تقنية الواقع الافتراضي لعلاج الاضطرابات النفسية

مزايا وتحديات

Shutterstock
Shutterstock
طبيب نفسي يسأل مريضة، مستخدما سماعة الواقع الافتراضي، بعض الأسئلة عن طفولتها

تقنية الواقع الافتراضي لعلاج الاضطرابات النفسية

قبل أكثر من 60 عاما صمم المخترع الأميركي مورتون هيلينغ جهازا عجيبا يلتقي فيه الواقع بالخيال. كان ذلك الجهاز المسمى "سينسيوراما" إحدى أولى المحاولات الجريئة لاختراق حدود الإدراك البشري. لم يكن مجرد اختراع ميكانيكي، بل كان محاولة للإجابة عن سؤال يحمل في طياته الكثير من الفلسفة. فما هي طبيعة التجربة الحقيقية؟ وكيف تُصنع "الحقيقة" داخل مختبر الحواس؟

كان ذلك الجهاز أول محاولة لصناعة "واقع افتراضي". ففي ورقته البحثية المعنونة بـ"سينما المستقبل"، تصورهيليغ فنا قادرا على محاكاة نسيج الواقع نفسه، حيث يصبح المشاهد مشاركا في حدث مصنوع، معيش بحميمية تامة.

تعامل "سينسيوراما" مع الجسد كشريك في الوهم، إذ يتكون من كرسي متحرك يحاكي اهتزازات الدراجة النارية، ومروحة تطلق نسيم الشوارع، وروائح الكيميائية تعيد طباعة ذاكرة المدينة في أنف المستخدم. باستخدام ذلك الجهاز، لم تعد التكنولوجيا أداة عرض، بل أصبحت آلة لـ"تأليف الواقع".

والآن، تطورت تقنية الواقع الافتراضي وأحدثت نقلة نوعية في مجالات عدة، لا سيما في مجال العلاج النفسي، بعدما أنشأت بيئة رقمية تفاعلية ثلاثية الأبعاد تحاكي الواقع بدقة، مما يسمح للمستخدم بالانغماس الكامل داخلها.

في السياق العلاجي لتلك التقنية، يرتدي المريض خوذة مزودة شاشة ومستشعرات حركة، ليجد نفسه غارقا داخل مشاهد افتراضية يشعر كأنها حقيقية تماما. من هنا، برزت قدرة الواقع الافتراضي على محاكاة المواقف الحياتية بشكل مقنع، الأمر الذي فتح آفاقا واسعة أمام أساليب علاجية جديدة.

لشرح كيف تعمل تقنية الواقع الافتراضي وكيف جاءت فكرة استخدامها في العلاج النفسي، يقول الدكتور ألبرت سكيب ريزو، مدير مجموعة الطب الافتراضي في معهد تقنيات الإبداع بجامعة جنوب كاليفورنيا، وأستاذ الأبحاث في قسم الطب النفسي ومدرسة علم الشيخوخة بالجامعة، في تصريح خاص لـ"المجلة" إن "الواقع الافتراضي والتقنيات الرقمية المرتبطة به تتيح فرصا جديدة لتعزيز البحث السريري والتقييم والتدخل العلاجي. وقد استُلهمت هذه الرؤية في البداية من النجاح الطويل لتقنيات المحاكاة العامة في مجالات مثل تدريب الطيران والتخطيط العسكري وتصميم السيارات والمعدات والمعمار، والتدريب على الجراحة الروبوتية".

ومن هنا جاءت الفكرة بأن استراتيجيات مشابهة في تقنيات المحاكاة يمكن أن تُستخدم لتطوير أدوات افتراضية قوية وفعالة للتطبيقات السريرية، ولكن بتكلفة منخفضة تتيح تقديم تجارب الواقع الافتراضي داخل عيادات الأطباء والمستشفيات والمختبرات البحثية.

تاريخ التقنية

تعود جذور تقنية الواقع الافتراضي إلى عصر النهضة الأوروبية، حيث ساهم تطور فن المنظور في رسم المشاهد الثلاثية الأبعاد. في القرن التاسع عشر، قدم السير تشارلز ويتستون "المجسم البصري" الذي مهد الطريق لفكرة الرؤية المجسمة. إلا أن المفهوم الحديث للواقع الافتراضي ظهر أولا في أعمال الخيال العلمي قبل أن يتحول إلى حقيقة تقنية.

