"يمكن التنكر اللاواعي للاحتياجات الفيزيولوجية، تحت غطاء الموضوعية، والمعنى، والعقلانية الخالصة، أن يتخذ أبعادا مذهلة – كثيرا ما تساءلت عما إذا لم تكن الفلسفة، في نهاية المطاف، قد تمثلت بالكامل في تأويل للجسد وسوء فهم له" (نيتشه).
جسدنا من أقرب الأمور إلينا، إننا "نلتحم" به كما تقول اللغة الفرنسية On fait corps avec lui لذا فهو يبدو لنا أمرا بدهيا، إلا أنه في النهاية، ربما لا شيء يعادل إدراكه صعوبة. فهو ليس أبدا معطى أوليا لا جدال فيه كما قد يتبدى، بل هو نتيجة مركبة للبناء الاجتماعي والثقافي. فكما أنه لا توجد طبيعة إنسانية ثابتة، لا وجود أيضا لطبيعة جسدية ثابتة. بل إن وضع الإنسان ينتج منه وضع جسدي يتغير تبعا لتغير الأماكن والأزمنة في المجتمعات الإنسانية.
كان ينبغي انتظار القرن السابع عشر كي يتخلص الجسد من نفوسه الغاذية والحركية والغضبية، وكي يغدو عند أبي الفلسفة الحديثة آلة، على عكس ما كان عليه الأمر في ما قبله حيث كان جسما تحركه النفوس. الإنسان عند ديكارت فكر وامتداد، فكر وآلة، المشهور عنه أنه فصل الفكر عن الامتداد. إلا أنه سينتهي بأن يقول، بما أن الإنسان فكر وامتداد، فليس هو لا هذا ولا ذاك. هناك في الفكر أشياء مغايرة للفكر، كما في الجسد أشياء مغايرة للجسد. الفرح الذي يظهر في العينين، ليس من الجسد لكنه يظهر في الجسد. هناك إذن تمفصل بين الجسد والفكر حتى عند ديكارت. صحيح أنه ليست هناك وحدة بينهما كما كان الأمر عند القدماء، لكن هناك تمفصل.