تصاعدت منذ الاثنين السابع عشر من مارس/آذار، وتيرة الأزمة الدبلوماسية بين باريس والجزائر في سياق تدهور العلاقات الفرنسية-الجزائرية المستمر فصولا في الأشهر الأخيرة. وأتى رفض الجزائر استلام قائمة رعاياها الصادرة بحقهم مذكرات ترحيل من باريس، بمثابة الصاعق للتوتر المستجد، لكنه ليس إلا "الشجرة التي تخفي الغابة".
والأدهى أن البعد الداخلي في كلا البلدين يقف عائقا أمام وقف التدهور ذاك. وفي هذا الإطار لا تبدو المقاربة الفرنسية موحدة ويعتريها انقسامات ومصالح متناقضة، مما يزيد من هامش مناورة السلطات الجزائرية ويحول دون إيجاد مخرج ملائم لمصالح الطرفين.
خلفيات الأزمة من وجهات نظر فرنسية
اعتمد إيمانويل ماكرون إبان حملته الانتخابية عام 2017، قبل وصوله إلى الإليزيه نهجا منفتحا على الجزائر، وتحدث حينها عن طموحه في أن يكون "الرئيس الذي ستعرف العلاقات بين بلده والجزائر مستويات جد متطورة". وأخذ يتكلم بأسلوب جديد عن الماضي الاستعماري لبلده، مبينا أنه ينتمي إلى جيل لا صلة له مع "حرب الجزائر" على عكس الكثير من السياسيين الفرنسيين الذين لهم صلة بشكل أو بآخر مع الوجود الفرنسي في الجزائر.
ومن غريب المفارقات أن العلاقات الجزائرية- الفرنسية التي لم تكن على ما يرام منذ استقلال الجزائر في 1962، لم تصل إلى هذه المرحلة الخطيرة من التشنج كما أصبحت حاليا في عهد ماكرون نفسه، إذ لأول مرة أخذت السلطات الفرنسية تتكلم عن معاقبة الجزائر!
فشل إيمانويل ماكرون في وعده بإعادة قراءة التاريخ المشترك للبلدين وضرورة التوفيق بين الذاكرتين المتناقضتين. وتبين مع الوقت تعمق مأزق تنقية الذاكرة المشتركة بالرغم من خطوات كبيرة قام بها المؤرخ الفرنسي من أصل جزائري بنجامين ستورا.
أراد ماكرون من أجل تجاوز أثار الحقبة الاستعمارية السير وفق نهج سلفه جاك شيراك الذي اعترف بمسؤولية الدولة الفرنسية عن ترحيل اليهود إبان مرحلة حكم الجنرال بيتان. لكن كما فشل شيراك في الوصول إلى درجة الاعتذار من الجزائريين محاولا الاستعاضة عن ذلك بمعاهدة تميز العلاقات الثنائية التي رفضها الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، كذلك فشل ماكرون مع بوتفليقه والرئيس الحالي عبد المجيد تبون في إيجاد مخرج يتخطى الدائرة المغلقة.
الإيقاع المقلق للعلاقات مع الجزائر
تصاعد التفاقم في العلاقات منذ أوائل عام 2025، وذلك نتاج جملة أحداث: انعكاس الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء المتنازع عليها، وإشكال ترحيل الجزائريين المخالفين من فرنسا، واتهام الجزائر لليمين الفرنسي بأنه وراء تفاقم التوتر، واعتقال الكاتب المزدوج الجنسية بوعلام صنصال، والجدل حول ملكيات فرنسا العقارية في الجزائر... ويندرج كل ذلك ضمن مسلسل علاقات مزمنة ومضطربة يتخللها تناوب بين الصعود والهبوط، إذ يمتزج فيها إرث النزاعات الاستعمارية مع البعدين الخاصين بالعوامل السياسية الداخلية في فرنسا والجزائر، فضلا عن معضلات الجغرافيا السياسية في شمال أفريقيا. ومهما قيل في طبيعة العلاقات بين البلدين، يصعب عدم الاهتمام بها لأن فرنسا استعمرت الجزائر لمدة 130 عاما، ومجموع الفرنسيين- الجزائريين في فرنسا يقدر بأربعة ملايين شخص كحد أدنى. وأسفر هذا التشابك عن وجود "بعد جزائري" في الهوية الفرنسية التعددية كأمر واقع، وبالطبع هناك "بعد فرنسي" في الهوية الجزائرية المركبة تبعا لآثار الاستعمار السياسية والثقافية والاقتصادية.