ديما عبدالله في نعيم الحب الأول وجحيم فقدانه

روايتها الثالثة ملحمة شعرية حول لعنة الحرب والأصول

ديما عبدالله في نعيم الحب الأول وجحيم فقدانه

"الحب الأول، حب أبدي"، نقرأ في رواية الكاتبة اللبنانية الفرنسية ديما عبدالله، "من ضفة إلى أخرى"، التي صدرت حديثا في باريس عن دار "سابين فيسبيسر". وعلى أرضية هذه الحقيقة ترفع هذه الروائية الموهوبة صرح عملها الأدبي الجديد، لا لإثباتها، بل لإضافة قصة حب جديدة إلى تلك الغزيرة المتوافرة. مشروع لا يخلو من مجازفة، نظرا إلى ما أساله موضوع الحب من حبر منذ فجر التاريخ. لكن عبدالله لا تقع في التكرار، بل تعالج هذا الموضوع بشكل مبتكر وعميق، ومن خلاله، موضوعات أخرى كثيرة مهمة، مقدمة رواية غنية، آسرة، نستسلم لنثرها الأخاذ ما أن ننطلق في قراءتها، مفتونين بالنفَس الشعري الذي يحييه.

هوية مزدوجة

بطل الرواية وراويها فتى مزدوج الهوية يكبر تحت أنظارنا على طول نصها. في مطلعها، نجده في سن الـ 13 يعيش في حي فرنسي بائس مع أمه الفرنسية التي تعتني به بمفردها، لأن والده اللبناني هجرهما باكرا، لكن ليس قبل أن يعطب زوجته جسدا وروحا. من هنا تعلقه بها، وأيضا برفيقي طفولته، إلياس الرقيق والمتيم بالموسيقى، وليلى الفاتنة التي لطالما خلبت قلبه. من هنا أيضا حساسيته الشديدة تجاه الأشياء، وخصوصا تجاه الكلمات، التي تحثه على مطالعة القاموس بانتظام.

عشق هذا الفتى لجارته ليلى، منذ نعومة أظفاره، يعود إلى صفة لديها لم يكن يجد لتحديدها سوى كلمة "Grâce". وفي كل مرة كان يتفحص معنى هذه الكلمة في قاموسه الفرنسي، ويدرك أنها لا تعني فقط نعمة، أناقة، جمال، بل أيضا "إعفاء شخص مدان كليا أو جزئيا من عقوبته"، كان يشعر "بدفء يسري في عمودي الفقري"، ويفكر أن "هذا ما سيحدث إن أمسكتُ يوما بيد ليلى، إن غاص نظرها في نظري، إن مررتُ يدي على شعرها". وحين كان يقرأ أن هذه الكلمة تعني أيضا "هبة أو نجدة خارقة يمنحها الله إلى البشر من أجل خلاصهم"، كان يرى في ليلى خلاصه، ويغذي الأمل في أن تسمح له يوما "بملامسة انحناءة عنقها لاستنشاق رائحتها، فيصبح عندها العالم كله نعمة".

هذا ما يقوده إلى الشعر الذي يمنحه مفاتيح العالم الذي كان يجهل من قبل كيف يصغي إليه، ولغة جديدة يفهمها بروحه وليس بعقله

خلال ليلة أرق، يحدس هذا الفتى بأن "أولئك الذين احتكوا بالنعمة عن كثب لا بد أن يكونوا حتما الشعراء وليس واضعي القواميس". وهذا ما يقوده إلى الشعر الذي يمنحه مفاتيح العالم الذي كان يجهل من قبل كيف يصغي إليه، ولغة جديدة يفهمها بروحه وليس بعقله: "العقل تافه، فاشل، يدور في حلقة مفرغة حول الهواجس نفسها، الأفكار السوداء نفسها. كلمات الشعر تعبره بسرعة من دون أن تعلق به، وتشق طريقها مباشرة إلى الأحشاء، حيث تشعل نورا إلهيا، دافئا كالجمر". يمنحه الشعر أيضا، لدى قراءته، الشعور بحضور حبيبته بجانبه، لأن "الشعر وليلى هما الشيء نفسه، الحرارة نفسها التي تسيل في عروقي، النسمة الدافئة نفسها التي تداعب جلدي وتجعل بدني يقشعر، الارتعاشات نفسها، الدموع نفسها...".

