المقاربة الفرنسية حيال تدهور العلاقات مع الجزائر

صلات البلدين تبدو ضرورية واضطرارية في كل الأحوال

أ.ف.ب
أ.ف.ب
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره الجزائري عبد المجيد تبون في ختام مؤتمر صحفي مشترك بالقصر الرئاسي بالجزائر العاصمة في 25 أغسطس 2022

المقاربة الفرنسية حيال تدهور العلاقات مع الجزائر

تصاعدت منذ الاثنين السابع عشر من مارس/آذار، وتيرة الأزمة الدبلوماسية بين باريس والجزائر في سياق تدهور العلاقات الفرنسية-الجزائرية المستمر فصولا في الأشهر الأخيرة. وأتى رفض الجزائر استلام قائمة رعاياها الصادرة بحقهم مذكرات ترحيل من باريس، بمثابة الصاعق للتوتر المستجد، لكنه ليس إلا "الشجرة التي تخفي الغابة".

والأدهى أن البعد الداخلي في كلا البلدين يقف عائقا أمام وقف التدهور ذاك. وفي هذا الإطار لا تبدو المقاربة الفرنسية موحدة ويعتريها انقسامات ومصالح متناقضة، مما يزيد من هامش مناورة السلطات الجزائرية ويحول دون إيجاد مخرج ملائم لمصالح الطرفين.

خلفيات الأزمة من وجهات نظر فرنسية

اعتمد إيمانويل ماكرون إبان حملته الانتخابية عام 2017، قبل وصوله إلى الإليزيه نهجا منفتحا على الجزائر، وتحدث حينها عن طموحه في أن يكون "الرئيس الذي ستعرف العلاقات بين بلده والجزائر مستويات جد متطورة". وأخذ يتكلم بأسلوب جديد عن الماضي الاستعماري لبلده، مبينا أنه ينتمي إلى جيل لا صلة له مع "حرب الجزائر" على عكس الكثير من السياسيين الفرنسيين الذين لهم صلة بشكل أو بآخر مع الوجود الفرنسي في الجزائر.

ومن غريب المفارقات أن العلاقات الجزائرية- الفرنسية التي لم تكن على ما يرام منذ استقلال الجزائر في 1962، لم تصل إلى هذه المرحلة الخطيرة من التشنج كما أصبحت حاليا في عهد ماكرون نفسه، إذ لأول مرة أخذت السلطات الفرنسية تتكلم عن معاقبة الجزائر!

فشل إيمانويل ماكرون في وعده بإعادة قراءة التاريخ المشترك للبلدين وضرورة التوفيق بين الذاكرتين المتناقضتين. وتبين مع الوقت تعمق مأزق تنقية الذاكرة المشتركة بالرغم من خطوات كبيرة قام بها المؤرخ الفرنسي من أصل جزائري بنجامين ستورا.

أراد ماكرون من أجل تجاوز أثار الحقبة الاستعمارية السير وفق نهج سلفه جاك شيراك الذي اعترف بمسؤولية الدولة الفرنسية عن ترحيل اليهود إبان مرحلة حكم الجنرال بيتان. لكن كما فشل شيراك في الوصول إلى درجة الاعتذار من الجزائريين محاولا الاستعاضة عن ذلك بمعاهدة تميز العلاقات الثنائية التي رفضها الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، كذلك فشل ماكرون مع بوتفليقه والرئيس الحالي عبد المجيد تبون في إيجاد مخرج يتخطى الدائرة المغلقة.

الإيقاع المقلق للعلاقات مع الجزائر

تصاعد التفاقم في العلاقات منذ أوائل عام 2025، وذلك نتاج جملة أحداث: انعكاس الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء المتنازع عليها، وإشكال ترحيل الجزائريين المخالفين من فرنسا، واتهام الجزائر لليمين الفرنسي بأنه وراء تفاقم التوتر، واعتقال الكاتب المزدوج الجنسية بوعلام صنصال، والجدل حول ملكيات فرنسا العقارية في الجزائر... ويندرج كل ذلك ضمن مسلسل علاقات مزمنة ومضطربة يتخللها تناوب بين الصعود والهبوط، إذ يمتزج فيها إرث النزاعات الاستعمارية مع البعدين الخاصين بالعوامل السياسية الداخلية في فرنسا والجزائر، فضلا عن معضلات الجغرافيا السياسية في شمال أفريقيا. ومهما قيل في طبيعة العلاقات بين البلدين، يصعب عدم الاهتمام بها لأن فرنسا استعمرت الجزائر لمدة 130 عاما، ومجموع الفرنسيين- الجزائريين في فرنسا يقدر بأربعة ملايين شخص كحد أدنى. وأسفر هذا التشابك عن وجود "بعد جزائري" في الهوية الفرنسية التعددية كأمر واقع، وبالطبع هناك "بعد فرنسي" في الهوية الجزائرية المركبة تبعا لآثار الاستعمار السياسية والثقافية والاقتصادية.