يوفر الواقع الافتراضي مجموعة من المزايا تجعله أداة جاذبة ومهمة في ميدان العلاج النفسي الحديث

وفي خمسينات القرن الماضي، تصور مورتون هيليغ "مسرح التجربة" الذي يمكنه إشراك جميع الحواس. وفي عام 1962، حول رؤيته إلى واقع من خلال اختراع "سينسوراما"، وهو جهاز ميكانيكي يدمج الصور المجسمة والصوت والروائح واللمس عبر كرسي متحرك. رغم بدائيته، كان هذا النظام أول محاولة جادة لخلق واقع بديل متعدد الحواس.

شهد عام 1968 قفزة تقنية أخرى عندما طور البروفسور إيفان سذرلاند وزملاؤه في هارفارد أول نظام عرض مثبت على الرأس، أطلق عليه اسم "سيف داموقليس" بسبب وزنه الثقيل. خلال السبعينات والثمانينات، ركزت تطبيقات الواقع الافتراضي على المجالات العسكرية والطبية والصناعية. ثم أدخل جارون لانير مصطلح "الواقع الافتراضي" عندما أسس شركة VPL Research عام 1984. طورت الشركة أجهزة رائدة مثل "قفاز البيانات" و"هاتف العين". ومع ذلك، ظلت التكنولوجيا باهظة الثمن وغير متاحة للجمهور العادي حتى مطلع الألفية الجديدة.

شهد عام 2010 نقطة تحول عندما صمم بالمر لاكي النموذج الأولي لسماعة "أوكولوس ريفت". بعد استحواذ "فيسبوك" (ميتا لاحقاً) على "أوكولوس" عام 2014، تسارع تطور تقنيات الواقع الافتراضي. أدخلت شركات مثل "HTC" و"سوني" تقنيات تتبع متقدمة، بينما قدمت "غوغل" حلولا ميسورة التكلفة مثل "كاردبورد".

والآن، تستخدم تلك التقنية بشكل أساسي في التعليم والترفيه وأيضا في العلاج النفسي.

ولعل أبرز هذه الأساليب يتمثل في استخدام التقنية لعلاج اضطرابات القلق والرهاب، إلى جانب اضطراب ما بعد الصدمة. فقد أثبتت التجارب أن تعريض المريض افتراضيا لمصادر الخوف أو الصدمة يمكّنه من مواجهة مخاوفه وذكرياته المؤلمة بطريقة آمنة وتحت إشراف المعالج، مما يعزز فعالية العلاج بشكل ملحوظ.

بيئات علاجية

يوفر الواقع الافتراضي مجموعة من المزايا التي تجعله أداة جاذبة ومهمة في ميدان العلاج النفسي الحديث. فمن أبرز هذه المزايا أنه يتيح بيئة آمنة وخاضعة للتحكم، حيث يمكن المريض التعرض للمواقف المخيفة أو الصادمة دون أي تهديد حقيقي لسلامته. على سبيل المثل، يستطيع مريض يعاني من رهاب المرتفعات الوقوف "افتراضيًا" على حافة منحدر شاهق دون أن يتعرض لأي خطر فعلي تحت إشراف مباشر من المعالج، الذي يمتلك القدرة على تعديل مستوى التحدي وشدة المشهد داخل البيئة الافتراضية بكل سهولة.

يمكن تقنية المحاكاة بالواقع الافتراضي إنتاج بيئات مصممة خصيصا لتلبية احتياجات المريض، مما يوفر تجارب شخصية تتناسب مع مخاوفه وأهدافه العلاجية

ألبرت سكيب ريزو مدير مجموعة الطب الافتراضي في معهد تقنيات الإبداع بجامعة جنوب كاليفورنيا

وقد أظهرت الدراسات أن العلاج بالتعرض باستخدام الواقع الافتراضي، لا يقل فعالية عن أساليب التعرض التقليدية في الواقع، بل يتفوق عليها من حيث مرونة التحكم بمجريات الجلسة. إذ يستطيع المعالج زيادة صعوبة المشهد أو تقليلها تبعا لاستجابة المريض، وهو أمر يصعب تحقيقه بالدقة نفسها خارج العيادة. كما تتيح البيئة الافتراضية تكرار التعرض للمثيرات نفسها بالظروف ذاتها، وهو ما يُعد تحديا كبيرًا في العلاج بالواقع الفعلي.