ملازمة الصمت

في سن الـ 14، نعرف من الراوي أن ثمة كلمات لم يختر سماعها، وباتت تستحوذ عليه. كلمات مرعبة، أسوأها تلك التي تتمتم أمه بها أحيانا لنفسها كالمجنونة، أو تكررها أمام جارتهما عايدة: حرب أهلية، ميليشيوي، منفى، حب مجنون، عفريت، مستشفى، غيبوبة... ولحسن حظه، تلازم أمه الصمت معه: "لا تقول لي أي شيء عنه (الوالد)، والكلمات القليلة التي سمعتها، ولم تكن موجهة لي، أكثر من كافية". لكن ما يؤلمه لديها هو أنها "نبذت الحب، نبذت جسدها، نبذت الخروج إلا للتسوق والذهاب إلى مكان عملها البائس الذي بالكاد يكفي لسد رمقنا. نبذت كل شيء، أمي، إلا أنا. كل شيء مات في داخلها، إلا أنا". ولذلك، يتركها تحبه بأفضل ما تستطيع: "إن أخذت ذلك منها، ستموت. ليس لديها أي شيء آخر. أنا وألمها. إنها متعلقة بنا على قدم المساواة، بالقوة نفسها، بالحب المجنون نفسه". لذلك أيضا يمنع نفسه أحيانا من الحلم باليوم الذي سيرحل فيه مع ليلى، "لأنه في حلمي، أمي توفيت وأخذت معها ألمها، حزنها الأبدي وبذرتي السيئة".

الكاتبة اللبنانية الفرنسية ديما عبدالله

حين يبلغ الراوي سن الـ 15، تفقد أمه عملها وتغرق في لجج اكتئابها، فينطلق في معاونة عرابي المخدرات في الحي لكسب بعض المال، في موازاة دراسته. وكي لا ينفجر الغضب الكامن فيه ويدمر كل شيء حوله، يدخن حشيشة الكيف بشكل متواصل، ويطالع قاموسه. غضب يعرف تماما أن مصدره هو "بذرتي السيئة"، الوالد الذي لم يعرفه قط. ولتصريفه، يكفيه التفكير بليلى فـ"يصير الأسوَد ظلا/ ثم يمزق بصيص من النور العتمة/ (...) ويجرؤ برعم على وعد مجنون بربيع محتمل".

لم تحدثني البتة عن الحرب، لم تلفظ الكلمة الملعونة، ولم تجعلني أشعر قط أن كل ما كانت تقصه علي بلا انقطاع، كل يوم، قد ضاع نهائيا

بعد عام، تعود أمه "من بين الأموات لانتشالي بأنيابها في اللحظات الأخيرة، قبل أن أسقط". لكنه يفقد تدريجيا صديقه الوحيد، إلياس، إثر وقوع هذا الأخير في براثن داعية متشدد: "شيئا فشيئا، لم يعد يحاول إضحاكي، وبات يتكلم أقل فأقل، وخصوصا لم يعد يرقص كالمجنون على الموسيقى". وحين يبدأ إلياس بوضع تسجيلات خطب دينية بين الأغاني التي كانا يصغيان إليها، يعرف الراوي أن صديقه ذهب بعيدا، "حيث لا أستطيع أن ألحق به". أما كيف يقرر بعد عام التوجه إلى بيروت التي لم يكن يريد سماع أي شيء عنها، فيحدث ذلك في إحدى الليالي، حين يمنعه إلياس من وضع موسيقاه، ويقول له: "لم أعد أستمع إلى الموسيقى، الموسيقى حرام، يا أخي". إلياس الذي "حين كان يرقص، كان الأمر أشبه بصلاة".

