الفلسطينيون بعد غزة... والتفتيش عن مستقبل للنضال الوطني

الحالة الفلسطينية متميزة، لكنها ليست فريدة

رويترز
رويترز
غزيون يؤدون صلاة عيد الفطر في مخيم جباليا شمال القطاع في 30 مارس

الفلسطينيون بعد غزة... والتفتيش عن مستقبل للنضال الوطني

حيفا- الحرب على غزة التي بدأت في أكتوبر/تشرين الأول 2023 هي حدث تأسيسي في وضع القضية الفلسطينية ومستقبلها. فمع هذه الحرب يبدو أننا أمام مفترق طرق فلسطيني كبير، أهم مركباته ضرورة تغيير استراتيجيات النضال الفلسطيني، وعينياً أقصد في ثلاث مسائل: أولا، في موضوع المرجعية أو الخلفية البنيوية التي ساهمت في إعاقة أخذ مشروع استقلالية القرار بجدية. ثانيا، في استراتيجيات العمل في مواجهة إسرائيل. وثالثا، في المطلوب مرحليا لأجل إعادة حضور جدي للفلسطينيين في ترسيم مستقبلهم.

يصل الفلسطينيون إلى بداية عام 2025 وهم في أسوأ وضع سياسي واجتماعي وثقافي ومع وجود تهديد وجودي لكياناتهم الوطنية. وخصوصا في ثلاثة تحديات. أولا، المظلة السياسية التي مثلتهم- أي "منظمة التحرير الفلسطينية"- لم تعد قائمة، ووجودها هو مجرد فكرة معنوية تجند إيجابا وسلبا حسب السياق. وثانيا، مشروع التحرير بأشكاله المختلفة– تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، أو إقامة دولة عربية أو إسلامية. وحتى بمعنى إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل لم يعد قائما عمليا. ومع سقوط هذه الخيارات سقط خياران استراتيجيان مثّلا جوهر طريقي النضال الفعلي للفلسطينيين: طريق السلام وطريق العمل العسكري. وثالثا، يتعلق بافتقادهم إلى مشروع سياسي مشترك ينظمهم ويوحد نضالهم.

أفول استراتيجيات العمل الوطني

تأسست التجربة الفلسطينية الحديثة، أي بعد إعادة بعث الحركة الوطنية الفلسطينية في النصف الثاني من القرن العشرين، على المراوحة بين خيارين استراتيجيين في التعامل مع إسرائيل. الأول خيار التحرير ولأجله استنبطت فكرة الكفاح المسلح. وفي المقابل تغيرت الاستراتيجيات النضالية مع توجه الفلسطينيين إلى القبول بحل التقسيم وإقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، ولأجل ذلك تم الترويج لاستراتيجية السلام أو المفاوضات وبأشكال ومستويات عدة.

خلال العقود الأخيرة ولأجل الوصول إلى ما عرف بأنه الأهداف الوطنية، انتقلت كفة الميزان بين إحدى هاتين الاستراتيجيتين، أو من خلال الدمج بينهما مع تفضيل واحدة على الأخرى. فالكفاح المسلح أعطي قسطا كبيرا من التنظير والشرح، وكان أحيانا يتم تسويقه كأداة مركزية لتحرير فلسطين والقضاء على إسرائيل، وهكذا ورد في سياق الميثاق الوطني الفلسطيني. وتارة تم تسويق الكفاح المسلح كطريق ضروري للوصول إلى المفاوضات وطرح الرؤية الفلسطينية مبنية على أساس القوة والتهديد العسكري.

من جهة أخرى أعطيت الأفضلية للنضال السلمي وللمفاوضات، وخصوصا بعد "أوسلو"، لكن بعض المنادين بهذه الاستراتيجية اعتمدوها كليا وانتقدوا العمل العسكري، وبعضهم اعتبروا العمل العسكري وتهديد إسرائيل، أو على الأقل زعزعة استقرار الاحتلال من خلال العمل العسكري الذي يهدف إلى دفع إسرائيل للقبول بالحل السياسي والدبلوماسية التي تفضي إلى إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل.

ما أدعيه أدناه هو ما يلي: العمل السياسي الدبلوماسي الفلسطيني وصل إلى ذروته في "أوسلو" والاتفاق على الاعتراف المتبادل، إلا أن "أوسلو" كانت مقبرة ما رنا إليه الفلسطينيون من خلال استراتيجية السلام، أي إنها ولأسباب عدة، قضت على إمكانيات حل الدولتين ودمرت فكرة نهج السلام أو طريق حل الدولتين، على الأقل كما نُظِرَ لها حتى الآن.