في هذا السياق يضيف سكيب أنه يمكن تقنية المحاكاة بالواقع الافتراضي إنتاج بيئات مصممة خصيصا لتلبية احتياجات المريض، مما يوفر تجارب شخصية تتناسب مع مخاوفه وأهدافه العلاجية، "وسواء كان ذلك عبر تخصيص شدة محفز معين أو تعديل العوامل البيئية مثل الضوضاء أو الإضاءة، فإن الواقع الافتراضي يوفر مرونة قد تفتقر إليها الطرق التقليدية.".

كما يتميز الواقع الافتراضي بقدرته الفريدة على إثارة استجابة عاطفية حقيقية لدى المريض، إذ يخدع الدماغ ويدفعه للتعامل مع التجربة الافتراضية وكأنها واقعية تماما. ونتيجة لذلك، يشعر المريض بالخوف أو القلق داخل المشهد الافتراضي كما لو كان يعيش الموقف في الحقيقة، مما يعزز فعالية العلاج بالتعرض.

وفي الوقت نفسه، يدرك المريض وعيا أنه في بيئة علاجية آمنة وخاضعة للسيطرة، مما يسهّل عليه تقبل التجربة والانخراط فيها بثقة. وهنا تتجلى أهمية هذا التوازن بين الشعور بالواقعية والاطمئنان إلى أن التجربة افتراضية، الأمر الذي يُعد مفتاحا لنجاح العلاج في العديد من الحالات.

علاوة على ذلك، أثبت الواقع الافتراضي فعاليته منذ ظهوره في العلاج النفسي خلال تسعينات القرن الماضي، حيث أشارت تقارير مبكرة إلى نسب نجاح مرتفعة وصلت إلى تحسن أو شفاء نحو 90% من الحالات، وبنصف تكلفة العلاج السلوكي التقليدي تقريبا.

ورغم أن هذه النسبة قد تختلف وفقا لنوع الاضطراب والدراسة، إلا أن إدخال التقنية ساهم بشكل واضح في تقليل عدد الجلسات المطلوبة أو اختصار مدة العلاج لدى بعض المرضى، وهو ما يعني بالضرورة خفض التكاليف. كما أن انتشار أنظمة الواقع الافتراضي قد يسمح بوصول العلاج إلى مرضى في مناطق نائية أو إلى من يعجزون عن تلقي علاج تقليدي مكثف، الأمر الذي يوسّع نطاق الاستفادة ويعزز فرص العلاج.

Shutterstock
جندي متوتر يعاني من الاكتئاب ويجلس وحيدا في المنزل

من جهة أخرى، يتمتع الواقع الافتراضي بقدرة على جذب بعض المرضى الذين قد يحجمون عن المشاركة في الأساليب التقليدية للعلاج، إما بدافع الخجل أو بسبب صعوبة تخيّل المواقف أثناء جلسات العلاج بالتخيل. وهنا يشكل الواقع الافتراضي حلا وسطا مثاليا، إذ يمكّن المريض من خوض تجربة قريبة من الواقع دون الحاجة لخوض الموقف الفعلي، مثل السفر جوا بالنسبة لمن يعانون من فوبيا الطيران، أو استرجاع مشاهد يصعب تخيلها بدقة.

الواقع الافتراضي يتيح للمعالج خلق بيئة علاجية آمنة ومضبوطة، يستطيع من خلالها المريض مواجهة مخاوفه أو استرجاع تجاربه الصعبة بطريقة تدريجية ومدروسة


يوسف الشهري مدير قسم الطب النفسي بمدينة الأمير سلطان الطبية العسكرية

وقد وجد كثير من المرضى، لا سيما من الأجيال الأصغر سنا، في هذه التقنية وسيلة مشوقة ساعدتهم في الانخراط بشكل أفضل خلال الجلسات. وأفاد بعض الجنود القدامى ممن يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة، بأن جلسات الواقع الافتراضي سهلت عليهم استرجاع ذكريات دفينة ومعالجتها مع المعالج، وهو ما يشير إلى مستوى من الانفتاح والانخراط قد يفوق أحيانا ما يحدث في الجلسات الحوارية التقليدية.

ويقول الدكتور يوسف الشهري، مدير قسم الطب النفسي بمدينة الأمير سلطان الطبية العسكرية في تصريح خاص لـ"المجلة"، إن الواقع الافتراضي يتيح للمعالج خلق بيئة علاجية آمنة ومضبوطة، يستطيع من خلالها المريض مواجهة مخاوفه أو استرجاع تجاربه الصعبة بطريقة تدريجية ومدروسة. هذه التقنية تمنحنا قدرة عالية على التخصيص: "نصمم "سيناريو" علاجيا يناسب حالة كل مريض بدقة، مع الحفاظ على الإحساس بالأمان، وهو عنصر أساسي في أي تدخل علاجي ناجح.".

