مواجهة كبرى في تركيا... تربك السلام مع الأكراد

رغم اعتقال امام اوغلو، حزب الشعب الجمهوري لا زال يتقدم

 رويترز
رويترز
صورة للزعيم الكردي السجين عبد الله اوجلان اثناء الاحتفالات بعيد النوروز في اسطنبول في 23 مارس

مواجهة كبرى في تركيا... تربك السلام مع الأكراد

بعد ساعات قليلة من إعلان حزب "المساواة وديمقراطية الشعوب" المؤيد لحقوق الأكراد في تركيا عن موقف سياسي "محايد" مما يجري في تركيا، بعد اعتقال رئيس بلدية مدينة إسطنبول أكرم إمام أوغلو، واندلاع مظاهرات عارمة في مختلف المدن الرئيسة من البلاد، محددا نفسه كـ"خط ثالث"، غير منحاز للرئيس رجب طيب أردوغان وحزب "العدالة والتنمية" والتحالف الحاكم، أو لحزب "الشعب الجمهوري" المعارض، بعده بساعات قليلة، ألغت الحكومة التركية زيارة وفد الحزب المقررة إلى زعيم حزب "العمال الكردستاني" عبد الله أوجلان في سجنه، ومنعت نشر أي خطاب للأخير بمناسبة "عيد النوروز".

شكل ذلك دلالة قوية على التأثر المتبادل بين الثنائيتين الرئيستين الراهنتين في البلاد: المظاهرات الكبرى بعد اعتقال رئيس بلدية إسطنبول، كصورة "للمواجهة السياسية الصفرية" الكلية في تركيا، بين السلطة ممثلة بالرئيس أردوغان وحزب "العدالة والتنمية" الحاكم والتحالف الحاكم من طرف، وحزب "الشعب الجمهوري" المعارض من طرف آخر. و"عملية السلام بين الحكومة وحزب (العمال الكردستاني)" والتي توجت خلال الأسابيع الماضية بالنداء التاريخي لزعيم "الكردستاني" عبد الله أوجلان، والذي دعا فيه مقاتليه لنزع السلاح وتفكيك الحزب.

حسابات أردوغان

في حديث مطول مع "المجلة"، شرح الباحث التركي حلمي أصلان ما يسميها "القواسم المشتركة" بين المسارين السياسيين الرئيسين الراهنين في تركيا، محددا "طموح السلطة الأبدية" الذي يعتري أردوغان كمصدر أولي وتأسيسي لتلك العلاقة، وتاليا تلازمهما الحتمي، طردا أو عكسا على حد سواء.

يتابع أصلان حديثه مع "المجلة" قائلا: "منذ أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، حين أعلن زعيم حزب "الحركة القومية التركية" (دولت بهجلي) عن مبادرته لإحلال السلام بين الحكومة التركية وحزب "العمال الكردستاني"، أكدت كل التحليلات أن سلوكه السياسي نبع من حسابات خاصة "بـالدولة العميقة" في البلاد- التي يعتبر بهجلي نفسه وحزبه أمينين عليها- تبعا لما تعتبره تلك النواة التحولات الإقليمية التي قد تهز استقرار تركيا وتؤثر على مستقبلها. حيث لم يكن أردوغان موافقا في البداية على ذلك المسار، وإن كان مطلعا عليه، بدلالة التصريحات المتباينة بين الطرفين في الأيام الأولى للطرح، وتوضيحات بهجلي الدائمة بأن أمرا بهذا العمق والحساسية هو وظيفة الدولة وواجبها، وليس السلطة أو الحكومة. في مرحلة متقدمة، اقتنع أردوغان بأن المسار الذي حدده بهجلي حتمي الحدوث، لكنه طالب قبالة ذلك بتعويض استثنائي، هو تغيير الدستور والنظام السياسي في البلاد، لفتح المجال أمام إمكانية استمرار أردوغان في موقع الرئاسة لمرات قادمة أخرى، وأن يكون قبول الأكراد بهذا الأمر شرطا للاستمرار في عملية السلام معهم".