"الصمود" إذن هو الوسيلة الأهم في نضالات الشعب الفلسطيني، فهو يعني بقاء الشعب في بلده وأرضه وبيته وعدم فسح المجال للسيطرة عليها وتهويدها أو أسرلتها

في المقابل، فإن ذروة الكفاح المسلح الفلسطيني وصلت إلى القمة مع هجوم "حماس" على غلاف غزة (أكتوبر/تشرين الأول 2023) وطبعا وضع الاشتباك اليومي مع بدء الهجوم الإسرائيلي المضاد، إلا أن نتائج الحرب، وخصوصا مستويات التوحش والانتقام الإسرائيلي، جعلت الكفاح المسلح من خلال وضع قوة عسكرية في حالة هجوم أو اشتباك مباشر مع الجيش الإسرائيلي، تصل إلى نهايتها، مثلما كانت "أوسلو" وذروتها بداية نهاية الحل السياسي، كان هجوم أكتوبر 2023– وهو ذروة الكفاح المسلح الفلسطيني، والحرب بعدها- نهاية أفق الحل العسكري أو موضوع التحرير من خلال استراتيجية الكفاح المسلح.

الصمود الإيجابي كمشروع وطني ناظم


الحالة الفلسطينية متميزة، لكنها ليست فريدة، وتوجد عشرات، بل مئات الحالات "الوطنية" التي لم تستطع التعامل مع التحديات الداخلية والخارجية، وأفضت إلى فناء الحالة أو على الأقل هزيمتها. الحالة الفلسطينية لم تصل إلى ذلك بفضل تضحيات وصمود الفلسطينيين، والدعم العربي والعالمي، وإن كان الكثيرون يقللون حاليا من تأثير الأبعاد العربية والعالمية بسبب ما وصلنا إليه، لكننا، مثلا، لا نستطيع فهم الصمود الفلسطيني وبناء المؤسسات الوطنية حتى الانتفاضة الأولى من دون دعم مالي واحتضان سياسي من تلك الجهات.
الصمود إذن هو الوسيلة الأهم في نضالات الشعب الفلسطيني، فهو يعني بقاء الشعب في بلده وأرضه وبيته وعدم فسح المجال للسيطرة عليها وتهويدها أو أسرلتها، وهو يتم بتضحيات كبيرة من الناس، بيد أن الصمود لا يكفي لوحده إذ يتطلب ذلك وجود حركة وطنية قوية وداعمة، وتحمل مشروعا وطنيا جمعيا، على الأقل رمزيا، حتى يصبح صمودا مستمرا ومبشرا ويمكن استثماره. 

رويترز
جرافة تقتحم الحاجز الحدودي الشائك في غزة في 7 اكتوبر 2023

هكذا فإن الصمود وحده لم يكن هو محرك الوضع الفلسطيني، على الأقل في سنوات الصعود الوطني الذي تكلل في الانتفاضة الأولى. فالناس لم تكن لتصمد لولا توفر الشعور الوطني الجامع، ولولا دعم "منظمة التحرير"، الرمزي والمالي من جهة، ولولا الاعتقاد الذي ساد خلال العقدين السابع والثامن من القرن الماضي، بأن انتهاء الاحتلال وشيك، وأن الدولة في مرمى حجر، أو قاب قوسين أو أدنى. 

كلمة "الصمود" المتداولة، توصّف مقاومة الفلسطينيين اليومية غير العنيفة للاحتلال الإسرائيلي. والكلمة نفسها دخلت الخطاب السياسي كشعار وطني في ستينات القرن العشرين"

في الفترة الأخيرة يدعو البعض إلى الصمود، وخصوصا على ضوء تقييمهم الذي أتفق معه، بأنه لا يوجد حل قريب، ولا يعتقد بعض هؤلاء بضرورة وضع مشروع سياسي يجند الناس من خلفه، لكنني أعتقد أن تلك الدعوة تتطلب أيضا بحث الجهود لصياغة مشروع وطني جامع، وإعادة بناء البيت الوطني الجامع (منظمة التحرير)، إذ برأيي لا يوجد صمود لذاته، لا على مستوى البيت والوحدة الاجتماعية الصغيرة، ولا على المستوى الوطني.
بدائل العمل الوطني للقوى المركزية تمحورت حول النضال السياسي والمفاوضات و/أو الكفاح العسكري، إلا أنها كذلك اعتمدت كثيرا على "طريق ثالث" معني بتعضيد الصمود والقيام بعمليات تنموية بشرية ومادية. أهم التجارب الفلسطينية في التنمية والصمود، هي برأيي التجربة التنموية المهيبة في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد احتلال 1967، واستمرت لعقدين، وهي التفسير الأساسي للانتفاضة الأولى واستمرارها لخمس سنوات حتى "أوسلو"، وكما تجربة الفلسطينيين في إسرائيل بعد النكبة وعلى مدار سنوات طويلة تصل عمليا حتى يومنا، إلا أن ذروتها كانت في سبعينات وثمانينات القرن الماضي. 