ترافقت المجاملات والكتمان المتبادل مع استمرار العلاقة الشخصية بين الرئيسين ماكرون وتبون، لكن ذلك لم يمنع تزايد عدم الثقة في السنوات الأخيرة وتحول ذلك إلى انتكاسات دورية

وفي تسلسل المقاربات الفرنسية، حاول سيد الإليزيه احتواء بدايات التوتر التي تعود إلى 2019، من خلال تفعيل لجنة تنقية الذاكرة المشتركة التي نشرت تقريرها بداية 2021. وكان من المفاجئ اندلاع أزمة في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2021، بسبب مداخلة للرئيس الفرنسي ضد النظام الجزائري، والذي، حسب قوله، "بني على استخدام ريع الذاكرة"، و"كراهية فرنسا". وعاد ذلك لخيبة الأمل من القادة الجزائريين لردة فعلهم السلبية تجاه فكرة تقرير ستورا عن "الخطوات الصغيرة والتدريجية" حول الذاكرة بدل الاعتذار الفرنسي الواضح. وحسب مصدر من اليسار الفرنسي كان من السذاجة توقع عكس ذلك من "نظام أضعفته موجة احتجاجات الحراك التي اجتاحت البلاد في 2019-2020 قبل أن يتم قمعها بقسوة، ولم يكن لديه سوى "الخطاب القومي كذريعة لتبرير شرعيته".

البعد الجيوسياسي المؤثر 

بينما أخذت تتحسن العلاقات بشكل ملحوظ منذ بداية عام 2022 مع عودة السفير الجزائري إلى فرنسا، ازداد التباعد بين باريس والرباط، بسبب برودة العلاقة بين الملك محمد السادس والرئيس إيمانويل ماكرون، والتوترات الاستراتيجية بسبب الفتور الفرنسي بشأن الصحراء الغربية. وبعد انفراجة صيف 2022 (زيارة ماكرون إلى الجزائر وبعدها زيارة وفد وزاري موسع)، سرعان ما حصلت مشكلة تسببت في تدهور العلاقات الثنائية مرة أخرى، وأتت بعد تسهيل السلطات القنصلية والأمنية الفرنسية في 6 فبراير/شباط 2023، هرب أميرة بوراوي المعارضة الجزائرية التي تحمل جواز سفر فرنسي، خلال وجودها في تونس.

أ.ف.ب
مسيرة لإحياء ذكرى 17 أكتوبر 1961، التي قُتل خلالها ما لا يقل عن 120 جزائريًا خلال احتجاج لدعم استقلال الجزائر، بالقرب من جسر بون نوف بباريس في 17 أكتوبر 2021

مقابل اتهامات الجزائر لفرنسا بحبك "مؤامرات بالتعاون مع إسرائيل والمغرب" من أجل زعزعة استقرار الجزائر، استمرت فرنسا في الدفاع عن فكرة "الحفاظ على الوضع القائم" في علاقاتها مع السلطة الجزائرية، وبرز ذلك من قبل في الموقف الصعب إزاء "العشرية الدموية" في التسعينات من القرن الماضي، أو في الإحراج الذي شعرت به الدبلوماسية الفرنسية طوال سلسلة الحراك. كانت باريس تخشى "خطر الفوضى التي قد تؤدي إلى تهديدات تصدير الهجرة أو التطرف إلى فرنسا". وغالبا ما أدانت الأوساط الجزائرية ما أسمته "حزب فرنسا" في الجزائر. وكان في ذلك تلميح إلى التشابك والتأثير السلبي المتبادل بين السلطتين.

وترافقت المجاملات والكتمان المتبادل مع استمرار العلاقة الشخصية بين الرئيسين ماكرون وتبون، لكن ذلك لم يمنع تزايد عدم الثقة في السنوات الأخيرة وتحول ذلك إلى انتكاسات دورية قادت إلى إعلاء صوت معسكر المتشائمين داخل دائرة صنع القرار في باريس، لأنه في موازاة تراجع "العلاقة الوثيقة السابقة مع المغرب" والتشكيك بإعادة ترتيب الصلة مع الجزائر، حذر هذا الفريق من خطر خسارة فرنسا "في كلتا الحالتين" في "المغرب العربي الكبير" في لحظة حرجة بالتزامن مع أفول نفوذ فرنسا في الساحل وغرب القارة السمراء.

