الكاتب البيلاروسي ألهيرد باشاريفيتش لـ"المجلة": لا وجود للإمبراطوريات الديمقراطية

كل كاتب يكتب تاريخ العالم الذي يعيش فيه

ألهيرد باشاريفيتش بعدسة جوليا سيمافيافا

الكاتب البيلاروسي ألهيرد باشاريفيتش لـ"المجلة": لا وجود للإمبراطوريات الديمقراطية

يعتبر الروائي والمترجم ألهيرد باشاريفيتش أحد أبرز الأصوات المعاصرة في الأدب البيلاروسي. ولد عام 1975 في مينسك، وصنع لنفسه مكانة مميزة بفضل سردياته الجريئة وتجربته اللغوية، وتعليقاته الاجتماعية والسياسية اللاذعة.

غالبا ما تستكشف أعماله تعقيدات الهوية والتاريخ، والنضال من أجل الحفاظ على الثقافة في مواجهة القمع السياسي. تمزج رواياته بين التأمل التاريخي والقلق الوجودي المعاصر، وغالبا ما يستخدم أسلوبا ما بعد حداثي. اشتهر خصوصا بروايته "كلاب أوروبا"، التي مُنعت في بيلاروسيا، وتلقت إشادة دولية لطموحها الأدبي وطابعها السياسي. هنا حوار لـ"المجلة" معه.

  • قدمت في كتاب "تسعيناتي"، سردا شخصيا عميقا لتجاربك خلال فترة تحول في بيلاروسيا. ما الذي دفعك الى كتابة هذا الكتاب، وكيف تعتقد أن التسعينات شكلت هويتك الشخصية وأسلوبك الأدبي؟

كتبت "تسعيناتي" عام 2017. لطالما بدا لي أن التسعينات هي ثقب أسود في تاريخ بيلاروسيا. يعرف الشباب ما حدث في البلاد خلال الحرب العالمية الثانية أو في العصور الوسطى أكثر مما يعرفونه عن أحداث أواخر القرن العشرين. في غضون ذلك، حددت أحداث تلك الفترة تاريخ بيلاروسيا في العقود الأخيرة. في أوائل التسعينات، أصبحت بيلاروسيا دولة مستقلة. أصبحت اللغة البيلاروسية لغة الدولة الوحيدة. تعلمنا جميعا الديمقراطية، وتعلمنا أن نكون أوروبيين. أخذت الثقافة تتطور بسرعة. ثم تولى لوكاشينكو السلطة. بدأت الديكتاتورية، والتقارب مع موسكو، والقمع. انفتحت المواجهة بين البيلاروسيين الأحرار والمفكرين والدولة الاستبدادية. ولا تزال هذه المواجهة مستمرة إلى يومنا هذا. شهدت التسعينات أحداثا كبرى، ما زلنا نشعر بتأثيرها، وكل هذا في عشر سنوات فقط.

السلطات في بيلاروسيا تصور التسعينات عمدا على أنها نقطة رمادية، فترة صعبة وبائسة، ولكن كل شيء كان على العكس تماما

بالطبع، كانت تلك الفترة بالنسبة إليّ تجربة شخصية أيضا. تجربة الحرية، تجربة تحديد الهوية. كنت شاعرا شابا، أسست فرقة "روك"، ونشرت أولى قصائدي ونصوصي في المجلات. كنت أتحدث البيلاروسية في جوهرها، مغرما، وكان لدي أوهام كثيرة. كنت مؤمنا بمستقبل بلدي الأوروبي، بموهبتي، بالحرية كأسمى قيمة. كانت فترة فقر، ولكنها كانت أيضا فترة الحرية العظيمة والآمال العريضة. أعتقد أن السلطات في بيلاروسيا تصور التسعينات عمدا على أنها نقطة رمادية، فترة صعبة وبائسة، ولكن كل شيء كان على العكس تماما. في تلك الفترة، تمتعت بيلاروسيا بالحرية والفرح والأمل أكثر بكثير مما هي عليه اليوم.

Maxim Shemetov/Reuters
امرأة تمرّ أمام لوحة دعائية تروّج للقوات المسلحة وأجهزة الأمن في بيلاروسيا

"كلاب أوروبا"

  •  غالبا ما توصف روايتك "كلاب أوروبا" بأنها تحفة فنية. كيف تعاملت مع نسج قصة معقدة كهذه، تمتد عبر أنواع ومواضيع متعددة؟

"كلاب أوروبا" رواية عن قوة اللغة ولغة القوة. كتبتها عام 2016. تتناول كيفية نشوء اليوتوبيا ووظائفها. يوتوبيا لغوية وسياسية وتاريخية وأدبية. إنها رواية عن بيلاروسيا كجزيرة أوروبية، وأوروبا كحلم بيلاروسي. محاولة للنبوءة، محاولة لتجاوز كل الحدود. الكثير مما كتبته في هذه الرواية، تحقق بالفعل، أو يتحقق بسرعة مقلقة.  في الواقع، "كلاب أوروبا" هي ست روايات في كتاب واحد. لكنها جميعا مرتبطة بخيوط غريبة جدا. "كلاب أوروبا" عالم كامل من تأليفي. يعيش دون مشاركتي، كأي رواية حقيقية.