جاءت الأحداث الأخيرة كمؤثر واضح على التوازن التقليدي بين ما يمكن تسميته أجنحة الفعل السياسي الكردي داخل تركيا

يصف أصلان الأحداث الراهنة كتطبيق عملي وتفصيلي لما أقر كنهج أعلى لسياسة "تحالف الأمة" الحاكم لتركيا، مضيفا: "لكن، وأيا كانت الأدوات المتوفرة للتحالف الحاكم، بما في ذلك الأغلبية البرلمانية والقضاء وإمكانية تغيير الدستور، لكن ذلك لا يلغي حقيقة أن حزب (الشعب الجمهوري) يتقدم شعبيا بشكل متواصل، وكل استطلاعات الرأي تقول إن مرشح (الشعب الجمهوري) سيتفوق على الرئيس أردوغان في أية انتخابات رئاسية قادمة، خصوصا لو كان هذا المرشح شخصية شبابية وشديدة الشعبية مثل رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو. تبعا لذلك، فإن إخراج إمام أوغلو من المسار السياسي، وتشويه سمعة حزب (الشعب الجمهوري)، تحديدا عبر خلق أكثر من جناح ومركز قوة داخله، وطبعا وضعه ضمن المراقبة والهيمنة القضائية، عبر تلفيق قضايا داخلية له، سيكون الحل/الرد الناجز لذلك التفوق الشعبي. يعتقد أردوغان أن حزب (المساواة وديمقراطية الشعوب) يجب أن يكون إلى جانبه خلال هذا المسار، كشرط أولي ودائم لاستمرار عملية السلام مع (العمال الكردستاني)". 

توازنات كردية 


جاءت الأحداث الأخيرة كمؤثر واضح على التوازن التقليدي بين ما يمكن تسميته أجنحة الفعل السياسي الكردي داخل تركيا؛ التي وإن كانت جميعها مستندة ومرتبطة بالقضية السياسية ذاتها، فإن "مصالحها" وتقديراتها وآلية عملها مختلفة تماما، وأحيانا تصل درجة "التضارب" غير المعلن. 
التيارات الرئيسة الثلاثة ضمن الفاعلية السياسية الكردية في تركيا تتمثل في شخص زعيم حزب "العمال الكردستاني" عبد الله أوجلان، كمرشد وقائد أعلى، وحزب "المساواة وديمقراطية الشعوب"، كجناح سياسي وفاعل برلماني وتنظيم شعبي، وقادة ومقاتلي حزب "العمال الكردستاني"، المقدرين بقرابة عشرة آلاف مسلح، والمسيطرين على سلسلة الجبال الوعرة بين تركيا والعراق، وعدد من المناطق الجبلية الوعرة داخل تركيا نفسها.  
 

أ ف ب
متظاهرون يرفعون صورة لرئيس بلدية اسطنبول الموقوف حاليا اكرم امام اوغلو في ضواحي اسطنبول في 29 مارس

