حسين جلعاد لـ"المجلة": الأرشيف ليس ما نملكه بل ما نستعيده بالذاكرة

كتابه الجديد "شرفة آدم" يغوص في عوالم الثقافة والإبداع

حسين جلعاد

حسين جلعاد لـ"المجلة": الأرشيف ليس ما نملكه بل ما نستعيده بالذاكرة

قليلة الإصدارات التي تنجح في أن تحمل بين طياتها ثقل الجهد الفكري والاستقراء الإنساني، لكن الصحافي الثقافي والشاعر الأردني حسين جلعاد، يفعل ذلك باقتدار في كتابه "شرفة آدم" الصادر حديثا عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، والذي يأتي حصيلة سنوات من الاستقصاء الثقافي، والانخراط الفني، والدافع المستمر لطرح الأسئلة على العالم الأدبي من منظور إنساني عميق.

"المجلة" التقت حسين جلعاد وأجرت معه هذا الحوار حول كتابه وأبرز الشخصيات التي حاورها أو التي كتب عنها في هذا الكتاب.

  • ماذا تخبرنا بداية عن هذا الإصدار، وما الذي يعنيه لك؟

"شرفة آدم” هو بمثابة سيرة فكرية، لا توثيقية، سيرة لأسئلتي وأفكاري وحواراتي مع الذات والعالم. كل نص فيه امتداد لقلقي الفكري والعاطفي. أشعر برضا لأنه يعكس جزءا من رؤيتي، وبالقدر نفسه أشعر بالقلق لأن كل نص يفتح سؤالا جديدا، كأنني لا أصل الى إجابات بل الى أسئلة أعمق. خضت حوارات طويلة مع مثقفين، بعضها نُشر وبعضها تلاشى شفهيا أو ضاع. هذه الخسارة جعلتني أدرك أن الأرشيف ليس فقط ما نملكه، بل ما نتخيله ونستعيده بالذاكرة. في “شرفة آدم”، حاولت إعادة بناء بعض تلك اللحظات بأسلوبي، كمقاومة للنسيان.

  • خلال رحلتك مع الصحافة الثقافية والنقد، ما الإضافات التي نلتها معرفيا من هذا العمل؟ وهل أثر في منتجك الشعري؟

الصحافة الثقافية كانت تجربة معرفية عميقة شكلت وعيي الإبداعي. عملت على قراءة العالم من زوايا متعددة، فالتعرف الى تيارات فكرية وأدبية فتح لي آفاقا جديدة. الصحافة ساعدتني في تطوير حس نقدي وفهم كيفية تشكيل الأفكار في ظل التحولات الثقافية. كما أن الحوار مع المبدعين منحني فهما أعمق لعملية الإبداع.

هذه التجربة جعلتني أكثر وعيا بحساسية اللغة وأقرب إلى الشعر كطاقة تشكيلية، فأصبحت لدي جرأة أكبر في كسر التوقعات الشعرية وتجربة أشكال ومضامين جديدة

هذه التجربة جعلتني أكثر وعيا بحساسية اللغة وأقرب إلى الشعر كطاقة تشكيلية، فأصبحت لدي جرأة أكبر في كسر التوقعات الشعرية وتجربة أشكال ومضامين جديدة. الصحافة الثقافية لم تكن هامشا بل هي جزء أساسي في مسيرتي.

المثقف والتقلبات

  •  في حديث الأديب إبراهيم أصلان لك عن الشاعر عبد الوهاب البياتي، تنكشف جدلية حول طبيعة المثقف وشخصيته، فكيف يمكن المواءمة بين صفات المثقف الجمالية شعرا وسردا، وبين صفاته الشخصية؟

هذه إحدى الجدليات التي طالما شغلت القارئ والناقد معا: هل الجمال الذي يكتبه المثقف يعكس بالضرورة حياته وسلوكه؟ أصلان كان يلمح إلى هذا التوتر بين شاعرية البياتي وتقلباته الشخصية. فالمثقف ليس كائنا نقيا خارج التاريخ، بل هو ابن بيئته وتناقضاته. لا يمكننا أن نطالبه بأن يكون نسخة مطابقة لنصه، ولا أن نفصل شخصه عن أثره الإبداعي. الشعر والسرد فضاء للجمال، لكنهما أيضا مرآة لصراع الإنسان مع نفسه والعالم. التناقض لا يُنقص قيمة النص، بل ربما يضيف إليه كثافته وصدقه الإنساني.

  •  كتبت عن نيرودا ومحمود درويش، اللذين جمعا بين السياسة والشعر. فما الذي يجعل الشاعر يتجه الى العمل السياسي؟

حين يدخل الشاعر إلى السياسة، فإنه يخطو نحو منطقة تتقاطع فيها لغة الحلم مع واقع الصراع. فالشعر يريد أن يحلق، والسياسة تميل إلى التفاوض والتوازن. نيرودا ودرويش خاضا هذا الاشتباك، كل بطريقته. ربما يفكر الشاعر بالتأثير، بتحويل القصيدة إلى أثر ملموس. لكنه سرعان ما يدرك أن السياسة لا تمنحه حرية مطلقة، بل تفرض عليه حسابات قد تطفئ توهجه. بعضهم استمر بوعي، وبعضهم انسحب حين شعر أن السياسة تخنق روحه.

