من اليوتوبيا الاجتماعية إلى اليوتوبيا التكنولوجية

ها هي اليوتوبيا الاجتماعية تتحقق بواسطة اليوتوبيا التقنية

من اليوتوبيا الاجتماعية إلى اليوتوبيا التكنولوجية

"اليوتوبيا" على مر التاريخ لم تكن بصيغة المفرد بل بصيغة الجمع، تحديدها في متناقضاتها وتحولاتها، بين ما هو إيجابي وما يلامس الكارثة. إنها تاريخية ولا تاريخية وخارج المرجعيات الجغرافية، ترسم عالما متخيلا أحيانا كثيرة بواسطة وسائل عقلانية، أو تنتمي إلى الحلم، أو تنفتح نوعا ما على الاقتلاع المطلق. تاريخها مؤكد لكنها غيرت مرات كثيرة طبيعتها وبدلت معانيها حتى القرن السادس عشر. ويمكن تقسيمها إلى يوتوبيا اجتماعية وأخرى تكنولوجية، ترافقا طويلا سواء إلى الوراء والماضي، أو إلى الأمام والحداثيات الجديدة، أو حتى في صيغتيهما وصراعهما.

فكل يوتوبيا لا تتحقق إلا باليوتوبيا... تجلت كثورة كبرى عبر التغيرات الاجتماعية والسياسية، من خلال الثورات العمالية والأيديولوجية وأنواع الإضرابات العمالية والحروب والانقلابات الشعبية والعسكرية ورموزها التاريخية: فمنذ أسطورة "القصر الذهبي"، أو الجمهورية الفاضلة عند أفلاطون، أو بعد اكتشاف أميركا، حيث فجرت العالم الجديد، وتهافت الناس إلى قصدها باعتبارها الجنة الجديدة، وخاضوا الأسفار لاكتشافات أخرى تؤمّن لهم "أحلامهم" وتطلعاتهم، حتى أصبحت في القرن الثامن عشر علمية وسياسية وبرز النقد الاجتماعي، وكذلك التنبؤ في يوتوبيات الماضي، من خلال العودة إلى "الآلهة" المتعددة، وحروب الإمبراطوريات القديمة، أو استشفاف المستقبل ورسم صوره عام 1400، ورافقت الأفكار الجديدة للتقدم والاقتصاد والسياسة، أو تراجعت في الإطار الاجتماعي أمام عنصر جديد متنامٍ أي التكنولوجيا العلمية، أثناء الثورات العمالية والاجتماعية في 1830 في فرنسا وتجسد هذا المنحى بالتخلي عن الأزمات السياسية للاحتفال بالتطورات التقنية والثورة الصناعية في زمن اختراع القطارات الحديد والتلغراف فصارت تقنية- علمية. وهكذا بات هؤلاء "التقنيون" أنبياء عالم جديد، في المسائل الصناعية والمالية.

باتت اليوتوبيا التقنية أيديولوجيا شمولية بمنافعها وكوارثها، باتت قدرية، باتت الغاية والوسيلة، للتفكير وتحقيق التحول الاجتماعي

