عباس خضر لـ"المجلة": المنفى شكّل هويتي ككاتب

حاز جائزة برلين للأدب عن مجمل أعماله

الكاتب العراقي الألماني عباس خضر

عباس خضر لـ"المجلة": المنفى شكّل هويتي ككاتب

تتأرجح روايات الكاتب العراقي الألماني عباس خضر بين عالمين، الذاكرة الشخصية والعراقية المثخنة بتفاصيل الاعتقال والديكتاتورية والحروب، والحاضر الألماني بمفردات اللجوء والمنفى واللغة الجديدة. روايته الأخيرة، "مزور الذكريات"، التي ستصدر ترجمتها قريبا بالعربية، تكاد تكون خلاصة أخرى أو طبعة جديدة لهذا التأرجح المستمر. الكتابة هنا أشبه بارتطام دائم بين عالمين، وهذا الروائي العراقي الذي يكتب بالألمانية، وجد أسلوبه الشخصي في استثمار حياته السابقة وذاكرته في إنشاء عالم روائي جذاب تختلط فيه صعوبات المنفى مع نفوذ الماضي الذي لا يمضي، ولكن من دون أن يقع في سذاجة الحنين ولا في تعريف محدد وضيق للمنفى الذي سيتحول لاحقا إلى مكان للعيش وتأمل الماضي، والأهم إلى مكان للكتابة، وباللغة الأصلية للمكان.

غادر عباس خضر العراق نهاية التسعينات، وعانى صعوبات عديدة في رحلة اللجوء التي انتهت به، بعد محطات عديدة، في ألمانيا حيث استقر وتعلم اللغة الألمانية وأكمل دراسته الجامعية فيها. هناك راح يؤسس إقامته في المكان الجديد بالكتابة. كان نشر ديواني شعر، لكنه أدار ظهره لكل ما كتبه بالعربية وبدأ مسيرة روائية وسردية كاملة بلغة جديدة. ومن رواية إلى أخرى، بدأ اسمه يلفت انتباه القراء والنقاد الألمان، وينتقل من الحيز الهامشي الذي سمّي "أدب المهاجرين" أو "أدب العمال الضيوف" إلى داخل المتن الأساسي للأدب الألماني اليوم. ومن خلال أعماله توفرت لدى الكثير من القراء الألمان فرصة أن يروا أنفسهم بعين غريبة ومن منظور مختلف.

عباس خصر المولود في بغداد 1973، والذي سبق أن حاز جوائز عديدة مثل جائزة "نيلي زاكس"، وجائزة "هيلدا دومين لأدب المنفى"، حصل منذ أيام على جائزة برلين للأدب عن مجمل أعماله. هنا حوار معه في هذه المناسبة.

  • حصلت قبل أيام على جائزة برلين للأدب عن مجمل رواياتك... ماذا يعني لك هذا الفوز؟

الجائزة تعني لي دافعا معنويا وماديا في آن واحد. المعنوي يتمثل في الاعتراف، وجائزة برلين للأدب تحمل قيمة خاصة، فهي تؤسس لحضور أوسع وأفق أكبر في المستقبل. إنها خطوة إلى الأمام تفتح لي أبوابا جديدة، لكنها ليست النهاية. لا أخفي أنني ما زلت أسعى لأكثر من ذلك، وما أطمح إليه يتجاوز هذه اللحظة – لكن هذا طموح شخصي بحت. أما ماديا، فإن الجائزة تمنحني فسحة من الاستقرار، تتيح لي العمل بهدوء على مشاريعي الأدبية دون أن يشغلني الهم المادي. أفضل ما يمنحه المال هو التحرر من التفكير في كسبه – تلك الراحة الذهنية التي تتيح لي الانغماس في الكتابة بلا قيود.