الترجمة والشعر

  •  تتطرق أيضا إلى الترجمة من العربية إلى لغات أخرى، فما المعوقات التي تواجه هذه الترجمة؟

الترجمة ليست نقلا لغويا فقط، بل عبور ثقافي مليء بالتعقيدات. اللغة العربية بتراكيبها الغنية تشكل تحديا، كما أن المؤسسات الداعمة للترجمة لا تزال ضعيفة. يضاف إلى ذلك تحكّم منظور غربي في اختيار النصوص، مما يقصي الكثير من التنوع الحقيقي في الأدب العربي. وهناك غياب للوسطاء الثقافيين القادرين على حمل هذا الأدب الى العالم، فضلا عن الرقابة التي تحدّ من انتشار بعض الأعمال. كل هذه العوامل تجعل عبور الأدب العربي إلى لغات العالم أمرا شاقا، رغم الجهود الفردية التي تستحق التقدير.

ربما يفكر الشاعر بالتأثير، بتحويل القصيدة إلى أثر ملموس. لكنه سرعان ما يدرك أن السياسة لا تمنحه حرية مطلقة، بل تفرض عليه حسابات قد تطفئ توهجه

  •  تطرح سؤال شيقا في الكتاب: ما الذي يخلّد الشعر؟ فهل عرفت الجواب؟

هذا سؤال طالما شغلني، وطرحته في كتابي "شرفة آدم": ما الذي يجعل أبيات الشنفرى أو سان جون بيرس لا تزال حية في الوجدان؟ الشعر يخلد حين يتجاوز زمنه، حين يحمل تجربة إنسانية صادقة تلامس القلوب مهما اختلفت الأزمنة. القصائد التي تسكن الذاكرة هي تلك التي تُقرأ بأكثر من زاوية، وتعيد طرح الأسئلة الكبرى عن الحب والموت والحرية. الشعر الخالد لا يُكتب بنية الخلود، لكنه ينجو لأنه يمس شيئا عميقا في روح الإنسان، شيئا يظل حيا في الوعي الجمعي جيلا بعد جيل.

غلاف كتاب "شرفة آدم"

إبراهيم نصر الله وغالب هلسا

  •  تناولت تجربة إبراهيم نصر الله، كتجربة تعددية بين الشعر والسرد والفن. كيف ينجح المبدع في حقول مختلفة؟ وهل هذا أمر قابل للتحقق فعلا؟

نصر الله يشكل مثالا نادرا لصوت إبداعي يتحرك بين الشعر والرواية والفن البصري، دون أن يبدد نبرته الخاصة في أي من هذه الحقول. ليست المسألة مجرد تنقل بين أشكال، بل هي طاقة تملك القدرة على التشكل والتلون دون أن تفقد جوهرها. النجاح في أكثر من مجال ليس مستحيلا، لكنه ليس أمرا آليا. لا بد من صوت داخلي ناضج، ومن وعي بأن لكل حقل أدواته، إيقاعه، وخصوصيته. ليس الشعر سردا مكثفا، ولا السرد شعرا مسترسلا.

المبدع حين يتنقل بين الأجناس لا يغامر، بل يكشف عن مساحة أوسع من ذاته. ما يصنع الفارق هو الإضافة الحقيقية، لا التجريب العابر. نصر الله، مثلا، لا يبدو شاعرا يكتب رواية، ولا روائيا يتنكر في قصيدة، بل يبدو أنه يعيد ابتكار اللغة في كل شكل. بعض المبدعين يخشون هذه القفزات، لكن الذين يملكون مشروعا داخليا ناضجا، هم من يستطيعون العبور دون أن يضيعوا الطريق.

  •  يدفعنا حديثك عن الأديب غالب هلسا إلى السؤال: ما الذي يجب على المثقف العربي فعله لتغيير الواقع العربي اجتماعيا وسياسيا؟

هذا سؤال لم يبرح المشهد العربي منذ عقود، ولا يزال يتردد بتوتره الأول. هلسا لم يطرحه نظريا، بل عاشه على جلده، ودفع ثمن انحيازه للفكر وللحياة معا. المثقف لا يملك عصا سحرية، لكنه يملك ما هو أهم: الوعي النقدي. أن يرى الواقع من مسافة تسمح له بتفكيكه، لا أن يغرق في تبريره. التغيير لا يأتي من التعالي، بل من الاشتباك، من الانخراط في الحياة اليومية، من النزول إلى القاع حيث تختنق الأسئلة.