ولا تتوقف مزايا الواقع الافتراضي عند هذا الحد، إذ تتيح بعض الأنظمة المتقدمة دمج محفزات متعددة الحواس داخل التجربة، فلا تقتصر فقط على المشاهد البصرية، بل تشمل أيضا المؤثرات الصوتية والاهتزازات وحتى الروائح. على سبيل المثل، يمكن في علاج اضطراب ما بعد الصدمة إدخال أصوات تحاكي الانفجارات أو صوت المروحيات، إلى جانب اهتزازات أرضية لزيادة الشعور بالواقعية. ومثل هذه المؤثرات تعمق الاستجابة العاطفية لدى المريض وتربط التجربة الافتراضية بذاكرته الحقيقية، مما يساعده في معايشة التجربة المؤلمة ومعالجتها في الوقت ذاته، وكل ذلك تحت إشراف المعالج الذي يوجه المريض ويطمئنه بأن ما يراه ويسمعه ليس سوى محاكاة واقعية لكنها تحت السيطرة الكاملة.

تطبيقات العلاج النفسي

شهدت السنوات الأخيرة توسعا ملحوظا في استخدام تقنية الواقع الافتراضي ضمن الخطط العلاجية النفسية، حيث تنوعت المجالات والتطبيقات التي أثبتت فيها هذه التقنية فاعليتها وجدواها. فقد كان علاج الرهاب واضطرابات القلق من أوائل المجالات التي استفادت من هذه التقنية، إذ تم استخدام الواقع الافتراضي لعلاج أنواع متعددة من الرهاب الشائع، مثل الخوف من المرتفعات والطيران والأماكن الضيقة والظلام وحتى رهاب العناكب.

الواقع الافتراضي هو مجرد وسيلة من وسائل تقديم العلاج بالتعرض، لكنه وسيلة فعالة ومريحة للغاية


باربرا روثباوم أستاذة الطب النفسي ومديرة برنامج شؤون المحاربين القدامى وبرنامج التعافي من الصدمات والقلق في كلية الطب بجامعة إيموري

تعتمد الفكرة الأساسية لهذا النوع من العلاج على تعريض المريض تدريجيا لمصدر خوفه داخل بيئة افتراضية تحاكي الموقف المخيف بدقة، مما يسمح له بمواجهة مخاوفه بشكل آمن وتحت إشراف المعالج.

وقد أظهرت الدراسات نتائج إيجابية للغاية في هذا السياق، حيث تمكن الباحثون، على سبيل المثل، من خفض مستوى الخوف لدى مرضى رهاب المرتفعات بنسبة بلغت 68٪ خلال أسبوعين فقط من العلاج. اللافت أن جميع المشاركين في مجموعة العلاج بالواقع الافتراضي أبدوا تحسنا ملحوظا مقارنة بمن لم يتلقَّ العلاج، واستمر تأثير هذا التحسن حتى بعد مرور أسابيع على انتهاء الجلسات الافتراضية، وهو ما يفوق غالبا النتائج المتوقعة من الجلسات التقليدية وجها لوجه.

ولم يقتصر نجاح العلاج بالواقع الافتراضي على هذا النوع من الرهاب فحسب، بل امتد ليشمل الرهاب الاجتماعي واضطرابات القلق الأخرى. فقد بينت المراجعات المنهجية أن فعالية العلاج بالتعرض عبر الواقع الافتراضي، لا تقل عن فعالية التعرض الواقعي المباشر في العديد من حالات الرهاب، مثل رهاب الأماكن المفتوحة أو المغلقة. وتشير بعض الأبحاث إلى أن التطور المستمر في التقنيات وازدياد واقعية المشاهد الافتراضية قد يمنح الواقع الافتراضي مستقبلا الأفضلية على الأساليب التقليدية، مما يجعله خيارا واعدا في هذا المجال.

وفي ما يتعلق بعلاج اضطراب ما بعد الصدمة  وهو من أكثر الاضطرابات النفسية تعقيدا، فقد وجد المعالجون في الواقع الافتراضي وسيلة فعالة لتعزيز نتائج العلاج بالتعرض المطول، الذي يقوم على استعادة المريض ذكرياته المؤلمة بشكل تدريجي وآمن حتى تفقد قدرتها على إثارة الهلع والانفعالات المرافقة.