فها هي اليوتوبيا الاجتماعية تتحقق بواسطة اليوتوبيا التقنية، وبرز تماثل بين التقنية والسياسة، مما أدى إلى تغير اجتماعي، سواء بالتقانة أو بالسياسة، لكن هذا التنافس تحولت وجهته، مما هو اجتماعي وسياسي إلى التقنية الصناعية، متخيلة كل فكرة تحول اجتماعي، وهذا جسد الانتقال من المجال الاجتماعي إلى المجال التكنولوجي، ويعني إمكانية خروج الناس من الهيمنة والاستغلال بواسطة نمو الخلايا التقنية التي تنتج لقاء الشرق والغرب. 
لكن اصطدم هذا الاتجاه بإعلان ثورات اجتماعية راديكالية: أولا الثورة الشيوعية في روسيا، وبعدها، الماركسية اللنينية، في مواجهة الليبرالية الأميركية، كيوتوبيتين عالميتين، ثم الثورة مع كاسترو. وبدأت التغيرات الجذرية في مثل هذه المناخات السياسية والأيديولوجية، ونرجع إلى الثورة الفرنسية التي هزت العالم، وبعدها الانقلابات العسكرية، ومن خلالها أحلام العروبة ووحدة الأمة العربية، جسدها الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وأحزاب "البعث" التي تلتقيه في هذا الاتجاه، والوحدة العربية بين مصر وسوريا، لتواجهها التيارات الوطنية ببدائل من اليوتوبيات الأممية، كأن العالم كله انفجر في خضم هذه "الاتجاهات"... التي تراجعت بعد هزيمة 1967، واحتلال إسرائيل أجزاء من سوريا والأردن ومصر...
إذا كانت هذه التحولات الاجتماعية أدت إلى انتكاسات في جسم اليوتوبيات الاجتماعية، فقد بدأت اليوتوبيا التكنولوجية منذ القرن الثامن عشر تحفر وتتقدم، على الرغم من بروز الاهتمام بالاقتصاد والسياسة، لكن في القرن التاسع عشر تغيرت طبيعة اليوتوبيات الاجتماعية، وتفجرت في القرن العشرين اليوتوبيا التكنولوجية بقوة وطغيانية، إلى درجة أنها سادت وهيمنت على كل الظواهر الإنسانية والأخلاقية والسياسية، والمواجهات الحربية وغزو الفضاء، لتتحقق المستعمرات الكواكبية المقبلة...
إن كل هذه اليوتوبيات الاجتماعية التي بدأت من القرن السادس عشر إلى التاسع عشر حلت محلها "اليوتوبيات التكنولوجية"، التي بدت من الحلول اللازبة، لمختلف الظواهر. فإذا كانت التطورات التقنية تحل محل أغراض تقنية، كأنْ نستبدل المكواة العاملة على الفحم، بمكواة كهربائية، أي أن تحل آلة محل آلة، فإنما بدأت منذ القرن العشرين تحل الآلة محل الإنسان.
وهنا تحديدا الوجه الكارثي للتكنولوجيا، التي باتت تتقدم في منحاها لتشييء الإنسانية تحديدا أو تحقيق قضاياها الاجتماعية بالتقانة، وباتت تشمل مجمل الأنواع والأشكال الاجتماعية والحربية والأدبية والشعرية والمهن اليدوية والطب والمسرح وحتى السينما والرواية والتحليل النقدي، وبات الإنسان جزءا من أشياء التكنولوجيا التي كانت تخدمه، فإذا به يخدمها، وظاهرة الروبوت هي الأبرز،  الذي حل محل، النادل في المقاهي والمطاعم، وحل محل الطبيب في العمليات الجراحية، وحل محل الشاعر... وهذا ما يجسده الذكاء الاصطناعي، فمن خلاله تسيطر التكنولوجيا على مجمل الأعمال البشرية وإنجازاتها، وباتت اليوتوبيا التقنية أيديولوجيا شمولية بمنافعها وكوارثها، باتت قدرية، باتت الغاية والوسيلة، للتفكير وتحقيق التحول الاجتماعي. وحتى الثورات في زمننا الراهن، يمكن تصنيفها بأنها يوتوبيا أيديولوجية تتمتع بالتقدم والحركة. فقوة اليوتوبيات التقنية قادرة على تجويف اليوتوبيا الاجتماعية، وتحويلها عن مساراتها الزمنية والمكانية، لكن كل يوتوبيا تحمل هزيمتها في داخلها، إذا تحولت عن أهدافها الإنسانية والاجتماعية والسياسية والفكرية والفلسفية والتقنية.