  •  العناصر الديستوبية في هذه الرواية لافتة للنظر. ما الذي ألهمك رؤية أوروبا المجزأة، وكيف ترى أنها تلقى صدى لدى القراء المعاصرين؟

أعتقد أننا، نحن سكان أوروبا الشرقية، نخوض تجربة فريدة في العيش عند مفترق طرق. نعيش في ظل وحش  الإمبراطورية الروسية، ونحلم بالعودة إلى أوروبا، ونعرف كيف ننجو، ونعرف كيف نميز علامات الخطر. نجبر دائما على النضال من أجل حريتنا، من أجل أن لا يلتهمنا الوحش. وبصفتي كاتبا من أوروبا الشرقية، فقد فهمت هذه التجربة فهما عميقا، وجسدتها في أعمالي. حتى في التسعينات، كان واضحا لي الخطر الذي تشكله روسيا. قبل عشرين عاما، كان جليا أن ذلك الخطر يلوح في الأفق في روسيا نفسها. لكن في الغرب، لم يكن أحد يرغب في سماع أي شيء. حتى وقت قريب، لم يكن الغرب يدرك أنه لا وجود للإمبراطوريات الديمقراطية. الآن، بدأ شيء ما يتغير. ولكن، كما هو الحال دائما، فات الأوان.

رواية: "كلاب أوروبا"

اللغة والهوية

  •  تلعب اللغة دورا محوريا في روايتك "أطفال ألينداركا"، كيف أثرت تجاربك الشخصية مع اللغة والهوية في كتابتها؟

ولدت عام 1975 في مينسك، بيلاروسيا، التي كانت آنذاك أكثر جمهوريات الاتحاد السوفياتي تأثرا بالروسية. كان والداي بيلاروسيين عاديين، وكانا يتحدثان الروسية في عائلتي. على سبيل المثل، كانت جدتي تتحدث لغة أقرب إلى البيلاروسية. في أواخر الثمانينات، شهدت بيلاروسيا نهضة وطنية واسعة، وكانت الإمبراطورية السوفياتية على وشك الانهيار. حينها اكتشفت أن لي وطني الخاص، ولغتي الخاصة، وتاريخي الخاص، وثقافتي الخاصة. منذ ذلك الحين، وتحديدا منذ عام 1992، أتحدث وأكتب وأفكر وأرى أحلامي وكوابيسي بالبيلاروسية. إنها لغتي الأم. أتذكر جيدا الوقت الذي كان ينظر فيه إلى من يتحدث البيلاروسية في مينسك إما بوصفهم مجانين أو قوميين.

نعيش في ظل وحش الإمبراطورية الروسية، ونحلم بالعودة إلى أوروبا، ونعرف كيف ننجو، ونعرف كيف نميز علامات الخطر

لكننا كنا نتحدث لغتنا فقط، في بلدنا اليوم، تتحدث زوجتي وأخي وجميع أصدقائي ومعارفي وزملائي البيلاروسية. إنها اليوم اللغة التي يتذكرها البيلاروسيون ويتعلمونها، والتي يقرأون ويكتبون بها، لكن الأمر لم يكن كذلك دائما. ولطالما شغلني السؤال: هل البالغون الذين يربون أطفالهم باللغة البيلاروسية في بلد روسي هم من يتصرفون على النحو الصحيح؟ وماذا يحدث لهؤلاء الأطفال؟ إذا كانت لغتك تعتبر مرضا، والعالم أجمع يوافق على ذلك، ألا يعني هذا أن الإمبراطورية تجري على ذاكرتنا نوعا من الاستئصال الجزئي؟

  •  العلاقة بين الأشقاء في "أطفال ألينداركا" مؤثرة للغاية. ما الرسالة التي كنت تأمل في إيصالها عن العائلة والصمود؟

الأطفال بشر، وليسوا جنسا غريبا. وهم أسرى اللغة، تماما مثل البالغين. عندما يبدأ الطفل بالكلام، يدخل فورا عالم اللغة بقوانينها وتسلسلاتها الهرمية القاسية. لا مفر من اللغة، ولا فترة تحضير. نغرق في اللغة ونبني مدننا وحضاراتنا في أعماقها. اللغة أقوى من الإنسان. يعهد والد الشخصية الرئيسة في روايتي لابنته بمهمة عظيمة، ألا وهي الحفاظ على اللغة المهددة بالانقراض، ونقلها إلى الأجيال القادمة. هذه هي أقصى درجات الاغتراب. لا تجيب روايتي عن سؤال: هل لهذا الاغتراب معنى أسمى؟ أريد من القارئ أن يجد إجابته بنفسه.

