قبل أكثر من 60 عاما صمم المخترع الأميركي مورتون هيلينغ جهازا عجيبا يلتقي فيه الواقع بالخيال. كان ذلك الجهاز المسمى "سينسيوراما" إحدى أولى المحاولات الجريئة لاختراق حدود الإدراك البشري. لم يكن مجرد اختراع ميكانيكي، بل كان محاولة للإجابة عن سؤال يحمل في طياته الكثير من الفلسفة. فما هي طبيعة التجربة الحقيقية؟ وكيف تُصنع "الحقيقة" داخل مختبر الحواس؟
كان ذلك الجهاز أول محاولة لصناعة "واقع افتراضي". ففي ورقته البحثية المعنونة بـ"سينما المستقبل"، تصورهيليغ فنا قادرا على محاكاة نسيج الواقع نفسه، حيث يصبح المشاهد مشاركا في حدث مصنوع، معيش بحميمية تامة.
تعامل "سينسيوراما" مع الجسد كشريك في الوهم، إذ يتكون من كرسي متحرك يحاكي اهتزازات الدراجة النارية، ومروحة تطلق نسيم الشوارع، وروائح الكيميائية تعيد طباعة ذاكرة المدينة في أنف المستخدم. باستخدام ذلك الجهاز، لم تعد التكنولوجيا أداة عرض، بل أصبحت آلة لـ"تأليف الواقع".
والآن، تطورت تقنية الواقع الافتراضي وأحدثت نقلة نوعية في مجالات عدة، لا سيما في مجال العلاج النفسي، بعدما أنشأت بيئة رقمية تفاعلية ثلاثية الأبعاد تحاكي الواقع بدقة، مما يسمح للمستخدم بالانغماس الكامل داخلها.
في السياق العلاجي لتلك التقنية، يرتدي المريض خوذة مزودة شاشة ومستشعرات حركة، ليجد نفسه غارقا داخل مشاهد افتراضية يشعر كأنها حقيقية تماما. من هنا، برزت قدرة الواقع الافتراضي على محاكاة المواقف الحياتية بشكل مقنع، الأمر الذي فتح آفاقا واسعة أمام أساليب علاجية جديدة.
لشرح كيف تعمل تقنية الواقع الافتراضي وكيف جاءت فكرة استخدامها في العلاج النفسي، يقول الدكتور ألبرت سكيب ريزو، مدير مجموعة الطب الافتراضي في معهد تقنيات الإبداع بجامعة جنوب كاليفورنيا، وأستاذ الأبحاث في قسم الطب النفسي ومدرسة علم الشيخوخة بالجامعة، في تصريح خاص لـ"المجلة" إن "الواقع الافتراضي والتقنيات الرقمية المرتبطة به تتيح فرصا جديدة لتعزيز البحث السريري والتقييم والتدخل العلاجي. وقد استُلهمت هذه الرؤية في البداية من النجاح الطويل لتقنيات المحاكاة العامة في مجالات مثل تدريب الطيران والتخطيط العسكري وتصميم السيارات والمعدات والمعمار، والتدريب على الجراحة الروبوتية".
ومن هنا جاءت الفكرة بأن استراتيجيات مشابهة في تقنيات المحاكاة يمكن أن تُستخدم لتطوير أدوات افتراضية قوية وفعالة للتطبيقات السريرية، ولكن بتكلفة منخفضة تتيح تقديم تجارب الواقع الافتراضي داخل عيادات الأطباء والمستشفيات والمختبرات البحثية.
تاريخ التقنية
تعود جذور تقنية الواقع الافتراضي إلى عصر النهضة الأوروبية، حيث ساهم تطور فن المنظور في رسم المشاهد الثلاثية الأبعاد. في القرن التاسع عشر، قدم السير تشارلز ويتستون "المجسم البصري" الذي مهد الطريق لفكرة الرؤية المجسمة. إلا أن المفهوم الحديث للواقع الافتراضي ظهر أولا في أعمال الخيال العلمي قبل أن يتحول إلى حقيقة تقنية.