رويترز
مقاتلون فلسطينيون على متن عربة عسكرية في شمال قطاع غزة في 7 اكتوبر 2023

بحسب الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية، فإن "كلمة (الصمود)، المتداولة، توصّف مقاومة الفلسطينيين اليومية غير العنيفة للاحتلال الإسرائيلي. والكلمة نفسها دخلت الخطاب السياسي كشعار وطني في ستينات القرن العشرين"، وبأنه "ليس للصمود تعريف ثابت، بل هو مساحة متّصلة مكونة من أهداف وممارسات مقاوِمة سعت إلى الاستجابة للمتغيّرات الناتجة من جدلية الاضطهاد والمقاومة. وتشتمل هذه المساحة على مجموعة واسعة من الممارسات والقيم الثقافية والأيديولوجية والسياسية، وقد تتجلى في أفعال ملموسة مثل: بناء وإعادة بناء منازل على الرغم من خطر الهدم، والتنقل اليومي للعمل أو للترفيه على الرغم من تكثيف الحواجز، والاستثمار في التعليم، وتأسيس مؤسساتٍ غير حكومية وتدعيمها، والاستثمار في مشاريعَ اقتصادية في فلسطين لتعزيز الاعتماد على الذات، والتأكد من وجود دور مجتمعي مسؤول للشركات، وتنظيم فعاليات ثقافية فلسطينية أو المشاركة فيها، وتنظيم حملات نضالية".

لم تقم الحركة الوطنية الفلسطينية، التي تغنت كثيرا بالصمود، بتقديم تصور واضح لمعنى الصمود. وذلك خلافا لتفصيلات مملة لمعنى "النضال السلمي والمفاوضات"، ولأنواع وأنماط وأهداف الكفاح العسكري


إذا لخصنا نقاش "الصمود" حتى الآن، فإننا نصل إلى عدة استنتاجات رئيسة:
أولا، الصمود يتشكل من عدة أشكال تتموضع على خط متواصل يبدأ من مجرد وجود الإنسان الفلسطيني على أرضه ويمتد ليصل إلى أشكال المقاومة الشعبية، التي تستثني الكفاح المسلح من جهة ولا تصل إلى محادثات سلمية ومفاوضات كطريق حياة مركزي.
ثانيا، الوجود الفلسطيني هو أساس فعل الصمود على الأرض، إلا أنه من الأهمية الانطلاق من الوجود كفعل ساكن إلى فعل شعبي واجتماعي، يبقي الناس إلا أنه ينظمهم ويفعلهم في مقاومة أهداف الاحتلال أو الدولة التي تسيطر عليهم.
ثالثا، الصمود الإيجابي أو الفاعل هو فعل وطني منظم وطنيا، لكنه يتناسب مع الحيثيات التي يعيشها الفلسطيني في أماكن مختلفة. فقد يكون مجرد التمسك بالوجود ملائما في منطقة معينة والقيام بفعل العصيان المدني الشامل أو الجزئي في مناطق أخرى، وقد يكون فعلا محليا أو قطريا ووطنيا أو حتى دوليا.
رابعا، الصمود لا يمارس لذاته، بل كاستراتيجية عمل لتحقيق المطالب أو الأهداف الوطنية، ولأجل ذلك هو فعل يتكامل مع مشروع وطني أشمل يتطلع إلى التحرر أو الاستقلال أو إقامة دولة ديمقراطية لعموم المواطنين.
جوهريا لم تقم الحركة الوطنية الفلسطينية، التي تغنت كثيرا بالصمود، بتقديم تصور واضح لمعنى الصمود. وذلك خلافا لتفصيلات تصل إلى كونها مملة في بعض الأحيان لمعنى "النضال السلمي والمفاوضات" من جهة، ولأنواع وأنماط وأهداف الكفاح العسكري، بحيث إنه من الواضح إلى ماذا رمت النخب والقيادات الفلسطينية عندما طورت أو نظّرت أو قدمت تصوراتها لهاتين الاستراتيجيتين، لكن من الصعب إيجاد جواب واضح في نشرات الحركة الوطنية أو من وجهة نظر قياداتها أو منظريها لما تعنية بفعل الصمود. وهذا ما يستدعي شرحا أو توضيحا حتى يفهم من يقوم بفعل الصمود أن ما يقوم به هو جزء من استراتيجية وطنية وليس فعلا شخصيا ولا عملا مقطوعا عما حوله على المستوى الوطني العام.

font change