حيفا- الحرب على غزة التي بدأت في أكتوبر/تشرين الأول 2023 هي حدث تأسيسي في وضع القضية الفلسطينية ومستقبلها. فمع هذه الحرب يبدو أننا أمام مفترق طرق فلسطيني كبير، أهم مركباته ضرورة تغيير استراتيجيات النضال الفلسطيني، وعينياً أقصد في ثلاث مسائل: أولا، في موضوع المرجعية أو الخلفية البنيوية التي ساهمت في إعاقة أخذ مشروع استقلالية القرار بجدية. ثانيا، في استراتيجيات العمل في مواجهة إسرائيل. وثالثا، في المطلوب مرحليا لأجل إعادة حضور جدي للفلسطينيين في ترسيم مستقبلهم.
يصل الفلسطينيون إلى بداية عام 2025 وهم في أسوأ وضع سياسي واجتماعي وثقافي ومع وجود تهديد وجودي لكياناتهم الوطنية. وخصوصا في ثلاثة تحديات. أولا، المظلة السياسية التي مثلتهم- أي "منظمة التحرير الفلسطينية"- لم تعد قائمة، ووجودها هو مجرد فكرة معنوية تجند إيجابا وسلبا حسب السياق. وثانيا، مشروع التحرير بأشكاله المختلفة– تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، أو إقامة دولة عربية أو إسلامية. وحتى بمعنى إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل لم يعد قائما عمليا. ومع سقوط هذه الخيارات سقط خياران استراتيجيان مثّلا جوهر طريقي النضال الفعلي للفلسطينيين: طريق السلام وطريق العمل العسكري. وثالثا، يتعلق بافتقادهم إلى مشروع سياسي مشترك ينظمهم ويوحد نضالهم.
أفول استراتيجيات العمل الوطني
تأسست التجربة الفلسطينية الحديثة، أي بعد إعادة بعث الحركة الوطنية الفلسطينية في النصف الثاني من القرن العشرين، على المراوحة بين خيارين استراتيجيين في التعامل مع إسرائيل. الأول خيار التحرير ولأجله استنبطت فكرة الكفاح المسلح. وفي المقابل تغيرت الاستراتيجيات النضالية مع توجه الفلسطينيين إلى القبول بحل التقسيم وإقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، ولأجل ذلك تم الترويج لاستراتيجية السلام أو المفاوضات وبأشكال ومستويات عدة.
خلال العقود الأخيرة ولأجل الوصول إلى ما عرف بأنه الأهداف الوطنية، انتقلت كفة الميزان بين إحدى هاتين الاستراتيجيتين، أو من خلال الدمج بينهما مع تفضيل واحدة على الأخرى. فالكفاح المسلح أعطي قسطا كبيرا من التنظير والشرح، وكان أحيانا يتم تسويقه كأداة مركزية لتحرير فلسطين والقضاء على إسرائيل، وهكذا ورد في سياق الميثاق الوطني الفلسطيني. وتارة تم تسويق الكفاح المسلح كطريق ضروري للوصول إلى المفاوضات وطرح الرؤية الفلسطينية مبنية على أساس القوة والتهديد العسكري.
من جهة أخرى أعطيت الأفضلية للنضال السلمي وللمفاوضات، وخصوصا بعد "أوسلو"، لكن بعض المنادين بهذه الاستراتيجية اعتمدوها كليا وانتقدوا العمل العسكري، وبعضهم اعتبروا العمل العسكري وتهديد إسرائيل، أو على الأقل زعزعة استقرار الاحتلال من خلال العمل العسكري الذي يهدف إلى دفع إسرائيل للقبول بالحل السياسي والدبلوماسية التي تفضي إلى إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل.
ما أدعيه أدناه هو ما يلي: العمل السياسي الدبلوماسي الفلسطيني وصل إلى ذروته في "أوسلو" والاتفاق على الاعتراف المتبادل، إلا أن "أوسلو" كانت مقبرة ما رنا إليه الفلسطينيون من خلال استراتيجية السلام، أي إنها ولأسباب عدة، قضت على إمكانيات حل الدولتين ودمرت فكرة نهج السلام أو طريق حل الدولتين، على الأقل كما نُظِرَ لها حتى الآن.