أداة للعلاج بالتعرض

وهنا تبرز أهمية الواقع الافتراضي الذي يُدخل المريض في مشاهد تحاكي الحدث الصدمي بكل تفاصيله، مما يساعده في مواجهة تلك الذكريات المكبوتة والتعامل معها بجرأة أكبر.

Shutterstock
رجل وامرأة في جلسة علاج نفسي بتقنية الواقع الافتراضي في العيادة

في هذا السياق تقول الدكتورة باربرا روثباوم، أستاذة الطب النفسي ومديرة برنامج شؤون المحاربين القدامى وبرنامج التعافي من الصدمات والقلق في كلية الطب بجامعة إيموري، في تصريح خاص لـ"المجلة" إن الواقع الافتراضي في هذا السياق هو أداة للعلاج بالتعرض. هذا النوع من العلاج يساعد المرضى في مواجهة مخاوفهم بطريقة علاجية تؤدي إلى تقليل شعورهم بالانزعاج تدريجيا، "والواقع الافتراضي هو مجرد وسيلة من وسائل تقديم العلاج بالتعرض، لكنه وسيلة فعالة ومريحة للغاية. على سبيل المثل، لعلاج الخوف من الطيران، يمكننا استخدام طائرة افتراضية ومحاكاة الموقف المحدد الذي يكون أكثر فائدة علاجية للمريض في تلك الجلسة، والإقلاع والهبوط بعدد المرات التي نحتاجها، وكل ذلك دون مغادرة العيادة وخلال ساعة العلاج نفسها".

أثبتت التجارب فعالية الواقع الافتراضي في إدارة الألم، حيث تم توظيفه لتخفيف معاناة مرضى الحروق الشديدة أثناء تغيير الضمادات أو خلال جلسات إعادة التأهيل المؤلمة


ولعل أهم ما توصلت إليه الدراسات الحديثة هو أن استخدام الواقع الافتراضي في علاج اضطراب ما بعد الصدمة، أسفر عن نتائج مشجعة، حيث أظهرت مراجعات بحثية انخفاضا واضحا في شدة الأعراض، بما في ذلك الكوابيس واسترجاع الذكريات المؤلمة والاكتئاب المرافق. بل واستمرت هذه النتائج الإيجابية في التحسن حتى بعد أشهر من انتهاء العلاج، مما يعكس عمق التأثير العلاجي واستدامته. وفي إحدى التجارب الإكلينيكية العشوائية المحكّمة، تبين أن دمج الواقع الافتراضي مع العلاج التقليدي أدى إلى انخفاض أكبر في أعراض اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب والغضب، مقارنة بالعلاج التقليدي وحده. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن البروتوكولات العلاجية الأكثر فعالية تعتمد على دمج الواقع الافتراضي مع أساليب علاجية أخرى، مثل العلاج السلوكي المعرفي أو العلاج الدوائي، لتحقيق أفضل النتائج الممكنة.

أما على صعيد الاستخدامات العلاجية الأخرى، فقد فتحت تقنية الواقع الافتراضي آفاقا جديدة في التعامل مع طيف واسع من الحالات النفسية والجسدية ذات الصلة.

فقد أثبتت التجارب فعالية الواقع الافتراضي في إدارة الألم، حيث تم توظيفه لتخفيف معاناة مرضى الحروق الشديدة أثناء تغيير الضمادات أو خلال جلسات إعادة التأهيل المؤلمة، إذ تعمل البيئات الافتراضية الملهية على تشتيت انتباه المريض وتقليل إحساسه بالألم بشكل ملحوظ.

كما استُخدم الواقع الافتراضي في تطوير برامج تدريبية للأفراد من ذوي اضطراب طيف التوحد، بهدف تحسين مهاراتهم الاجتماعية والتواصلية. فمن خلال بيئات افتراضية آمنة وخاضعة للتحكم، يمكن المصاب بالتوحد أن يتدرب على إجراء محادثات أو ممارسة مهارات الحياة اليومية، مما يساهم في تعزيز ثقته بنفسه وقدرته على التفاعل مع محيطه.

