السيد كورتز يأبى الموت

يحدث أن تجد الشخصية ترفض الموت مع نهاية الرواية، وتتسلل إلى روايات أخرى

السيد كورتز يأبى الموت

في الستينات والسبعينات قام سينمائيون أوربيون بالتأسيس لنوع جديد من الأفلام عُرف باسم "الويسترين سباغيتي"، الممثلون فيه معظمهم من إيطاليا وألمانيا وبلاد أوروبية أخرى، ويجري التصوير في إسبانيا. واجهت تلك الأفلام مشكلات كثيرة أقربها ضعف الميزانية وحاجتها للدبلجة الصوتية لكي تنتقل إلى الجمهور الناطق بالإنكليزية. تلك الأفلام كانت متعة عظيمة لنا ونحن أطفال لكن لا شيء فيها كان حقيقيا. أبطال خارقون، وكوميديا سوداء، غير جادة، ولا يوجد فيها كثير مما يمس القلب أو العقل. وبرغم كثافة الإنتاج الرخيص فإن له حسنة وحيدة هي تعريف العالم بمخرج عظيم هو سيرجيو ليوني وموسيقار خالد هو إنيو موريكوني.

مع نهاية السبعينات تراجعت الويسترن، خصوصا بعد كارثة "بوابة الجنة" لمايكل شيمينو الذي أدى إلى إفلاس شركة "يونايتد آرتستس" في عام 1980. مع أنها تحفة فنية. ثم عادت سينما الغرب ورعاة البقر مع "رقصات مع الذئاب" لكيفن كوستنر سنة 1990، كنوع من استعادة قصص الغرب ورجوعها إلى أهلها. هذه الاستعادة هي أقرب من تلك النماذج التي لا تشبه أميركا في شيء. بينما هذه الأعمال الفنية المتأخرة لا تخلو من بعد فلسفي وتطرح قضايا هامة مثل مأساة السكان الأصليين الذين ذُبحوا بالملايين وأخذت منهم أرضهم عنوة. السينما الأميركية الأولى في الأربعينات والخمسينات والستينات كانت تصور السكان الأصليين على أنهم حيوانات متوحشة همجية، وهذا بالضبط ما دعا مارلون براندو إلى رفض جائزة الأوسكار ومطالبة شركات الإنتاج بالاعتذار منهم. أما مشروع كوستنر، فهو مختلف وجاد في بث حكايات الناس بأسلوب إنساني أكثر. في تصوري أن "رقصات مع الذئاب" كانت هي الاعتذار، وزيادة.

يحدث في عالم الرواية أن تجد شخصية ترفض الموت مع نهاية الرواية، وتتسلل إلى روايات أخرى، لمؤلفين آخرين تأثروا بما قرأوا ووقعوا في أسر الشخصية الفاتنة

هي أيضا دليل على أن السيد كورتز بطل رواية جوزيف كونراد "قلب الظلمات"، لم يمت في نهاية الرواية، بل عاد في حالة تشبه تناسخ أرواح ليكون الجندي "دنبار" الذي أحب السكان الأصليين ثم أصبح واحدا منهم يحارب جيش الاتحاد. شخص من عموم الناس يشكو من وجع يدمي القلب ولا يُعرف له سبب، ربما جنون أو مرض أو لا شيء. لكنها شخصية جذابة دائما. 
يحدث هذا في عالم الرواية، أن تجد الشخصية ذاتها ترفض الموت مع نهاية الرواية، وتتسلل إلى روايات أخرى، لمؤلفين آخرين تأثروا بما قرأوا ووقعوا في أسر الشخصية الفاتنة. هنا انطلق بنا الكُتاب في إحياء جديد لحالة الإنسان المتمرد على ثقافته، لأنه يراها تافهة، ويرى الزيف فيما يُعتبر عند آخرين حداثة. شخصية السيد كورتز الذي لم تر العين شيئا محطما مثله لا تعني التمرد فقط بل تشي بعشق للطبيعة وكره للقوانين البشرية. حالة تمرد محببة. المتحوّل يتشكل في صورة شخصية تشبه صدق السكان الأصليين، مع أن هذا لا يعني بالضرورة أن تكون شخصية أخلاقية دائما. في "قلب الظلمات" الأصلية يعلّق السيد كورتز سبعة من رؤوس أعدائه على الرماح أمام بيته القشي على ضفاف نهر الكونغو.
وبعد سنوات في 1995 يعود السيد كورتز من جديد في الشخصية المحورية لرواية جيم هاريسون "أساطير الخريف". مرة أخرى نرى إنسانا ممزقا بين ثقافتين، ولا يفكر طويلا بحيث يختار الأبسط والأنقى. على الأقل لم يكن السكان الأصليون يعرفون الزيف. كل شيء حقيقي، حتى المأساة.