خلال الأسابيع الماضية، استقرت المعادلة الداخلية فيما بينهم كالتالي: الزعيم التقليدي لحزب "العمال الكردستاني" وجّه نداء واضحا لمقاتلي "العمال الكردستاني"، طالبهم بوضع السلاح جانبا وحل الحزب، دون أن يذكر أي تفصيل عن مستقبل المسألة الكردية أو مصير المقاتلين الميدانيين هؤلاء، أو حتى التسوية البرلمانية المتوقعة، فيما لو حصل ذلك. كان نداء أوجلان مستعجلا، كما عبر هو بنفسه، قائلا لعدد من زواره: "سمعت نداء بهجلي من التلفاز". لكن أوجلان أغلب الظن فضل فتح هوة ما في جدار الاستكانة و"النكران" التي تطال المسألة الكردية في تركيا طوال عقد كامل مضى، منذ أن أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إنهاء "عملية الحل" التي كانت بينه وبين "العمال الكردستاني" خلال الأعوام 2013-2015، مرجحا التحالف مع الحركة القومية التركية "المتطرفة". فمبادرة بهجلي أعادت حيوية ما للمسألة الكردية، واعترافا متجددا بنفوذ أوجلان الاستثنائي ودوره. فأوجلان أراد إطلاق ندائه، وإن من دون مفاوضات مطولة وتفصيلية مع القادة العسكريين لحزبه، مفضلا ترك الأمر لهم وللضغوط الدولية والإقليمية، التي لم يكن مطلعا عليها.  
حزب "المساواة وديمقراطية الشعوب" كان أكثر المتشجعين والدافعين نحو السير في ركب هذه العملية، تحديدا أجنحته الآتية من التراث والتنظيمات السياسية اليسارية التركية "الوطنية". فالحيوية والزخم الذي أظهره قادة الحزب خلال الأسابيع الماضية، متنقلين بين سجن أميرلي وجبال قنديل والقصر الرئاسي في أنقرة، أظهرته كجهة صاحبة مصلحة خاصة في ما يجري، كتنظيم سياسي يريد الإمساك بعصب المسألة الأهم في البلاد، وأخذ موقع القادر على تفكيك الألغاز والرسائل المتبادلة بين "المتصارعين" في هذا الملف. 
بين الطرفين، كان قادة ومقاتلو "العمال الكردستاني" يجدون أنفسهم مصدومين تماما بما يجري. فزعيمهم الذي "لا ترد كلمته" يريد منهم حل وتفكيك كل شيء، في وقتٍ لم تتمكن أوسع عملية عسكرية برية تركية من التقدم نحوهم منذ أربع سنوات، وفي أقسى الظروف. فعل ذلك دون أية ضمانات سياسية أو لوجستية لمستقبلهم ودورهم وشكل المسألة التي ناضلوا في سبيلها لقرابة نصف قرن كامل. لأجل ذلك، كان القادة الميدانيون للحزب- وعلى رأسهم: مراد قره يلان، وجميل باييك- يطرحون خطابات متناقضة داخليا، بين قبول بنداء أوجلان، لكن التعبير عن استحالة تنفيذ ذلك موضوعيا، متحججين برفض المقاتلين أو صعوبة حدوث ذلك دون حضور أوجلان نفسه، وأشياء من مثل تلك، كانت في المحصلة تعبر عما بداخلهم من ارتباك. 
مبدئيا، أطاحت المجريات الأخيرة بكل ذلك. فحزب "الشعوب الديمقراطية" لم يظهر التزاما حازما بما كان يعتبر تحالفا سياسيا موضوعيا متجددا، وإن كان غير معلن، بينه وبين التحالف الحاكم، بغية إنجاح عملية السلام الجديدة. فموقفه شبه المحايد من الصراع بين السلطة والمعارضة، أظهره كجهة تريد انتظار ما سوف تسفر عنه المواجهة الراهنة، والاستعداد للاندفاع إلى الضفة الغالبة في حال ظهور ذلك جليا. 

الحسم


قادة "العمال الكردستاني" يجدون في ما يحدث مناسبة استثنائية لـ"أخذ نفس طويل"، بعدما صارت الأضواء بعيدة عنهم نسبيا، منشغلة بما يجري في المدن الرئيسة من البلاد. فتضعضع الحياة السياسية الداخلية قد يسمح للحزب بالمزيد من المساومات السياسية السابقة على عملية وضع السلاح وحل الحزب. كذلك سيقلل من ضغوط الزعيم أوجلان وحزب "المساواة وديمقراطية الشعوب" عليهم. أوجلان نفسه قد يعتبر ما يحدث فرصة لمزيد من استكشاف الملعب الإقليمي، بغية ترتيب الحسابات والمطالبات الذاتية.