من الشعر إلى الرواية

  • بدأت مسيرتك كشاعر وأصدرت ديوانين بالعربية، ثم انتقلت إلى الرواية وبالألمانية. لماذا تخليت عن الشعر؟ هل كان ذلك بحثا عن بداية جديدة بالكامل والبدء كروائي بلا ذاكرة الشاعر السابق ولا لغته؟

"النهايات مفتوحة دائما والبدايات مغلقة"، لا أتذكر من قال هذه العبارة، ربما كان سعدي يوسف. قبل أن أكتشف الأدب، كنت مربيا للحمام. أي "مطيرجي" بالعراقي. كنت أحب الطيور أكثر من حبي للبشر. لم تكن مجرد طيور، بل كانت جزءا من عالمي، أو بالأصح العالم بأكمله. وفي أحد الأيام، واجهت قرارا سيحدد مستقبلي، قرارا لم ينه طفولتي فحسب، بل وضعني لأول مرة أمام تنازل مرير.

جميع الكتاب هم قراء شغوفون، على الأقل إلى أن يصبحوا مشاهير. بعد ذلك، يقرؤون أنفسهم فقط، ومراجعات كتبهم

كنا تسعة إخوة وأخوات في بيت من ثلاث غرف. أراد والدي بناء منزل يوفر مساحة أكبر للجميع. ولكن كان هناك شرط: أن أتخلى عن سرب الحمام وأركز بالكامل على الدراسة. لم تكن تضحية سهلة. كان كل واحد منا يتوق إلى مساحة خاصة، إلى باب يمكن إغلاقه، إلى جزء من الخصوصية لم نعرفه من قبل. تخليت عن السرب، وحصلت على أول غرفة خاصة لي، وكان عمري أربع عشرة سنة.
اختفت الطيور، ولكنها استمرت في التحليق داخل رأسي. أراها في كتبي، في أفكاري، في أحلامي. لا توجد رواية كتبتها إلا وظهرت فيها حمامة هنا أو هناك. لقد بقيت، ليس على السطوح، بل في اللغة، في الكتابة. كانت الغرفة أول مساحة خاصة لي. لكنني لم ألتزم وعدي بالدراسة، إذ وجدت نفسي بسبب قراءاتي في معضلة بين الدين والأدب.

غلاف الترجمة العربية لرواية "مزور الذكريات"

بدأت القصة مع الدين من خلال كتاب "التكامل في الإسلام" لأحمد الأمين النجفي.  قرأته بحماسة فاجأتني. كانت الكلمات تسحبني إلى الداخل، ووعد الحقيقة المطلقة كان ساحرا. وسرعان ما نمت في داخلي رغبة في أن أصبح إماما. لذا استمررت في قراءة كتب عن اللغة، والأخلاق، واللاهوت. وفي أحد الأيام، في سوق السراي في وسط بغداد، باحثا عن المزيد من الأدبيات الدينية، التقيت بائع كتب يمتلك بسطة مليئة بكتب اللاهوت والفلسفة والشعر. مليئا باليقين أنني وجدت الحقيقة بالفعل، تحدثت مع الرجل المسن عن السماء والملائكة والجحيم. ونصحته بأن يبيع الكتب الدينية فقط. استمع إلي بصبر، ثم تناول كتابا صغيرا وأعطاني إياه: كان كتاب "النبي" لجبران خليل جبران. "هدية"، قال، "اقرأه، وعندما تنتهي، عد إلي. سنتحدث عن الجنة والنار. لكن في المرة المقبلة، لا هدايا – عليك شراء كتاب." كانت استراتيجيا بيع ذكية.
أخذت الكتاب وقرأته، واهتز كياني كله. هكذا بدأت أول معضلة كبيرة في حياتي:  التدين أم الأدب؟ وفي النهاية، تخليت عن حلم أن أكون إماما، وقررت أن أكون كاتبا.  اليوم أرى كتاب "النبي" بعين مختلفة طبعا. ربما هو ليس تحفة أدبية، لكنه كان كذلك في أول قراءة، إذ أعاد كتابة قصتي وأظهر لي مبكرا قوة الكلمة.
منذ تلك المعضلة، حين انتصر الأدب على ميولي الدينية، كان طريقي واضحا. كرست حياتي للأدب والكتابة. مضت أربعة عقود تقريبا، وما زلت أعتقد أنني مدين بكل شيء للقراءة. أعتقد أن جميع الكتاب هم قراء شغوفون، على الأقل إلى أن يصبحوا مشاهير. بعد ذلك، يقرؤون أنفسهم فقط، ومراجعات كتبهم. آمل ألا أكون يوما من هؤلاء.
كانت أول نصوصي قصائد. كنت أؤمن أن الشعر هو أسمى أشكال التعبير الأدبي. سخرت من الشعراء الذين كتبوا روايات، ووصفتهم بـ"خونة الشعر". المفارقة أنني أصبحت لاحقا أحد هؤلاء. لم أتخل عن الشعر، بل هو من تخلى عني، وربما كان ذلك اتفاقا بالتراضي – نوع من الطلاق الهادئ. ما زلت أقرأ الشعر بنهم حتى اليوم، لكني لا أكتبه.
حادثة قاسية هي التي غيرت كل شيء: انفجار في بغداد أثناء الحرب الأهلية، أودى بحياة أختي وثلاثة من أطفالها دفعة واحدة. كانت تلك واحدة من أصعب وأتعس مراحل حياتي. حينها كتبت قصيدة وداع، وكانت آخر قصيدة لي.
منذ ذلك اليوم، لم أعد قادرا على الكتابة الشعرية باللهفة التي رافقتني منذ الصغر. فقدت ذلك الوهج، وتحولت رغبتي نحو السرد – نحو حكايات البشر المهمشين، الذين تلتهم حياتهم الأقدار والحروب والديكتاتوريات والأديان.
رغم ميلي الكبير للسرد، يقول بعض النقاد الألمان إن الشعر ما زال ينبض بين سطوري مثل تيار خفي يسري في النصوص. لا أعرف إن كان ذلك صحيحا أم مجرد رأي شخصي، لكن ما أعرفه هو أنني حين أكتب السرد، أسعى فقط إلى نص مكتمل في المضمون والشكل، لا شيء آخر بينهما.