قد يفهم بأننا ضد التكنولوجيا، لكن على العكس تماما، فالماكينات غيرت وجه العالم وخدمت تطوره وإنجازاته قبل مئات السنين. لكن، أن تحل هذه الأشياء المصطنعة بديلا للإنسان، فنقول لا

في القرن العشرين وتوابعه، شهدت البشرية ثورات تحت عناوين براقة ومرنة وكبيرة، لكن معظمها انهار أمام الواقع بحقائقه الدامغة، فمن يوتوبيا الماركسية اللنينية التي بشرت بزوال الطبقات (المساواة) وزوال الدولة، لكنها باتت أقوى دولة، وتحولت طبقاتها المنشودة إلى نظام شمولي، وعندما برزت إلى العالم بيوتوبيا أخرى ديمقراطية، التحقت الثانية بالأولى والتمعت يوتوبيات قصوى، تتمثل بالحرية والمساواة بين الرجل والمرأة، والديمقراطيات الليبرالية والاجتماعية، فما وصلنا إليه نوع من الكوابيس العنصرية تتفجر في دول أخرى أوروبية وشرقية وعربية ادعت طويلا بناء قيم إنسانية وشعبية قوية فكأننا اليوم في أوروبا مفككة (بعدما أعطت العالم أرصدة من التقدم، والرقي، والتطور). وتمسكنا بقوة بهذا الكوكب الأرضي، لكن ها هو مهدد اليوم بالاحترار والأوبئة والفيضانات وانكسار تعاقب الفصول، من دون أن ننسى حروبا اندلعت بين الشعوب، كأنما هي عودة أخرى إلى الماضي البعيد، إلى يوتوبيات الإمبراطوريات السابقة وتهديد "الأقوى" بابتلاع الأضعف، كل ذلك يتم في أزمنة التكنولوجيا التي صفت كل اليوتوبيات الاجتماعية والسياسية والفكرية والاجتماعية.
كأنما الأرض انقلبت على أحلامها وخيراتها وجمالياتها وسحرها وتاريخها المليوني، وكأنما ناسها باتوا مجرد خلايا من التقنيات والمجهول، والمصائر السائبة. بل كأن الإنسان نفسه صار من لزوم ما لا يلزم في هذه الحضارات المصطنعة. بل كأن تاريخ البشرية نفسه تحول هشيما في ذاكرات الآلات والمعدن والإنترنت والذكاء الاصطناعي الذي بات أذكى ممن صنعوه، فهل يعني ذلك أننا بتنا نعيش في زمن ما بعد الإنسان؟ وهل باتت الأرض أضيق من أن تتسع له؟ فالجحيم هنا ليس كما نتصوره، بشعور العالم من حضور الإنسان نفسه! هل بتنا غرباء في هذه الأرض التي ورثناها جوهرة من جواهر الخلق، أجمل من كل الكواكب، وأروع من كل ما غزاه البشر في الفضاء؟
أرض بلا إنسان، ليست بأرض، بل هياكل تنتسب إلى "الأشياء" والعدم التكنولوجي؟ وماذا لو استقلت هذه اليوتوبيا عن صانعها الإنسان، وتمردت عليه، واستلبت منه القرار؟ فهناك ما يهدد الوجود كله المحكوم بأدوات واختراعات، هذه الآلات مجهولة المصير والتحول. وهنا نتساءل: ما مصير الإرث البشري، الاجتماعي بأنواعه الشتى؟ هل سيتبين من مواجهة هذا العالم الجديد التقني، وهل يمكن استعادة دوره؟
أتكون النهاية، أم محاولات جديدة لإعادة التوازن بين التقانة والإنسان، قد يكون ذلك الحل، لكن بشرط أن تتساوى المعادلة الذهبية بين ما هو يوتوبيا اجتماعية، وما هو واقع  تقني كاسر.
كل هذا قد يفهم بأننا ضد التكنولوجيا، لكن على العكس تماما، فالماكينات غيرت وجه العالم، وخدمت تطوره وإنجازاته قبل مئات السنين. لكن، أن تحل هذه الأشياء المصطنعة بديلا للإنسان، فنقول لا! أو تكون بديلا لـ"الخلق" نقول لا! فإما أن تبقى التقنية بوجهها الإنساني أو يكون الخراب الكبير الذي لن يوفر شيئا من هذا العالم الإنساني.

font change