الكاتبة اللبنانية الفرنسية ديما عبدالله

بيروت الجنية

في بيروت، يقيم الراوي في دار السيدة هند، وهي عجوز "تتنهد كما تتنهد الأرواح المبتورة من شيء ما". وأثناء تجواله في أرجاء المدينة، يفكر في ليلى وعينيها المبتسمتين "كي أنسى أنني لست من أي مكان، أنا اللقيط، لا من هنا، ولا من هناك، ولا من أي مكان آخر". يفكر في ليلى "لطرد شياطين الانتماءات الوهمية من ذهني، قائلا لنفسي بأنه إن فتحت ليلى يوما ذراعيها لي، فيسكون ذلك وطني ومسكني". يفكر في حبيبته "خصوصا كي لا أفكر فيه (الأب). كي لا أتساءل هل هو هنا أم في مكان آخر، هل هو حي أم ميت. (...) كي لا أعير انتباهي لأشباحه التي تستعمر كل رصيف في طريقي، لرصاصاته التي لا تزال آثارها على المباني، لأطيافه التي تتسكع في الشوارع، لأمواته الضائعين في أحواف المدينة (...)، لصوره ـــ صور قتلة ـــ المعلقة على الجدران في كل مكان".

لحسن حظه، السيدة هند جنية بكل معنى الكلمة، "لا تستسلم للعنات"، وتعرف كيف تلوي عنق القدر، فتحضنه بذراعيها الدافئتين، وتخرجه من قاع دواره، وتدور به في مختلف أنحاء لبنان، من دون أن تتوقف عن الكلام. لكنها "لم تتحدث عن موت الوالدين، ولا عن الرحيل النهائي للأولاد والأحفاد الغاليين، ولا عن الأمسيات الطويلة التي أمضتها وحدها في الشقة المهجورة من كل ما أحبته. لم تحدثني البتة عن الحرب، لم تلفظ الكلمة الملعونة، ولم تجعلني أشعر قط أن كل ما كانت تقصه علي بلا انقطاع، كل يوم، قد ضاع نهائيا. لم تقل لي إن كل تلك الأشياء الجميلة غرقت في الظلام (...). وحين كانت تنقص الكلمات، كانت تعرف بحكمتها كيف تكف عن الكلام وتتقبل الصمت".

دوامة هذه الرحلة الثرية بالانفعالات المتضاربة تسمر الراوي طويلا في سريره، لدى عودته إلى شقة أمه، قبل أن ينهض يوما ويجد الجرأة على الإمساك بيد ليلى والفرار معها: "فقط أنا وهي وأقدامنا التي تسير بلا وجهة محددة في الشوارع المزدحمة والمهجورة من كل شيء إلا منا. إلا منها". وما سيعيشانه لفترة، خصوصا في وادي إيبيه الخلاب، سيكون سحريا، لكننا لن نعرف ذلك إلا بعد عشرين عاما، حين نرى الراوي يعيش في ذكرى ليلى، حين ندرك أن السحر تبدد يوما وأن حبيبته غادرته لأنه "من فرط رغبتي في امتلاكك، من فرط غيرتي من الهواء الذي يجرؤ على دخول جسدك، (...) من فرط خوفي من فقدانك، أصبحتُ مجنونا".

هكذا يفشل الراوي الشاعر في كتابة "القصيدة الوحيدة التي تستحق الكتابة حقا، قصيدة وجودك بقربي. منذ اللحظة الأولى أردت امتلاكك الى درجة أنني كنت محكوما بقتل أجمل ما في العالم، كل ما في الحياة من معنى ودفء". لذلك، نراه بعد عقدين، تائها، لكن دائما متيما بليلى وممزقا بما اقترفته يداه: "لقد تهتُ كما تفعل فقط النفوس التي تهجر العالم (...). لكني كنت أعلم في أعماقي أن ثمة دائما مكانا يختم السير بلا هدف، مكانا نبحث عنه من دون أن ندري. لم أكن أعلم بعد أنني كنت أصعد نهر حبنا مثل سمك السلمون الذي يغادر البحر للصعود إلى مكان ولادته".