الكاتب العراقي الألماني عباس خضر

الكتابة بالألمانية

  •  هل تشعر فعلا أنك تكتب مباشرة بالألمانية أم لا يزال هناك إحساس أنك تقوم بترجمة فورية لما يخطر لك بالعربية أولا؟

أصبحت اللغة الألمانية هي المسيطرة على كل شيء، من الفكرة إلى النقطة في السطر الأخير. ولكي أضع النقاط على الحروف، أنا مجبر على العودة قليلا إلى الوراء.

لم أكن هاربا من الديكتاتورية العراقية فحسب، بل أيضا من ظلال وجود غير مؤكد في البلدان العربية

حين أتحدث عن الأدب في أزمنة التطرف السياسي، يجب أن أعود بالذاكرة إلى السنوات من 1933 إلى 1945. في ذلك الوقت، فقد العديد من الكتاب الناطقين بالألمانية ليس فقط أوطانهم، بل أيضا قراءهم. وصف برتولد بريشت هذه التجربة في المنفى بدقة: "كنت كاتبا بلا جمهور." عشت هذه التجربة بنفسي. لم أكن هاربا من الديكتاتورية العراقية فحسب، بل أيضا من ظلال وجود غير مؤكد في البلدان العربية. كان المنفى نفقا يقود إلى اللاشيء، مهددا على الدوام بخطر عدم الحصول على إقامة، أو عدم تجديد الجواز، أو عدم العثور على عمل. أو كما فعلت الحكومة المصرية آنذاك: طردي إلى الحدود بعبارة: "اغرب عن وجهي!". في تلك الفترة، نشرت أول نصوصي. أرسلتها من ليبيا، حيث أقمت لفترة، إلى لندن، باريس، بيروت. شكل المنفى هويتي ككاتب. لم أكن أعرف إن كان هناك جمهور للمنفيين أصلا. لكن المنفى لم يكن مجرد هروب، كان أيضا وعيا – حالة بين الضياع والمقاومة، تردد دائم بين الغربة وإثبات الذات.