صارت المحكمة التركية تظهر رئيس بلدية إسطنبول المعتقل أكرم إمام أوغلو كـ"متعاون" مع حزب "العمال الكردستاني"، وتاليا محاكمته كشخص "إرهابي"

لا تبدو النواة الصلبة ضمن السلطة التركية قابلة بمنح الفاعلين الأكراد مثل هذه الفرصة الاستثنائية، وذلك عبر إجراءات توحي بأن ما فتح من هوة سياسية هو بمثابة فرصة استثنائية وحيدة وناجزة، لا يمكن استخدامها ضمن اللعبة السياسية الكلية، فإما القبول والسير بها في مسار وحيد الاتجاه، وإما رفضها، وتاليا مواجهة العواقب. لكن دوما دون استخدامها كورقة للمساومة واللعب السياسي.

 أ ف ب
لافتة رسمت عليها صورة لأكرم إمام اوغلو اثناء مظاهرة في اسطنبول دعا اليها حزب الشعب الجمهوري المعارض في 29 مارس

ضمن ذلك السياق، سارع زعيم حزب "الحركة القومية التركية" دولت بهجلي إلى تحديد الرابع من شهر مايو/أيار المقبل كموعد لعقد حزب "العمال الكردستاني" مؤتمره التاريخي، الذي سيعلن فيه وضع السلاح وحل نفسه، محددا مدينة موش "الكردية" داخل تركيا كمكان لعقد ذلك المؤتمر، مع منح ضمانات للقادمين. ولم يصدر عن حزب "العمال الكردستاني" رد فعل واضح بالنسبة لذلك، وإن أعلن أن حضور أوجلان لهذا المؤتمر ضروري لاتخاذ مواقف وقرارات مصيرية مثل هذا. 
غير بعيد عن ذلك، صارت المحكمة التركية تظهر رئيس بلدية إسطنبول المعتقل أكرم إمام أوغلو كـ"متعاون" مع حزب "العمال الكردستاني"، وتاليا محاكمته كشخص "إرهابي"، وبذا الاستعداد للإطاحة بعملية التفاوض الحالية تماما بسبب ذلك. وليس مجرد "فاسد" إداري، قضيته مفصولة عن المسألة السياسية الرئيسة في البلاد.
فالوثائق والمعلومات التي يسربها القضاء التركي "المسيطر عليه من قِبل السلطة"، تقول إن التهمة الرئيسة لإمام أوغلو هي "مساعدة منظمة (PKK/KCK) الإرهابية". فالادعاء العام التركي يستند إلى ما يعتبره تعاونا ماليا/سياسيا بين رئيس البلدية المعتقل ومالك شركة "Spectrum House" المملوكة للرئيس المشترك الأسبق لحزب "المساواة وديمقراطية الشعوب" ورجل الأعمال الكردي آزاد باريش. وحسب رواية الادعاء العام التركي، فإن الطرفين "اتفقا عبر وثيقة (تحالف المدن) بينهما على ثنائية تأييد باريش لإمام أوغلو في الانتخابات البلدية الأخيرة، عبر دعوة الناخبين الأكراد في مدينة إسطنبول للتصويت له، مقابل الحصول على مبلغ 100 مليون دولار، وأصوات حزب (الشعب الجمهوري) في بعض مناطق تركيا لصالح حزب (المساواة)". 
يشكل ذلك ورقة ضغط على الحزب الكردي نفسه، وربط مصيره بمصير حزب "الشعب الجمهوري"، وتاليا مطالبته بفصل سياسي وشعبي تام لنفسه عن "الشعب الجمهوري" في هذه المواجهة، لو أراد الاستمرار في عملية السلام، أو الإطاحة بكل العملية الحالية، وتاليا العودة إلى ما كانت عليه الأمور قبل ستة أشهر، من مواجهة كبرى ومفتوحة. 

font change