في مثل هذا اليوم سنة 1949، دخلت مجموعة عسكرية منزل رئيس الجمهورية السورية المنتخب دستوريا شكري القوتلي في حي بستان الرئيس، يتقدمها الضابط قائد الشرطة العسكرية إبراهيم الحسيني. بعد تحية الرئيس أبلغوه قرار الاعتقال الصادر بحقه من قبل قيادة الجيش والقوات المسلحة. لم يعارضهم القوتلي، ودخل غرفته لتغيير ملابسه، فجاءت زوجته للمساعدة دون معرفة من أعطى الأمر باعتقال زوجها، الذي كان يعرف بين السوريين بأبي الجلاء، لأن جلاء المستعمر الفرنسي جرى في عهده قبل ثلاث سنوات. سألته همسا: "هل هم الإسرائيليون، أم جماعة ملك الأردن عبد الله بن الحسين، الطامع بعرش سوريا؟". خطر في بالها أن مهندس الانقلاب كان إسرائيليا أو أردنيا، ولم يخطر في بالها أن يكون مواطنا سورياً كان الرئيس القوتلي قد أحسن إليه ورعاه، وهو رئيس أركان الجيش حسني الزعيم، إنه نفسه حسني الزعيم الذي كان يقول: "إذا كان في سوريا رجل يجب علينا تقبيل رأسه قبل يديه، فهو شكري القوتلي".
انتشرت الدبابات والمصفحات في شوارع العاصمة السورية في ليلة 29 مارس/آذار، وصباح 30 مارس 1949، وعلى أبراجها المفتوحة كان يطل الجنود وعلى رأسهم الخوذ الحديدية. الدمشقيون لم يكونوا يعرفون هذه المظاهر العسكرية، ولا حتى الجنود أنفسهم كانوا يعرفونها، قبل أن يدمنوها. شوهد مواطن يقترب من إحدى الدبابات على مدخل البرلمان ويسأل: "أخي... شو في البلد؟ شو صاير؟"، فأجابه الجندي: "انقلاب"! فسأل المواطن ببراءة: "أيوه... شو يعني انقلاب؟".
أما رئيس المجلس النيابي، العلامة فارس الخوري، فقد تمارض وجلس في منزله لتجنب مقابلة حسني الزعيم، فجاء الأخير إلى داره، وعرض عليه أن يكون أول رئيس حكومة في عهده. فرد الخوري بالقول: "إن جئت إلى الحكم أول ما سأقوم به هو أن أضعك في السجن لأنك تطاولت على الشرعية وعلى الدستور. سامحك الله، لقد فتحت بابا على سوريا من الصعب على التاريخ أن يرده".
وبالفعل، فتح حسني الزعيم باب الانقلابات العسكرية في سوريا، ولم يردّه إلا أحمد الشرع سنة 2024، يوم أطاح بآخر عهد عسكري عرفته البلاد، وهو عهد حزب "البعث العربي الاشتراكي" الممثل برئيسه ووريثه بشار الأسد.
لم يكن انقلاب الزعيم هو الأول في الوطن العربي كما يزعم الكثيرون، فقد سبقه انقلاب بكر صدقي في العراق الذي أطاح برئيس الحكومة ياسين باشا الهاشمي سنة 1936، وفي مذكراته المنشورة في الدوحة قبل سنوات، يقول الصحافي اللبناني أسعد داغر، أحد أعوان الملك فيصل الأول سنة 1920، إن بعض السوريين فكّروا في القيام بانقلاب عسكري ذلك العام، وفاتحوا وزير الحربية يوسف العظمة بالأمر ولكنه رفض التعاون. يقول داغر في مذكراته إن الفكرة كانت أن يقوم العظمة بانقلاب على الملك فيصل، لضعفه في مواجهة الفرنسيين، والإتيان بأخيه غير الشقيق الأمير زيد بن الحسين. يوسف العظمة كان ابن المؤسسة العسكرية العثمانية التي انقلبت على السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1908 وعادت بانقلاب ثان سنة 1913، أوصل "جمعية الاتحاد والترقي" إلى الحكم في إسطنبول. ولو قبل يوسف العظمة هذا الطرح لغيّر تاريخ سوريا والشرق الأوسط، وربما لما كانت معركة ميسلون، أو حتى الانتداب الفرنسي. ولكن رفضه القاطع للقيام بانقلاب أخّر سلسلة الانقلابات العسكرية في سوريا حتى سنة 1949، والتي تضمنت 9 انقلابات ناجحة، و9 انقلابات لم يكتب لها النجاح.