AFP
جنود ومدنيون يشاهدون عرضا تقديميا حول اضطراب ما بعد الصدمة

وفي مجال الذهان واضطرابات الهلاوس، يخضع الواقع الافتراضي للتجربة كوسيلة لمساعدة مرضى الفصام (الشيزوفرينيا) على التعامل مع الهلاوس السمعية والبصرية أو الأفكار البارانويدية. حيث تم تطوير برامج تتيح للمريض مواجهة شخصية افتراضية تمثل الهلاوس التي يعاني منها، ليحاورها ويتعلم كيفية السيطرة عليها تحت إشراف المعالج.

رغم الفوائد والإمكانات الكبيرة التي يقدمها الواقع الافتراضي في العلاج النفسي، إلا أن هناك عددا من التحديات والقيود التي لا يمكن تجاهلها عند التفكير في تبني هذه التقنية داخل العيادات النفسية

أما في حالات الاضطرابات الاكتئابية والقلق العام، فقد جرى اختبار بيئات افتراضية هادئة وموجهة نحو التأمل الذاتي، بهدف مساعدة المرضى على الاسترخاء والتخلص من الأفكار السلبية وإعادة صياغة نظرتهم إلى الذات والعالم من حولهم.

وهكذا، يتضح أن تقنية الواقع الافتراضي لم تكتفِ بإثبات جدواها في علاج الرهاب واضطراب ما بعد الصدمة فحسب، بل امتد تأثيرها ليشمل مجموعة واسعة من الاضطرابات النفسية والجسدية، مما يعزز مكانتها كأداة علاجية متعددة الاستخدامات وواعدة في تطوير مستقبل العلاج النفسي.

تحديات وقيود

رغم الفوائد والإمكانات الكبيرة التي يقدمها الواقع الافتراضي في العلاج النفسي، إلا أن هناك عددا من التحديات والقيود التي لا يمكن تجاهلها عند التفكير في تبني هذه التقنية داخل العيادات النفسية. من أبرز هذه التحديات الأعراض الجانبية الجسدية المعروفة باسم "دوار الفضاء الإلكتروني" حيث يعاني بعض المستخدمين من الشعور بالغثيان أو الدوار والصداع أثناء الجلسات أو بعدها. وتختلف التقديرات حول مدى انتشار هذه المشكلة، إذ تشير إحدى الدراسات إلى أن ما بين 20٪ إلى 80٪ من المشاركين عانوا من درجة معينة من الدوار أو عدم الارتياح خلال جلسات الواقع الافتراضي المطولة، وهو ما قد يشكل عائقا أمام بعض المرضى لإتمام الجلسات العلاجية.

AFP
منشورات حول اضطراب ما بعد الصدمة في حامية فورت هاميلتون العسكرية في بروكلين، نيويورك

إلى جانب ذلك، تبرز التكاليف والبنية التحتية كأحد أهم التحديات التي قد تعيق انتشار هذه التقنية على نطاق واسع. فعلى الرغم من الانخفاض الملحوظ في أسعار أجهزة الواقع الافتراضي الاستهلاكية خلال السنوات الأخيرة، إلا أن إنشاء بيئة علاجية افتراضية متكاملة لا يزال يتطلب استثمارا ماديا كبيرا. إذ لا يقتصر الأمر على توفير نظارات الواقع الافتراضي فقط، بل يشمل أيضا الحاجة إلى حواسيب أو منصات ذات قدرة عالية على تشغيل الرسوم الثلاثية الأبعاد، بالإضافة إلى تطوير أو شراء برامج علاجية مصممة خصيصا للتعامل مع الحالات النفسية المختلفة، مما يرفع تكلفة التجهيز والتشغيل.

في هذا السياق يقول الدكتور هانتر هوفمان، رائد استخدام تقنيات الواقع الافتراضي لأغراض علاجية، خاصة في تخفيف الألم وعلاج اضطرابات ما بعد الصدمة، والأستاذ بجامعة واشنطن في سياتل، في تصريح خاص لـ"المجلة" إن أحد أكبر التحديات، مسألة التمويل. فالمستشفيات بطيئة في معرفة كيفية دمج الواقع الافتراضي ضمن أنظمتها، "فعلى سبيل المثل من الذي سيتولى إحضار جهاز الواقع الافتراضي للمريض، والاعتناء به، وضمان تعقيمه، واستبداله إذا تعطل أو تمت سرقته؟".