اعتبر الرئيس الجزائري أنه سيعالج التوتر مع نظيره الفرنسي من أجل احتواء النزاع، ووصل به الأمر للقول إن "تحسن علاقة فرنسا مع المغرب لا يضير الجزائر"

قاد ذلك إلى تعزيز وجهة النظر الفرنسية القائلة بتعزيز الصلة مع المملكة المغربية التي أثارت سياستها المتمثلة في التوسع نحو أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى اهتماما متزايدا في باريس. ولذا كان على فرنسا المرور عبر مربع الصحراء الغربية والاعتراف بـ"مغربيتها"، لأن ذلك كان الشرط المغربي الاستباقي لأي علاقة مميزة مع فرنسا. 

وبعد زيارة تاريخية للرئيس الفرنسي إلى المغرب في أكتوبر 2024، اعتبر مصدر فرنسي مطلع أن الجزائر "أضاعت فرصة وجود ماكرون في الإليزيه، الذي كان الرئيس الأكثر تأييدا للجزائر، لكن مواقف الجزائر أتت بنتائج عكسية تماما، مما سهل الاستدارة نحو المغرب".

التجاذب الفرنسي- الفرنسي 

تفاقم النزاع بشأن ملف الهجرة في الأسابيع الأخيرة، وصولا إلى أطروحات تعديل أو إلغاء القانون الفرنسي-الجزائري عام 1968 الذي ينظم الإقامات والتأشيرات، خاصة أنه خلال كل انتكاسة في السنوات الأخيرة كان هناك توجه لتجميد منح التأشيرات للجزائريين.

ومنذ يناير/كانون الثاني الماضي، أدت قرارات وزير الداخلية الفرنسي برونو ريتايو لفصل جديد من الأزمات بعد رفض الجزائر لقائمة من رعاياها تضم 60 اسما أرادت فرنسا ترحيلهم من أراضيها وإعادتهم للجزائر معتبرة إياهم "أشخاصا خطرين". ومقابل اتهام وزارة الخارجية الجزائرية فرنسا بعدم احترامها البروتوكول المتفَق عليه معتبرة الخطوة الفرنسية أحادية الجانب، أكد ريتايو أن بلاده لا تريد الحرب مع الجزائر.

أ.ف.ب
4 يونيو 1958، الجنرال شارل ديغول يلقي خطابا على شرفة مبنى الحكومة العامة في ساحة المنتدى بالجزائر العاصمة

وتركز الجزائر في حملتها المضادة على أن أزمتها مع اليمين الفرنسي المتشدد وليس مع فرنسا، وتعتبر أن برونو ريتايو الطامح لتولي رئاسة حزب "الجمهوريين" اليميني التقليدي وكسب حظوة أقصى اليمين، هو المسؤول عن التوتر بين الجزائر وفرنسا، ويريد أن يستخدم الملف الجزائري معبرا لطموحاته. ومما لا شك فيه أن ملف العلاقة الشائكة مع الجزائر له انعكاساته على استحقاقات فرنسا الانتخابية وعلى تموضع القوى السياسية.

ويتزامن ذلك مع تباينات ضمن أقطاب السلطة التنفيذية في فرنسا، إذ يرفض رئيس الحكومة اليميني الوسطي فرنسوا بايرو التصعيد مع الجزائر تماما كما وزير الخارجية جان- لوي بارو الذي شدد على أن "فرنسا متمسكة بعلاقتها مع الجزائر، التي تربطنا بها روابط معقدة لكنها قائمة على مصالح مشتركة وقوة فريدة". وفي السياق نفسه، حسم الرئيس إيمانويل ماكرون الأمر بقوله: "لن تتنصل فرنسا من اتفاقية الهجرة لسنة 1968 ومن الضروري فتح قنوات اتصال مع ‫الجزائر".

وفي الاتجاه نفسه الداعي إلى التهدئة (بعد الحكم على الكاتب بوعلام صنصال بالسجن وتزايد دعوات القطيعة من الجانبين) اعتبر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أنه سيعالج التوتر مع نظيره الرئيس إيمانويل ماكرون من أجل احتواء النزاع، ووصل به الأمر للقول إن "تحسن علاقة فرنسا مع المغرب لا يضير الجزائر".

ويتضح بجلاء أنه بالرغم من مسلسل المشاكسات والأزمات يبدو الطلاق صعبا بين باريس والجزائر وأن صلاتهما تبدو ضرورية واضطرارية في كل الأحوال.

font change