جوليا سيمافيافا بعدسة ألهيرد باشاريفيتش

المرأة والسلطة

  •  مزجت في رواية "الذبابة البيضاء، قاتل الرجال" بشكل فريد بين الغموض والتعليق الاجتماعي. ما التحديات التي واجهتها في الموازنة بين هذين العنصرين؟

عليّ أن أشكر زوجتي جوليا سيمافيافا، وهي كاتبة أيضا، على كتابة هذه الرواية. لقد عرفتني الى الأفكار النسوية وفتحت عيني على التمييز والعنف الذي تواجهه المرأة. كتبت هذه الرواية قبل عشر سنوات. كثيرا ما أقول إنه لا وجود للإمبراطوريات الديمقراطية. وبالقدر نفسه، من المستحيل أيضا وجود دولة ديمقراطية حرة تهان فيها المرأة. بيلاروسيا بلد يحكمه رجال بلا موهبة وبلا خبرة، يخشون الأنوثة، ويخشون النساء. لكن غالبا ما يفكر أولئك الذين يحلمون ببيلاروسيا جديدة مستقلة وحرة في الأمر نفسه. هذه رواية سياسية ألعب فيها بالأساطير الوطنية والأحكام المسبقة.

  •  رحلة البطل حقيقية ومجازية في آن واحد. كيف ترى أن قصته تعكس قضايا مجتمعية أوسع؟

هذه قصة يرويها رجل. قصة رجل عن النساء. أعتقد أن الرجل لن يفهم أبدا معنى أن تكون امرأة. لكنه يستطيع المحاولة، ويستطيع تحقيق المساواة، على الأقل في نفسه. بشكل عام، أعتقد أنني كنت مهتما بمدى قدرة المرأة على العنف، والتمرد على السلطات، والمواجهة المفتوحة. وكنت مهتما برؤية كيف خرجت آلاف النساء عام 2020، خلال ثورتنا، للاحتجاج ضد الديكتاتورية. كان احتجاجا نسائيا سلميا، لكنه كان قويا. السؤال هو: هل كان سيكون أكثر فعالية لو استخدم المتظاهرون العنف، الطريقة الذكورية التقليدية لحل المشكلات؟ لا أعرف الإجابة.

أشكال الاختفاء

  •  يعتبر موضوع الاختفاء محورا أساسيا في "قصة اختفاء واحد". ما الذي دفعك الى الكتابة عن هذا المعنى، وما علاقته بتاريخ بيلاروسيا وثقافتها؟

اختفاء اللغة الأم، واختفاء القرى التي أصبحت جزءا من مدينة كبيرة كجزء من عملية التمدن، واختفاء الأشخاص الذين اختطفتهم الشرطة السرية، والاختفاء المحتمل لبلد بأكمله من خريطة أوروبا، واختفاء التاريخ الذي حلت محله الأساطير  الوطنية والدعائية، اختفاء الهوية نتيجة الهجرة، كل هذا ليس موضوعا بيلاروسيا فحسب، بل هو سمة من سمات العديد من الثقافات الأخرى. لكنني أعتقد أنه في بيلاروسيا غالبا مما يؤدي الاختفاء إلى الفراغ، لأن الدولة هناك تحاول تدمير الذاكرة.

إذا كانت لغتك تعتبر مرضا، والعالم أجمع يوافق على ذلك، ألا يعني هذا أن الإمبراطورية تجري على ذاكرتنا نوعا من الاستئصال الجزئي؟

الاختفاء عملية طبيعية من نواح عديدة، ولكن يجب ملء الفراغ بالذكريات والفهم. يجب أن يحل شيء جديد محل ما اختفى. لكن الدولة والمجتمع يخشيان هذا ويختاران فقط فراغا لامعا لا معنى له. في هذا الكتاب، أكتب عن البيئة التي نشأت فيها. عن غيتو صناعي على مشارف مدينة كبيرة، حيث كانت هناك قرية، والآن بنيت منازل ضخمة متطابقة المعايير. هذه بيئة تسعى إلى نسيان أصولها الريفية، ولكنها لم تتحول قط إلى مدينة. من هم الناس الذين يعيشون في هذا الفراغ؟

