لم يتقدم الفكر السياسي العربي والإسلامي ويخطو تلك الخطوات التي مشاها الغرب في خروجه من مقولة الحق الإلهي إلى اعتماد الليبرالية الديمقراطية (المهددة حاليا). وهذه شكوى عامة عند كثير من الكتاب العرب والمسلمين يمكن العثور عليها في مؤلفات تعود إلى منتصف القرن العشرين وربما قبله.
وإذا كان من المجحف وضع الفكر الذي تناول السلطة وآلياتها عند العرب والمسلمين في خانة واحدة، فكذلك الأمر بالنسبة إلى الغرب الذي تبدلت أشكال السلطة فيه مرات عدة منذ سقوط الجمهورية في روما ثم تبني الدولة للديانة المسيحية كعقيدة رسمية على يد الإمبراطور قسطنطين ومن ثم قيام الإمبراطورية الرومانية المقدسة في القرون الوسطى وحركة الإصلاح الديني مع مارتن لوثر والحقبات الطويلة من الحروب التي امتزج فيها العاملان الديني والوراثي/السياسي.
يرى مؤرخون أوروبيون أن لحظة اعتناق قسطنطين المسيحية تأسست على أرضية تحولات سياسية كبرى كانت تجري في قلب الدولة، منها الأزمة الهائلة التي مرت بها الإمبراطورية الرومانية في القرن الثالث للميلاد واتخذت وجوهاً اقتصادية واجتماعية وشهدت حروبا أهلية وصراعات على السلطة واجتياحات من قبل القبائل الجرمانية وصعود دقلديانوس ثم ظهور الحاجة إلى تقسيم الإمبراطورية وانتقال العاصمة إلى الشرق واتخاذ القسطنطينية عاصمة للقسم الشرقي.
"عبقرية" قسطنطين الأول تتمثل في إدراكه العلاقة بين تعدد الآلهة وتعدد السلطات، وأن الإله الواحد الذي تدعو المسيحية إليه، قابل للظهور في سلطة سياسية واحدة هي الإمبراطور الروماني الذي سيملك بصفته تجسيدا لإرادة الإله، من دون أن يساءل باعتباره مختارا من السماء وليس من البشر.
الصراع المسيحي الوثني انطوى في تلك المرحلة على بعد سياسي. فقد جادل الوثنيون (ومن بينهم فيلسوفة الإسكندرية الشهيرة هيباتيا التي سعت إلى مصالحة المسيحية مع الأفلاطونية المحدثة) بأن توحيد الآلهة يصب لمصلحة القيصر واستبداده.
في واقع الأمر لم يتنازل قياصرة بيزنطية عن قولهم إنهم يمثلون الخالق على الأرض على الرغم من الطابع المفرط في "بشريته" للصراعات وانقلابات القصر والمؤامرات التي كان القياصرة يلجأون إليها على امتداد عمر بيزنطية الطويل. وعندما ظهرت الإمبراطورية الرومانية المقدسة في الغرب بعد تتويج بابا روما لشارلمان إمبراطورا رومانياً، لم تنظر بيزنطية بعين الراحة إلى الحدث الذي فسر كمحاولة لكسر احتكار العرش البيزنطي لحق الملكية الإلهي ما عمق شقة الخلاف مع كنيسة روما قبل أن يصل ذلك إلى الانشقاق الكامل بين الكنيستين الشرقية والغربية.
وقد احتفظت بيزنطية باسمها باعتبارها الدولة الرومانية حتى سقوط القسطنطينية بيد محمد الفاتح الذي أصر على وراثة لقب "سلطان الروم" ولهذه قصة طويلة تتلخص في أن السلطنة العثمانية نظرت إلى نفسها في مرحلة معينة على أنها الوريثة الشرعية للإمبراطورية الرومانية (البيزنطية) لأسباب لا تسعها هذه العجالة.
مهما يكن من أمر، عندما انهارت مقولة الحق الإلهي في الحكم مع الإصلاح البروتستانتي ثم مع ثورة كرومويل في بريطانيا والثورة الفرنسية، لم يلق ذلك ترحيبا في الشرق، خصوصا وأن السلطان العثماني قد حصل لنفسه على لقب الخليفة عندما مات آخر الخلفاء العباسيين المتوكل على الله الثالث سنة 1543 (على الرغم من الشكوك في صحة الرواية)، فجمع السلطتين الدينية والسياسية اللتين ظلتا على هذه الحال حتى مجيء مصطفى كمال أتاتورك وإلغائه الخلافة.
إذا كان من المجحف وضع الفكر الذي تناول السلطة وآلياتها عند العرب والمسلمين في خانة واحدة، فكذلك الأمر بالنسبة إلى الغرب الذي تبدلت أشكال السلطة فيه مرات عدة
تعددت البدائل التي طرحت نفسها في العالمين العربي والإسلامي، من محاولة إحياء الخلافة (بين أفراد الأسرة الحاكمة في مصر) إلى الحكم الجمهوري على الطريقة الأوروبية مع نظام عسكري (تركيا) إلى تحديث في ظل حكم الشاه (إيران في ظل رضا شاه). ثم نجد نماذج إضافية في انفصال باكستان عن الهند في ظل تبادل اللوم المستمر حتى اليوم بين الهنود والباكستانيين وجدالات عن حقوق المسلمين في ظل الحكم العلماني في الهند المستقلة في تلك المرحلة.
والحال أن دول المشرق العربي، خصوصا سوريا ولبنان والعراق، تعيش اليوم- بعد سلسلة من الكوارث والنكبات، ذكرياتها طرية في الأذهان- في ما يشبه المطهر بين أنظمة حكم أثبتت فشلها، وبين تطلعات شعوبها إلى الاستقرار والعدالة والتنمية. ويستحق النموذج السياسي الحاكم في كل واحد من البلدان تلك، دراسة واسعة عن تداخل العوامل الدينية والطائفية والجهوية والطبقية فيها، على نحو يجعل الافتقار إلى الاستقرار نمط حياة طويل.