وقف عملياتها العسكرية ضد القطاع.

في ضوء هذه المعطيات، خلصت مصر إلى قناعة راسخة بأن إنهاء الحرب الإسرائيلية على غزة سيؤدي حتما إلى توقف هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، وهو الأمر الذي يُعيد قناة السويس إلى عملها بكامل طاقتها الاستيعابية. وعليه، أولت الدبلوماسية المصرية أولوية قصوى لإحياء اتفاق وقف إطلاق النار، حيث سعت- بالتنسيق مع الوساطتين الأميركية والقطرية- إلى تطوير آلية مرحلية مقبولة من جميع الأطراف.

وكانت مصر قد طرحت مؤخرا مقترحا جديدا ينص على الإفراج عن خمسة أسرى إسرائيليين أسبوعيا، على أن تنفذ إسرائيل المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار بعد الأسبوع الأول. وجاء هذا الاقتراح تتويجا لسلسلة مقترحات تفاوضية مصرية، ركزت على هدفين رئيسين: إنهاء الصراع الدائر، وإحلال السلام في المنطقة.

إلى جانب تفاعلها مع أطراف الصراع الرئيسين، حاولت مصر مد جسور التواصل مع لاعبين إقليميين مؤثرين، لاسيما إيران التي بدت في الأشهر الأولى للحرب، وكأنها تتبنى خطابا داعما لـ"حماس"، في إطار استراتيجيتها الإقليمية التي تتضمن دعم جماعات مسلحة كالحوثيين في اليمن.

وحتى قبل اندلاع حرب غزة، شرعت القاهرة وطهران في اتخاذ خطوات عملية لتحسين العلاقات الثنائية بعد عقود من التوتر المتجذر في الخلافات الأيديولوجية والاستراتيجية بين البلدين، والتي تعود جذورها إلى ما بعد الثورة الإيرانية عام 1979.

اي.بي.ايه
مقاتل حوثي يسير عبر الشاطئ وفي الخلفية سفينة شحن استولى عليها الحوثيون

وساهم هذا التقارب بين القاهرة (الحليف التقليدي للرياض) وطهران في دفع عجلة المصالحة السعودية-الإيرانية التي أُبرمت بوساطة صينية في مارس/آذار 2023. وشهدت الأشهر اللاحقة للمصالحة سلسلة من اللقاءات المباشرة، والمكالمات الرسمية بين مسؤولي البلدين، وهو الأمر الذي يعكس تحسنا ملحوظا في أجواء العلاقات المصرية- الإيرانية.

وتصاعدت وتيرة هذه الاتصالات بشكل ملحوظ بعد اندلاع الحرب الإسرائيلية-الحمساوية في غزة (أكتوبر/تشرين الأول 2023)، ثم تصاعدت أكثر مع بدء الهجمات الحوثية على الملاحة البحرية وإسرائيل (نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه).

وسعت الدبلوماسية المصرية عبر حوارها مع طهران إلى تحقيق غاية جوهرية: كبح امتداد الحرب خارج نطاق غزة، وهو خطر حذرت منه مصر في أكثر من مناسبة.

لا يرى صنّاع القرار المصريون ما يدفعهم لتوجيه الشكر لواشنطن على حملتها العسكرية ضد الحوثيين، إذ يدركون أنها لا تنطلق من حرصٍ على المصالح المصرية، بل لمعالجة تداعيات الأزمة التي فجّرتها السياسات الإسرائيلية

تستند الرؤية المصرية إلى يقين لا لبس فيه، مفاده أن الهجمات الحوثية على الملاحة البحرية ما هي إلا حصيلة طبيعية للعدوان الإسرائيلي على غزة، الذي يتلقى دعما أميركيا غير مشروط منذ تولي ترمب الرئاسة في يناير/كانون الثاني من هذا العام.

وهذا يطرح رؤية مصرية محتملة ترى أن الضربات الأميركية للحوثيين في اليمن لا تمثل خدمة للقاهرة، بل هي مجرد محاولة لاحتواء الفوضى الإقليمية التي أشعلتها إسرائيل عبر عدوانها الوحشي على غزة، وحروبها متعددة الجبهات. ولذلك، قد لا يرى صنّاع القرار المصريون ما يدفعهم لتوجيه الشكر لواشنطن على حملتها العسكرية ضد الحوثيين، إذ يدركون أنها لا تنطلق من حرصٍ على المصالح المصرية، بل لمعالجة تداعيات الأزمة التي فجّرتها السياسات الإسرائيلية.

غير أن امتناع القاهرة عن مكافأة واشنطن على جهودها لاستعادة الأمن الملاحي في البحر الأحمر- لو تحقق- قد يشكل منعطفا حرجا في العلاقات الثنائية، ويُخضعها لاختبارٍ إضافي في ظلّ التوترات الإقليمية القائمة.

وما زالت العلاقات الثنائية تعاني من تداعيات رفض مصر استقبال لاجئي غزة، وهو الموقف الذي أحبط محاولات ترمب لتحويل القطاع إلى ما أسماه بـ"ريفييرا الشرق الأوسط" ضمن رؤيته المثيرة للجدل.

ولم تكتفِ مصر برفض الرؤية الأميركية لإعادة تشكيل الأراضي الفلسطينية المدمرة، بل قدّمت مقترحا بديلا يرتكز على مبدأين: الحفاظ على وجود السكان (2.2 مليون نسمة) في أرضهم، وإعادة إعمار القطاع دون تهجير. وتسعى مصر جاهدة إلى حشد دعم دولي واسع لخطتها الرامية إلى إعادة إعمار غزة والحفاظ على هويتها الفلسطينية، في مواجهة المقترحات الأميركية المثيرة للجدل.

وأثبت ترمب خلال الأسابيع الماضية قدرته على تجاوز الخلافات مع القاهرة، إذ بادر في 1 أبريل/نيسان 2025 بالاتصال بالرئيس المصري، رغم رفض الأخير دعوة سابقة لزيارة البيت الأبيض في فبراير/شباط الماضي. كما أكد الرئيس السيسي في أكثر من مناسبة خلال الشهرين الماضيين تطلعه للتعاون مع الرئيس ترمب لتحقيق السلام الإقليمي.

إلا أن مدى قدرة العلاقات الثنائية على تجاوز هذا التحدي الجديد، المتمثل في امتناع مصر المحتمل عن تقديم تنازلات لواشنطن مقابل ضرباتها للحوثيين، يبقى أمرا ستكشف عنه التطورات القادمة خلال الفترة المقبلة.

font change