المثقف لا يصنع التغيير وحده، لكنه يمهّد له حين يعيد بناء المفاهيم، حين يفتح اللغة على أسئلة الحرية والعدالة

لكن الخطورة تكمن حين يصبح المثقف تابعا، سواء للسلطة أو للمعارضة،  حينها يفقد دوره ويتحول إلى صدى. عليه أن يكون مقاوما، لا مكررا. فالمثقف لا يصنع التغيير وحده، لكنه يمهّد له حين يعيد بناء المفاهيم، حين يفتح اللغة على أسئلة الحرية والعدالة، حين يقدم بدائل لا شعارات. لا يكفي أن ينتقد، بل عليه أن يغامر بخلق مشروع معرفي يواجه السائد ويقترح الجديد، تماما كما فعل هلسا، الذي لم يكن كاتبا عابرا، بل كان صوتا في صراع طويل مع الاستلاب.

كسر المعنى

  •  تحدث إليك الشاعر البحريني قاسم حداد عن فكرة كسر المعنى كما كُسر الوزن في الشعر. كيف يكسر الشاعر المعنى؟

كسر المعنى ليس محوا له، بل زحزحة له عن مواضعه التقليدية. كما كُسر الوزن ليُفتح الباب أمام حرية الإيقاع، يُكسر المعنى ليتحرر من المباشرة، من القوالب المستهلكة. الشاعر يخلق دهشة حين يعيد ترتيب العلاقات بين الكلمات، فيسقط المعنى المألوف، ويصعد معنى جديد من فجوة المفارقة أو التوتر أو الانحراف الدلالي. ربما يقول شيئا بسيطا، لكنه يقوله بطريقة تقلب التوقع. الغموض هنا ليس عجزا، بل اقتراح لتأويل متعدد، لرؤية غير مكتملة، لنص لا يغلق على تأويل واحد. الصورة تفكك، الرمز يعاد تركيبه، التراكيب تُقطّع، واللغة تتكسر لتكشف عن هشاشة المعنى المستقر. لكن هذا الكسر لا يكون فعالا إلا حين ينبع من تجربة شعرية عميقة، لا من رغبة في التعقيد الفارغ. كأن القصيدة تصبح ساحة مفتوحة للمعنى، لا ممرا ضيقا لرسالة جاهزة.

  •  يرى الشاعر الإماراتي الراحل أحمد راشد ثاني، أن الثقافة الشفهية تفوقت على الثقافة الكتابية عربيا، وأفشلت الحداثة. في رأيك، كيف يؤثر ذلك على الحريات العربية؟

 ما يقوله أحمد راشد ثاني عن تفوق الثقافة الشفهية على الثقافة الكتابية في العالم العربي، وتأثير ذلك على الحداثة، يعكس إشكالية جوهرية في العلاقة بين الوعي والتعبير والحريات. الثقافة الشفهية، رغم كونها حاملة للذاكرة الجمعية، إلا أنها في طبيعتها تميل إلى الترسيخ أكثر من التغيير، إلى التلقين أكثر من التحليل، وهذا له أثر عميق على مسألة الحريات في المجتمعات العربية.

الثقافة البصرية اليوم تهيمن على الذائقة الجمالية، والشعر أصبح أكثر تجربة فردية بسبب عزلة الشعراء عن الجمهور

في الثقافة الشفهية تُنقل الأفكار والمرويات دون تمحيص نقدي أو توثيق، مما يجعلها أكثر قربا إلى الأيديولوجيا المغلقة، ويحد من فضاء الشك والتساؤل الضروري للممارسة، وقطعا التغيير لا يأتي بإلغاء الثقافة الشفهية، فهي جزء أصيل من التراث العربي، لكنها تحتاج إلى موازنة مع ثقافة كتابية قوية تخلق حوارا بين الماضي والمستقبل. حين تترسخ الكتابة بوصفها فضاء حرا للإبداع، وعندما يتحول الفكر المكتوب إلى عنصر مؤثر في تشكيل الوعي، عندها فقط يمكن الحديث عن تحولات حقيقية في الحريات العربية. بالتالي، فإن ما أشار إليه أحمد راشد ثاني ليس مجرد ملاحظة ثقافية، بل تشخيص دقيق لواحدة من المعضلات الكبرى التي تواجه الفكر العربي في علاقته بالحريات والحداثة.

  •  يرى معظم المثقفين، بمن فيهم الشاعر الإيطالي المجدد إدواردو سانجونيتي، خلال محاورتك، أن الشعر في أزمة. ما السبب في رأيك؟

حديث "أزمة الشعر" ليس جديدا، لكنه يتغير مع كل جيل. الشاعر إدواردو سانجونيتي لا يشير إلى تراجع الشعر كفن، بل إلى تراجع تأثيره في المجتمع. تطور السرديات الحديثة ووسائل التعبير الأخرى، إضافة إلى تسارع إيقاع الحياة، جعل القارئ ينجذب إلى الرواية والنصوص السريعة. الثقافة البصرية اليوم تهيمن على الذائقة الجمالية، والشعر أصبح أكثر تجربة فردية بسبب عزلة الشعراء عن الجمهور. لكن الشعر لم يمت، هو في تحول مستمر. التحدي للشعراء الآن، هو أن يجدوا طريقة لاستعادة دورهم بعيدا عن الحنين إلى الماضي أو التقليد. الشعر سيظل موجودا ما دام هناك إنسان يبحث عن المعنى.

font change