  •  كيف تتعامل مع عملية مزج العناصر التاريخية بالرواية؟ هل تعتبر الأدب وسيلة لإعادة كتابة التاريخ أم استعادة سرديات مفقودة؟

الأدب، قبل كل شيء، صوت. لنجده، في صباح باكر، نخرج إلى شارع تكسوه الثلوج، ودون أن ننطق بكلمة، ننطلق في رحلتنا. أما البقية - القصص والذكريات والأسماء - فليست بتلك الأهمية. أنا لا أكتب روايات تاريخية لأن كل كاتب يكتب تاريخ العالم الذي يعيش فيه. هذا أحد أسباب كتابتنا. نأمل فقط أن يعرف الناس يوما ما، بعد وفاتنا، أننا عشنا، وأحببنا وكرهنا وقاتلنا وأخطأنا وعانينا وحلمنا وأننا كنا نتألم، تماما مثل هؤلاء القراء الذين لم يولدوا بعد. أن تكون إنسانا أمر مؤلم،  هذا ما يقوله الأدب.

رواية "أطفال ألموداركا"

تجربة المنفى

  •  يعمل العديد من الكتاب البيلاروسيين في المنفى. كيف أثرت الحياة في الخارج في أسلوبك ككاتب؟

في نهاية عام 2020، غادرت وزوجتي بيلاروسيا ولم نعد إليها أبدا. عشنا في النمسا وسويسرا، ثم في هامبورغ، والآن نعيش في برلين التي أحبها كثيرا. غالبا ما أقارن الكاتب في المنفى بالطفل. على الكاتب في المنفى أن يتعلم من جديد كيف يتحدث ويكتب ويعيش ويتعلم التواصل مع العالم. لكننا لسنا أطفالا، نحن بالغون. في بعض الأحيان يكون الأمر مهينا عندما تعامَل كطفل. لكن الهجرة هي طفولة قسرية. فيها، يمكنك أن تصبح بالغا مرة أخرى. كتابي المفضلون هم جويس ونابوكوف وكافكا وغومبروفيتش. لقد أعدّتني حياتهم وتجاربهم وسيرهم الذاتية لمنفاي. علموني أن أشعر دائما بالغربة، حتى في وطني في بيلاروسيا. الكاتب دائما غريب. ومن ناحية أخرى، نعيش كقراء للأدب العالمي، في النصوص التي نعرفها ونقرأها. وهذا يساعد كثيرا. وطن الكاتب هو لغته. لغتي معي أينما كنت. أنا وزوجتي جوليا منفتحان على ثقافات ولغات جديدة، لسنا معزولين، على عكس كثير من المهاجرين. في منفانا نتعلم عن العالم.

في غالبية الأحيان، لا علاقة للجوائز بالأدب إطلاقا. أحاول ألا أفكر فيها. أفكر في الموت والحب، وفي معنى أن تكون إنسانا في هذا الظلام

حصلت أخيرا على جائزة لايبزيغ المرموقة للكتاب عن روايتي "كلاب أوروبا". هذا يعني أن هناك من يقرأون كتبي. أستطيع مواصلة الكتابة. لا أكتب لفئة محدودة من المهاجرين، ولست حبيسا لفئة أدب المهاجرين. وهنا لا بد لي من شكر مترجمي إلى الألمانية، توماس ويلر. لقد أتاح لي عمله على ترجمة روايتي الضخمة، فرصة أن أُظهر للقراء في البلدان الناطقة بالألمانية أن الأدب البيلاروسي يمكن أن يكون شيقا ومعقدا، وأننا لا نبكي ونشتكي فحسب، بل نفكر ونبدع أيضا.

  •  في عام 2019، رفضتَ المشاركة في جائزة جيرزي جيدرويك، معللا ذلك بمبادئك الفنية وآرائك حول المسابقات الأدبية. هل يمكنكَ توضيح قرارك ورؤيتك لدور الجوائز الأدبية في الأدب المعاصر؟

الأدب ليس مسابقة جمال أو حدثا رياضيا، أعتقد أن الجوائز الأدبية تعني حقا شيئا يمكن الأدب أن يتطور فيه في ظروف طبيعية. في ظل الوضع الراهن للأدب البيلاروسي، تعني الجوائز شيئا مختلفا تماما عما يعلنه مؤسسوها. في غالبية الأحيان، لا علاقة للجوائز بالأدب إطلاقا. أحاول ألا أفكر فيها. أفكر في الموت والحب، وفي معنى أن تكون إنسانا في هذا الظلام.

font change