بشكل عام، يمارس مقدمو الرعاية الصحية والعاملون في مجال الصحة النفسية ما تم تدريبهم عليه خلال دراستهم العليا، وإذا كان ذلك يؤدي الغرض، فمن الصعب إقناعهم بتغيير أساليبهم العلاجية

باربرا روثباوم أستاذة الطب النفسي ومديرة برنامج شؤون المحاربين القدامى وبرنامج التعافي من الصدمات والقلق في كلية الطب بجامعة إيموري

وبعد جائحة كورونا، أصبحت ميزانيات الكثير من المستشفيات محدودة، لذا يتم تجنب أي نفقات إضافية، حسب ما يقول هوفمان الذي يرى أنه وفي الوقت الحالي، يُنظر إلى إدخال الواقع الافتراضي كإضافة اختيارية إلى الرعاية الطبية المعتادة "لكن مع تراكم الأدلة البحثية والتجريبية التي تثبت فعاليته وتحسن أنظمة الواقع الافتراضي، سيأتي وقت يصبح فيه استخدام هذه التقنية جزءا من الرعاية القياسية، وعندها سيصبح من المحرج لأي جهة طبية ألا تعتمدها.".

كما أن هناك حاجة ملحة لتدريب وتأهيل المعالجين النفسيين على استخدام هذه التقنية بشكل فعال وآمن داخل الجلسات العلاجية. فإدخال أي تقنية جديدة إلى الممارسة السريرية، يتطلب من المعالجين إلماما تاما بأدواتها وأساليب توظيفها ودمجها ضمن خطط العلاج المناسبة لكل حالة على حدة، وهو ما قد يستغرق وقتا وجهدا إضافيين، إلى جانب الحاجة إلى تجاوز تردد بعض الممارسين واقتناعهم بجدوى إدخال الواقع الافتراضي في عملهم اليومي.

في هذا السياق تقول روثباوم: "بشكل عام، يمارس مقدمو الرعاية الصحية والعاملون في مجال الصحة النفسية ما تم تدريبهم عليه خلال دراستهم العليا، وإذا كان ذلك يؤدي الغرض، فمن الصعب إقناعهم بتغيير أساليبهم العلاجية". فكثير من الممارسين يشعرون بالتردد أمام التعامل مع هذه التقنية والتكلفة المرتبطة بها (رغم أنها أصبحت أقل تكلفة الآن)، كما أنهم لا يرون ضرورة لاستخدامها، على حد ما تقول.

ولا يمكن اعتبار الواقع الافتراضي خيارا مثاليا لجميع المرضى والحالات، إذ تختلف درجة تقبل الأفراد هذه التقنية وفقا لعوامل عدة، منها طبيعة الاضطراب النفسي وشخصية المريض ومدى ارتياحه للتعامل مع التكنولوجيا الحديثة. وبالتالي، قد يفضل بعض المرضى الأساليب التقليدية أو يجدون صعوبة في التكيف مع التجربة الافتراضية، مما يستوجب على المعالجين تقييم مدى ملاءمة هذه التقنية لكل حالة على حدة.

وأخيرا، تظل محدودية الدراسات الطويلة الأمد، من أبرز القيود التي تواجه انتشار استخدام الواقع الافتراضي في العلاج النفسي. فعلى الرغم من تزايد الأبحاث والتجارب الإكلينيكية التي تؤكد فعالية هذه التقنية في عدد من المجالات العلاجية، إلا أن المجال لا يزال في حاجة ماسة إلى مزيد من الدراسات التي ترصد التأثيرات والنتائج على المدى البعيد، لضمان استمرارية الفوائد العلاجية والتأكد من عدم وجود آثار جانبية محتملة مع الاستخدام المطول.

ويقول هوفمان إن البحث العلمي وسيلة جيدة لإدخال الواقع الافتراضي إلى المستشفيات واستخدامه في علاج المرضى. هناك حاجة إلى المزيد من الأبحاث، "فتكنولوجيا الواقع الافتراضي تتطور بسرعة. فهي بالفعل قوية، وتزداد قوتها وفعاليتها العلاجية بسرعة كبيرة. نحن نحصل بالفعل على نتائج قوية جدا في هذه المراحل المبكرة. وأعتقد أنه خلال بضع سنوات سنشهد نتائج أقوى بكثير.".