مع وصولي إلى ألمانيا، بدأ منفى جديد، ليس فقط جغرافيا، بل لغوي أيضا. كان الانتقال من العربية إلى الألمانية أكثر من مجرد خطوة أدبية، كان قفزة نحو المجهول. فتحت لي اللغة الألمانية آفاقا جديدة، لكنها طالبتني في الوقت ذاته بالتخلي عن عادات قديمة والعثور على صوت جديد.
في كتاب ساخر عن تجربتي مع اللغة الألمانية، أطلقت عليها لقب "الوحش"، ووصفت قواعد الإعراب بأنها "وسيلة تعذيب". اخترعت قواعد نحوية جديدة لجعلها أكثر احتمالا، وأطلقت على ابتكاري بتهكم "الألمانية المضبوطة". وعلى الرغم من هذه المحاولات لتناول الموضوع بروح الدعابة، أعلم أن القرار بالتخلي عن العربية أربك الكثير في داخلي. كثيرا ما أشعر أن اللغتين تسكنانني كأخوين مغتربين، صامتين، متباعدين، بلا جسر يصل بينهما.
منذ ما يقارب العقدين، وأنا أكتب بالألمانية. العربية صامتة تراقب فقط.

  •  هل تعتقد أن مخاطبة القارئ الالماني أسهل ونتيجته مضمونة أكثر؟ أقصد إبهاره بعوالم عراقية وتجارب لاجئين وأجواء غريبة عليه؟

إن مخاطبة قارئ ألماني لديه إرث أدبي عريق، وقدم العديد من الأسماء الأدبية لجائزة نوبل، هي مهمة صعبة. ولكن يجب أن نفرق بين أنواع القراء. هناك قراء للأدب الروائي الجاد، وآخرون للأدب الترفيهي. في السوق الأدبي الألماني المعاصر، هناك كتب عن عوالم الأجانب والعرب والحجاب والعنف الديني ومصاصي الدماء، هذه الكتب تملأ رفوف المكتبات وتبيع بكثرة، ولكنها تنتمي إلى الأدب التجاري البحت، وهذا لا يعني طبعا بأنها جيدة او سيئة، إنما هي كتب لها عالمها الخاص. في المقابل، يلعب الشكل الأدبي دورا أكبر في الأدب الجاد، حيث يقيم بناء النص والأسلوب أكثر من الموضوع نفسه.

غلاف رواية "مزوِّر الذكريات" للكاتب عباس خضر

  • هناك من يقولون إن الناشرين الألمان يفضلون هذه المواضيع أيضا: الآخر الغريب، اللاجئ، ومعه الخلفية المهاجرة، الإسلام، الحروب والصراعات، بينما تأتي جودة الكتابة في مرتبة ثانية أو حتى ثالثة...

كما قلت سابقا، هناك دور تنشر كتبا تجارية وترفيهية، بعضها يتعلق بالعرب والمسلمين، لا يلعب الشكل فيها أي أهمية، إنما المضمون، وهذا عالم خاص، أي شخص لديه حكاية، عنف ديني، عنف منزلي، أو قضية إرهاب وما شابه، وقادر على أن يسردها مثل حكاية يمكن أن يجد ناشرا ما، ورغم ذلك هو سوق صعب أيضا. أما دور النشر المتخصصة في الأدب الألماني الحديث والمعاصر فهي دور نشر مختلفة تماما، وأنا أعمل مع دار "هانزر" في ميونيخ، وهي الدار التي تنشر أعمال هيرتا موللر وأورهان باموق على سبيل المثل. جودة الكتابة في الأدب الجاد هي الأساس، وأي شي آخر هو انتحار أدبي.

إرضاء القارئ

  •  إلى أي حد يكون إرضاء القارئ (الألماني مثلا) في بالك أثناء الكتابة؟ هل هناك تضحية ما، حتى لو كانت غير واعية، بجودة الكتابة أو عمقها من أجل ذلك؟

الجواب هنا يمكن أن يكون طويلا، لكن سأحاول اختصاره، لأن هناك طبعا تحولات في العلاقة مع هذا القارئ، يقول الكتاب كثيرا إنهم يكتبون لأنفسهم فقط. لكن من يروي قصة لنفسه؟ كم سيكون ذلك مملا؟ من دون جمهور، تلوح الوحدة في الأفق. ومن يبلغ به الحال من الوحدة حدا كافيا، ينتهي به المطاف حقا بأن يروي القصص لنفسه. لا أتصور وجود كاتب يكتب لنفسه، الكتابة دوما تنتهي بشيء واحد، وهي أن تقرأ من الآخر، وهذا بحد ذاته يجعلها جسرا بين عالمين.

