شيعة جبل عامل تحت الركام

لم يحتفل جبل عامل بالعيد فالوقت هنا فقط للحزن

شيعة جبل عامل تحت الركام

جبل عامل (الجنوب اللبناني) ما زال ينزف، كأن اتفاق وقف إطلاق النار ليس أكثر من حبر على ورق. شبح الموت يقبض على الأجواء ويتحكم في حركة الناس، كل يوم تُغير مسيّرة إسرائيلية على سيارة وتقتل من فيها ومن حولها، أو تلاحق طائرة حربية "مقاتلين" بقصد اغتيالهم، فتقتل في طريقها المزيد من المدنيين، والغارات والانفجارات لا تتوقف، والعدو متمترس في النقاط الخمس التي رفض الانسحاب منها...

لم يعد يمكن وصف ما يجري بأنه حرب فقط، رغم أن جروحها ما زالت حية، إنه إبادة ديموغرافية لشيعة جبل عامل، الذين باتوا يشعرون بأنهم غارقون في نفق مصيري مظلم، يصارعون فيما تبقى لهم، بانتظار حل حقيقي يضع حدا لنكبتهم.

وعليه، لم يحتفل جبل عامل بالعيد، برغم أنه العيد الأول بعد الحرب، فالوقت هنا فقط للحزن، مشهد الجنازات في القرى يقول كل شيء، وعلى الطرقات صور القتلى (السعداء) تملأ الجدران، كثيرون لم يُعثر على جثثهم بعد... بينما تواصل الأمهات البحث عن عظام أبنائهن في البراري وتحت الأنقاض، هن اللواتي اعتدن البكاء في مجالس العزاء الحسينية، ابتلعن دموعهن في هذا العيد، وكأن الفجيعة أكبر من أن تُرثى، وكأن الحزن ترف في ظل هذا الخراب.

في زمن الحرب، كان سؤالهم الوحيد: كيف نصمد؟ بعد الاتفاق صارت الأسئلة أكثر حساسية: لماذا تورطنا في الحرب أصلا؟ لماذا لم نتوقف حين اتضح أننا مكشوفون أمام التفوق التكنولوجي الإسرائيلي؟ أين ذهبت القوة الصاروخية؟ وكيف تحولت القرى الأمامية إلى مقابر مفتوحة؟ من صنع هذه الإبادة؟ هل يعلم "المنتصرون" ما تعنيه هذه النكبة؟

شيعة جبل عامل ما عادوا يصدقون رواية الانتصار الرسمية، هم مقتنعون بأن الثمن الذي دفعوه كان أكبر من كل المكتسبات؛ وإن أظهروا عكس ذلك في الإعلام، وهم اليوم أكثر الأقليات إحباطا وشعورا بالخديعة في العالم.

"حزب الله" هو الآخر يخدع نفسه، حين يظن أن الناس ما زالوا مؤمنين بشعارات النصر، فالغالبية ترددها مجاملة لا قناعة، ومن الشجاعة أن يعترف، لأن الوقت لم يعد يتسع للمزيد من الإنكار، بأن دم الطائفة دين في رقبته، وليكف عن استغلال ولائها ووفائها ليروج لنصر إلهي جديد، فالنصر "وجودي" قبل أي شيء، والشيعة اليوم تحت الركام.

لكن "حزب الله" مستمر في الانفصام، فلم يخرج مسؤول واحد منه، يشرح للناس ما حصل، أو يعترف بشجاعة بخطأ الدخول في "حرب الإسناد"، أو بالمسؤولية عن ترك شبان الطائفة وحيدين في معركة غير متكافئة بالأساس، وبلا خطط ولا قيادة ولا تواصل، حتى نجا من هرب منهم وقضى من بقي.

هل وزارة المالية أهم من كل هذا؟ يسأل العامليون، هل المحاصصة السياسية أكثر قداسة من الوجود؟ ألم يفطن "حزب الله" حين ورط الشيعة إلى أن الأقليات لا تتحمل الحروب؟ وأن الهزيمة تهديد وجودي لها؟ وأنه لا يمكن بناء مستقبل سياسي على جثث أبنائها؟

شيعة جبل عامل يعترفون اليوم بأن ما يحتاجونه هو الدولة، عودة الدولة، لأن غيابها يعني استمرار الحرب والنزف والخراب والارتهان، وإعادة الإعمار هي المدخل الوحيد

مضى أربعة أشهر على اتفاق وقف إطلاق النار حتى الآن، والواقع أن جبل عامل ما زال محتلا ومنكوبا ومهزوما، فيما يستمر "حزب الله" المنتصر في بث خطابات البطولة، وكأن الدماء التي سالت ليست إلا تفصيلا عابرا، قمعوا كلام الناس عن إيران ودورها في ما جرى، لا أحد منهم امتلك الجرأة ليقول إن ما حدث كان خيانة، وأن كل ما جاء بعدها ليس إلا محاولات فاشلة لتلطيفها أو لتبريرها، ومنها الصواريخ التهريجية الأخيرة، التي استدرجت الاعتداء على ضاحية بيروت الجنوبية.

غضب شيعة جبل عامل يتراكم، ويُراكم في طياته شرارة انفجار قادم، تمرد على واقع فرضه "مشروع المقاومة"، فهم يتناقلون ولو سرا، أنهم لم يدفعوا هذا الثمن من أجل غزة، ولا من أجل أي شعار تحريري آخر، بل من أجل مشروع أقلوي سياسي يرى نفسه قادرا على حكم الأكثرية، رغم معطيات التاريخ والجغرافيا كلها...

شيعة جبل عامل يعترفون اليوم بأن ما يحتاجونه هو الدولة، عودة الدولة، لأن غيابها يعني استمرار الحرب والنزف والخراب والارتهان، وإعادة الإعمار هي المدخل الوحيد، عشرات الآلاف من المهجرين ينتظرون عودتها، وكلما زاروا قراهم ورأوا الدمار، تكرست في وجدانهم حقيقة أن لا أحد يحمي وجودهم سوى الدولة، وأن قراهم لن تُبنى بالشعارات والأوهام، وأن كل يوم يمضي دون الدولة هو نكبة إضافية لهم، برغم أنهم يدركون أن يد الحكومة الجديدة ما زالت مغلولة، والمساعدات الدولية متوقفة، لأنه لا أحد يرغب في تمويل دولة مخطوفة!

font change