غلاف رواية "من ضفة إلى أخرى"

ولأننا "مهما تسكعنا، ثمة دائما وجهة، أرض تنتظرنا وتعرف أننا في طريقنا إليها"، يعود الراوي مجددا إلى بيروت، لكن ليس قبل أن يستقر طويلا في وادي إيبيه حيث عاش أجمل أيام حياته مع ليلى، لقراءة كتب كثيرة عن الحرب التي أدمت بلد والده، وعن تاريخه قبل هذه الحرب، لاعنا، "ما تدفق في جسدي من نقص ولعنة، (...) ما جعل مني ذلك الشخص الذي فقدك".

لغة مكثفة

أما كيف تنتهي رحلته، فنعرف من ليلى، التي ترك لها دفاتره، أن "الأمر انتهى به وحيدا، على هامش العالم. انتهى به الأمر في الحي نفسه الذي ولد ونشأ فيه، ولا روح له. أمضى عاما في بيروت يتوسل الانتماء إلى مكان ما، يسكن حرق دمه، يخترع لنفسه دارا، ثم عاد إلى حيث لا أحد في داره. منفيا في حي المنفيين، وحيدا، على هامش العالم".

أحيانا تكون الليالي طويلة ومظلمة إلى حد يجعلها تلفظ فجرا جديدا من كل شيء، فجرا يفجر في وجوهنا شموسا حارة

قيمة هذه الرواية تكمن أولا في لغتها المكثفة التي لن نجد وصفا أكثر دقة لها مما تكتبه عبدالله بنفسها داخل نصها: "كلمة، ثم أخرى، بيتا شعريا، ثم آخر، وإذ بالإيقاع يحول الاختناق إلى نفس طويل. إلى جملة. إلى نشيد". لغة شعرية بامتياز تتطلب تركيزا ثابتا للإمساك بكل صورها ودلالاتها، لكن من دون أن يجهد ذلك قارئها، الذي يبقى ممغنطا حتى النهاية بجمالياتها وإيحاءاتها.

تكمن أيضا قيمة الرواية في رحلة البحث عن الذات والهوية التي يقودها راويها، وتمنحها طابعا مساريا، وعموما في براعة تجسيد جميع شخصياتها الرئيسة (الأم، ليلى، إلياس، السيدة هند)، وفي توظيفها الحاذق لمقاربة موضوعات مهمة كثيرة، بمعرفة وحساسية لافتتين، أبرزها: موضوع الحب الأول بوقعه البليغ ومختلف المشاعر المتضاربة الملازمة له، موضوع الأصول وصعوبة الإفلات من لعنتها، التي يختصرها الراوي بسؤالين يقضان مضجعه: "لماذا يسكنني بلد لم أولد ولم أنشأ فيه؟ ما علاقتي بكل هذا التاريخ الذي أجهله؟"، وموضوع الحرب، وتحديدا مسألة عدم اقتصار نطاق عنفها على زمان ومكان حدوثها، كما يظهر ذلك جليا في تداعيات عنف والد الراوي، ليس فقط على زوجته، بل على ابنه أيضا.

ومن خلال الحي الذي يعيش الراوي فيه مع أمه، تلمع أيضا رواية عبدالله في تصوير تلك الأحياء الهامشية في الغرب التي لا تنتمي في الواقع إلى أي جغرافيا أو بلد محدد، ويقطنها حصرا منفيون بؤساء لا يكترث لأمرهم أحد، وبسبب ذلك، يقعون غالبا فريسة تجار المخدرات أو الدعاة المتشددين، كما يحصل مع صديق الراوي، إلياس، الذي يتوارى عن الأنظار في واحدة من حروب شرقنا، بعد اعتناقه عقيدة قاتلة.

وإذ لا مجال هنا لعرض سائر مكامن غنى هذه الرواية، نكتفي بالإشارة إلى تلك الجمل الغزيرة الرائعة التي ترصع نصها وتصلح لأن تكون أقوالا مأثورة. ومن بينها: "ثمة هاويات لا قاع لها ولا أحد قادر على مد يده لانتشالكم منها"، "أحيانا يجب أن نترك الشمس تغيب ونرحب بالليل"، "أحيانا تكون الليالي طويلة ومظلمة إلى حد يجعلها تلفظ فجرا جديدا من كل شيء، فجرا يفجر في وجوهنا شموسا حارة وشواطئ تنتظرنا".

font change

مقالات ذات صلة