نحو مستقبل جديد للعلاج النفسي

أحدثت تقنية الواقع الافتراضي تحولا ملموسا في مشهد العلاج النفسي المعاصر، مضيفة بعدا جديدا لم يكن من الممكن تصوره قبل عقود. إذ أتاحت هذه التقنية بيئات افتراضية غامرة تمكن المعالجين والمرضى على حد سواء من استكشاف أساليب مبتكرة لمواجهة الاضطرابات النفسية والتغلب عليها. فالواقع الافتراضي يوفر بيئة علاجية آمنة وخاضعة للتحكم تتيح التعرض التدريجي لمصادر الخوف والصدمات، كما يتميز بقدرته على إثارة استجابات عاطفية حقيقية تساهم في الوصول إلى جذور المشكلة ومعالجتها بفعالية. وقد أثبتت الدراسات أن هذا الأسلوب العلاجي يضاهي، بل ويتفوق أحيانا على العلاجات التقليدية، مع ما يوفره من إمكانات لتقليل الوقت والتكلفة.

 بدأت المجتمعات العربية تُظهر انفتاحا أكبر على مفاهيم الصحة النفسية بشكل عام، وخاصة مع الأجيال الجديدة. صحيح أن هناك بعض الحواجز المتعلقة بالوصمة أو الخوف من 'الجديد'، لكن مع التثقيف الجيد ووجود قصص نجاح محلية، سيزداد القبول

يوسف الشهري مدير قسم الطب النفسي بمدينة الأمير سلطان الطبية العسكرية

ورغم هذه النجاحات، يبقى الطريق أمام توسيع استخدام الواقع الافتراضي في العلاج النفسي محفوفا بجملة من التحديات التقنية والصحية واللوجستية التي لا يمكن إغفالها. فمشكلة دوار الواقع الافتراضي ما زالت قائمة وتتطلب حلولا عملية، إلى جانب الحاجة الماسة لتوفير التدريب الكافي للمعالجين النفسيين لضمان الاستخدام الأمثل للتقنية. كما أن توفير الأجهزة والبرمجيات اللازمة بأسعار معقولة يمثل تحديا إضافيا، فضلا عن ضرورة انتقاء الحالات التي تناسبها هذه التجربة العلاجية دون التسبب بأي ضرر محتمل.

ومع أن تقنيات العلاج الحديثة باتت تحقق نجاحات لافتة عالميا، إلا أن تبنّيها في مجتمعاتنا العربية لا يزال يسير بوتيرة أبطأ. يعود ذلك إلى عوامل ثقافية واجتماعية متجذرة، من بينها النظرة التقليدية للصحة النفسية ووصمة السعي للعلاج النفسي ومع ذلك، بدأت هذه الصورة تتغير تدريجيا مع تصاعد الوعي وانتشار الخطاب الإيجابي حول أهمية الرعاية النفسية.

وفي هذا السياق، يرى الشهري أن المجتمعات العربية بدأت تُظهر انفتاحا أكبر على مفاهيم الصحة النفسية بشكل عام، وخاصة مع الأجيال الجديدة. صحيح أن هناك بعض الحواجز المتعلقة بالوصمة أو الخوف من الجديد "لكن مع التثقيف الجيد ووجود قصص نجاح محلية، سيزداد القبول تدريجيا. التكنولوجيا لم تعد غريبة عن حياتنا اليومية، واستخدامها في العلاج أصبح مسألة وقت لا أكثر".

ويضيف الشهري: "مع الدعم المؤسسي والتدريب الجيد، يمكن أن يصبح العلاج بالواقع الافتراضي جزءا أساسيا من الخدمات النفسية، خاصة في حالات مثل اضطرابات ما بعد الصدمة، الفوبيا، والقلق. المهم أن نراعي الخصوصية الثقافية، ونطور محتوى علاجيا يتناسب مع واقعنا العربي".

يمكن القول إن الواقع الافتراضي بات اليوم يشكل أداة علاجية فعالة تضاف إلى صندوق أدوات المعالج النفسي، ليس بديلا عن الأساليب التقليدية، وإنما مكمل لها، يفتح آفاقا جديدة للعلاج النفسي ويمنح المرضى فرصا إضافية للشفاء والتعافي.

وفي هذا يقول أيضا سكيب إنه ورغم الإمكانات الكبيرة للواقع الافتراضي في إحداث ثورة في علاج الحالات النفسية، هناك تحديات عملية ومالية وسريرية وتقنية يجب معالجتها قبل أن يتم اعتماده على نطاق واسع: "مع تطور التقنية وتزايد إمكان الوصول إليها وانخفاض تكلفتها وتعزيزها بالأبحاث العلمية، من المرجح أن يصبح العلاج بالواقع الافتراضي أداة شائعة لعلاج مختلف الحالات النفسية.".

font change