لا أتصور وجود كاتب يكتب لنفسه، الكتابة دوما تنتهي بشيء واحد، وهي أن تقرأ من الآخر، وهذا بحد ذاته يجعلها جسرا بين عالمين

ربما يكون لكل عمل جمهوره الخاص، جمهور مهم بقدر أهمية العمل نفسه. من دون جمهور، يظل الكاتب مجهولا، وهي حالة قد تكون مثالية للجاسوس، ولكنها أقل فائدة للكاتب. لكن هذا لا يعني كتابة الأعمال حصريا لجمهور حقيقي محدد. لا يأتي الجمهور الحقيقي أولا، بل في النهاية، عندما يصل الكتاب إلى شكله النهائي. أثناء عملية الكتابة، يرافق الكاتب جمهور آخر، جمهور ليس بمجموعة واضحة من الأشخاص، جمهور أسميه القارئ المتخيل. ليس شخصا واحدا، بل هو مجموعة من الأصوات من جميع مجالات الحياة والفن والعلم، من كل ما يجد فيه الكاتب ذاته. هذا الجمهور المتخيل ليس كتلة خاملة، بل هو مساحة إبداعية للإسقاط. يحيي ويستجوب في الوقت ذاته، دون فرض قيود واقعية. كما هو الحال في نظرية الأفكار لأفلاطون، هو بناء فكري، تصور يساعد على توضيح المنظور الخاص وتوجيه العمل. قد تكون الكتابة ضد جمهور الذات ضرورة في بعض الأحيان: كسر التوقعات، إثارة الارتباك، المفاجأة، وربما حتى الترفيه أو الاستفزاز.
ليس الجمهور إذن صورة ثابتة للواقع، بل بناء ديناميكي يشكل عملية الكتابة بشكل جوهري. يمكن القول إن كل كاتب يحمل بالفعل نوعا من "الذكاء الاصطناعي الشخصي" في تفكيره. هذه الفكرة كانت موجودة منذ زمن بعيد قبل أن تصوغ البشرية مفهوم الذكاء الاصطناعي.
لذا فإن الفكرة القائلة بأن الكتابة فعل وحيد ليست دقيقة تماما. الكتابة ليست حوارا ذاتيا، بل هي تفاعل، حديث مع الجمهور المتخيل، حتى وإن لم يكن موجودا بعد.
بمجرد الإجابة عن هذا السؤال، يكاد يكون من المستحيل إيقاف عملية الكتابة لأي شخص، سواء كان العمل يتماشى مع نموذج سردي مثل ذلك الذي قدمه جيرار جينيه أم لا. هذه المقاربة تمكن من الكتابة الهادفة، ذات الأساس الصلب والاتجاه الواضح.
لكن ذلك لا يعني أن كل شيء قد تم تجاوزه. تظل الكتابة رحلة في المجهول، حيث يأمل المرء بأفضل حال ألا تتحطم الطائرة في المشهد الأول. وصدقني: لدي صندوق في القبو مليء بالنصوص – آلاف الصفحات التي لم تنج من هذه الرحلة وتكسرت عظامها لحظة السقوط. صندوق مليء بالقلوب المحطمة. أسميه ضحايا مسيرتي المهنية.

غلاف رواية "برتقال الرئيس" للكاتب عباس خضر

  •  هل تفكر بالقارئ العربي، العراقي تحديدا أثناء الكتابة. هل تخطر لك مثلا انطباعات القارئ العراقي والعربي في حال ترجمت رواياتك الى العربية؟

كما قلت سابقا الجمهور المتخيل يرافقني خلال الكتابة، عربي، عراقي، ألماني، يوناني أو هندي، هذا غير مهم. المهم أنه جمهور أحاكيه ويحاكيني، وأنا من يحدد ملامحه وليس هو من يحدد ملامحي.