في قصة تتكرر مع الأجيال. سطور فاخرة بالفعل، تعيدنا من جديد إلى أن الرواية لا تصلح أن تكون مجرد توثيق أو سرد، بل لا بد من الفلسفة والشعر لكي تبثان فيها الحياة

في مسلسل  "يلوستون" (2018) يعود السيد كورتز المتمرد هذه المرة ليس في صورة فرد منبوذ وإنما في هيئة عائلة كاملة تجد نفسها في حالة تشبه حالة الهنود الذين أخذتْ أراضيهم عنوة. أسرة آل دوتون غير حقيقية، لكن عددا من النقاد الأميركيين، قال برغم ذلك، إن شخصيات آل دوتون تنطبق على أكثر من عائلة في ولاية مونتانا، بل ليس مونتانا وحدها، بل أميركا، إنها حكاية أميركية صميمة. يملك جون دوتون أرضا شاسعة تصلح أن تكون مدينة جديدة حديثة، بكازينوهات القمار والفنادق الحديثة، إلا أن دوتون يرفض بيعها، لأنه يريدها أن تبقى بكرا بعقاربها وثعابينها وذئابها ودببتها، ويصرّح بأنه رجعي غير تقدمي وأنه لن يبيع أرضه التي ملكها أجداده منذ قرن ونصف القرن ولا بالمليارات. وعندما يقتله أعداؤه يقدم أولاده الأرض هبة للأميركيين الأصليين نكاية في الأعداء ومن باب إعادة الأرض إلى أهلها.
وبسبب نجاح المسلسل، ثمة مسلسلان يحكيان قصة أجداد آل دوتون: مسلسل "1883"، ومسلسل "1923" الذي ما زال يعرض الآن. يقف وراء الأعمال الثلاثة كاتب شاب مبدع اسمه تايلور شريدان، هو أقرب للشاعر منه للروائي. يحكي قصصا أقرب للواقع، صورت معاناة المهاجرين الأوائل، أطفالهم الذين كانت تنهشهم الأفاعي عند قضاء الحاجة، وتأكلهم الذئاب، وأصبح المتأخر في الهجرة يعامل معاملة السكان الأصليين قتلا وسحقا على أيدي جيل الرواد. 
وفي المسلسل الأخير ثمة سطور شعرية حقيقية بديعة تغيب ثم تجيء بكثافة وقوة على لسان العمة كارا وهي تناشد "السيد كورتز" المتمثل في ابن أخيها سبنسر الخارج من الحرب العالمية الأولى مدمر الروح لا يعرف لتلك الحرب معنى، لكي يعود ليحمي العائلة من الشركات التي تريد أن تنتزع الأرض، ولو بقتل أهلها. في قصة تتكرر مع الأجيال. سطور فاخرة بالفعل، تعيدنا من جديد إلى أن الرواية لا تصلح أن تكون مجرد توثيق أو سرد، بل لا بد من الفلسفة والشعر لكي تبثان فيها الحياة.

font change