مزور الذكريات

  •  أنجزت روايات عديدة، وصار لك اسم وحضور في الأدب الألماني، ولكن ما أن يفتح القارئ روايتك الأخيرة "مزور الذكريات" حتى يرى أن الشخصية الرئيسة عراقي والسرد يروي اصطدام الهوية الأولى بعالم اللجوء والعودة إلى الذاكرة. ماذا يعني ذلك؟

الرواية هي رحلة في رأس مهاجر يبحث عن نفسه، عن ذاكرة ضاعت بين الوطن والمنفى. في "مزور الذكريات"، أكشف عن عالم سعيد الوحيد – رجل عراقي، عالق بين هويتين، بين عالمين. إنها ليست مجرد حكاية عن الهجرة واللجوء، بل عن الصدمة التي ترافق هذه التجربة. تلك الصدمة التي لا تختفي، بل تظل تنبض تحت الجلد، تستيقظ في كل لحظة، حتى عندما لا يبدو أن هناك خطرا.

"مزور الذكريات"  ليست مجرد رواية عن الهجرة، بل عن الصراع بين الذاكرة والحقيقة وعن قدرة الكتابة على تحويل الفوضى الداخلية إلى سرد يحمل معنى

سعيد في رحلته إلى بغداد، لزيارة والدته التي على فراش الموت، يواجه شظايا ذاكرته. كأن حياته تمر أمامه في فلاشات متتابعة – لحظات من الحياة اليومية، حكايات عائلية، لقاءات عابرة. كلها مغلفة بحزن ووحدة خفية ولكنها غير مكتملة ومجرد لقطات سريعة. يريد أن يكتبها، أن يعيد بناءها بالكلمات، لكن كلما حاول أن يكون دقيقا، زادت استحالة الكتابة. كيف تكتب ما لا تتذكره؟ هنا يحدث التحول: سعيد لا يستسلم للذاكرة المنهكة، بل يخترعها من جديد. يقرر أن يؤلف ذكرياته، أن يروي حياته وكأنها قصة، حتى لو لم تكن حقيقية تماما. يتحول إلى مزور لذكرياته، لكنه لا يكذب، بل يبحث عن حقيقة أعمق، عن نظام داخلي يمنحه شيئا من الثبات. الرواية ليست فقط عن ماض يتلاشى، بل عن عملية صناعة ذاكرة جديدة. سعيد يعيش داخليا ونفسيا في مكان لا يستطيع العودة إليه، وفي مكان جديد لا يجد نفسه فيه. الهوية في حالة تأرجح، لا جذر ولا مستقر. في هذا الفراغ، تصبح الكلمات هي الملجأ الوحيد، وتتحول الكتابة إلى محاولة يائسة لإعادة تشكيل الذات.
"مزور الذكريات" ليست مجرد رواية عن الهجرة، بل عن الصراع بين الذاكرة والحقيقة، بين الهوية والضياع، وعن قدرة الكتابة على تحويل الفوضى الداخلية إلى سرد يحمل معنى.

  •  تعقيبا على ذلك، إلى أي حد تستثمر في أعمالك سيرتك الشخصية. "مزور الذكريات" فيها خطوط أساسية من وجودك في ألمانيا كعراقي عاش لاجئا في البداية، ثم حصل على الجنسية الألمانية، ولا يزال يدفع ثمن ماضيه في رواياته؟

ربما تكون بعض الحكايات في "مزور الذكريات" انعكاسا لتجربتي الشخصية، لكني لست وحدي في هذه الرحلة. ملايين البشر يعيشون حياة ممزقة بين وطن ضاع ومنفى لم يكتمل. السرد هنا ليس مجرد اعتراف شخصي، بل هو محاولة لإعطاء صوت لجوقة كاملة من البشر الذين فقدوا ذاكرتهم في طريقهم إلى البحث عن هوية جديدة.

  •  هل سيأتي يوم تكتب فيه رواية لا يحضر فيها العراق؟

هذا مؤكد والرواية الجديدة التي ستصدر في ربيع 2026 هي كذلك. لكن ما هو الأهم؟ المكان الروائي أم المشهد الروائي بأكمله؟ الأزمنة والأمكنة أم السردية؟ ما يهمني في الدرجة الأولى، التكامل الفني والمضموني، كل شي آخر هو أمر جانبي.  

font change