ترمب وماسك... الانتقام من "الدولة العميقة"

حرب لا هوادة فيها

المجلة
المجلة

ترمب وماسك... الانتقام من "الدولة العميقة"

تُعمِل إدارة الكفاءة الحكومية التابعة لإدارة ترمب (DOGE) منجلها في نسيج الدولة الأميركية. وبأمر من الآمر الناهي فيها،إيلون ماسك، نفذت الوزارة تخفيضات جذرية شملت عدة وكالات، وكانت الضحية الأبرز بينها، والأشد تأثرا الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) ولا تعد هذه التخفيضات، لا سيما تلك التي استهدفت أدوات "القوة الناعمة" الأميركية، مفاجئة، نظرا إلى حالة الشك العميق، التي ينظر بها كثيرون من اليمين السياسي إلى هذا المفهوم برمته. على أن المفاجأة الكبرى كانت في استهداف مؤسسات تُعدّ ركائز رئيسة في تجسيد "القوة الصلبة" الأميركية خارجيا، بما في ذلك الجيش وأجهزة الاستخبارات. فعلى سبيل المثال، يعتزم البنتاغون الاستغناء عن قرابة 60 ألف موظف مدني ضمن ما يشبه حملة تطهير واسعة.

ومن بين هذه الأهداف تبرز بشكل خاص وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، المعروفة ببساطة باسم "الوكالة"، والتي تواجه تحت إدارة ترمب والمقربين منه أكبر عملية تطهير وظيفي، منذ ما يقرب من نصف قرن. ويبدو أن من بين الدوافع الرئيسة وراء هذا الاستهداف إدراج الوكالة ضمن "قائمة الأعداء" المؤسسية– أي الكيانات التي يرى ترمب أنها قد أضرت به في وقت ما. وها هو انتقامه الذي طال انتظاره مما يُطلق عليه البعض "الدولة العميقة" الأميركية يدخل حيز التنفيذ. والمفارقة أن فكرة الدولة العميقة، وما يُنسب إليها من تهديدات كانت في السابق من أبرز المواضيع التي روج لها اليسار السياسي. أما اليوم، وخاصة منذ ولاية ترمب الأولى، فقد أصبح اليمين الأميركي هو المهووس بمكائد هذه المؤسسات، سواء كانت واقعية أو متخيلة.

وبغض النظر عن مدى صحة الفكرة القائلة بوجود دولة عميقة، تعمل في الخفاء وتتمتع بسلطة هائلة، تتجاوز الرقابة والمساءلة الديمقراطية، وتقوم بالتلاعب بالأحداث داخليا وخارجيا، فلا شك في النفوذ الهائل الذي يتمتع به مجتمع الاستخبارات الأميركي، الذي يتألف من 18 وكالة، وبلغت ميزانيته الجماعية في عام 2023 نحو 100 مليار دولار أميركي، في مقابل نحو 5.6 مليار دولار فقط،أنفقتها الدول الأربع الأخرى من حلفاء أميركا ضمن منظومة "العيون الخمس" أي المملكة المتحدة، كندا، أستراليا، ونيوزيلندا.

العوامل المؤثرة في التعامل مع أجهزة الاستخبارات

بالرغم من الهيمنة المالية التي لطالما ميزت مجتمع الاستخبارات الأميركي، فقد شهد فترات من التراجع الملحوظ، ولا سيما "وكالة الاستخبارات المركزية"، ولذلك لا يمكن القول إن تركيز إدارة ترمب على الوكالة الرئيسة للاستخبارات الخارجية الأميركية أمر غير مسبوق تاريخيا، حتى وإن انتهجتهذه الإدارة سياسات وممارسات تبدو متباينة، مع الأنماط التي سادت منذ الحرب العالمية الثانية. وقد كانت هناك ثلاثة عوامل رئيسة تقف وراء مثل هذه الفترات من التراجع: التحولات في الأحداث الدولية، والتطورات التكنولوجية، والاعتبارات السياسية الداخلية.

تتعدد الأمثلة التي تشير إلى تقليص دور"وكالة الاستخبارات المركزية" نتيجة للأحداث الدولية. ومن أبرزها الغزو الكارثي لخليج الخنازير عام 1961، الذي نظمته الوكالة، وأوكلته إلى مناهضي كاسترو، وقد أدى هذا الفشل إلى استقالة عدة مسؤولين كبار في الوكالة، من بينهم مديرها الذي شغل منصب مديرها لفترة طويلة، ألين دالاس.وبرر هذا الفشل لإدارة الرئيس جون كنيدي إلى أن تفرض رقابة تنفيذية أشد على العمليات السرية للوكالة، مما بدد الأسطورة التي ظهرت في سبعينات القرن الماضي، بأن الوكالة كانت "فيلا هائجا" يعمل خارج السيطرة السياسية للسلطة التنفيذية الأميركية.

كما شكلت نهاية الحرب الباردة نقطة تحول حاسمة لـ"وكالة الاستخبارات المركزية". فقد أدى سقوط جدار برلين في نوفمبر/تشرين الثاني 1989 وانهيار الاتحاد السوفياتي في ديسمبر/كانون الأول 1991 إلى موجة من الشعور بالانتصار في الغرب، ما أثار تساؤلات حول ضرورة استمرار وجود جهاز استخباراتي أميركي كبير.

وخلال تلك الفترة، تعرّضت الوكالة لتخفيضات في الميزانية وعدد الموظفين، ما تسبب في تدهور الروح المعنوية، بينما كانت تسعى لإعادة تعريف دورها في عالم ما بعد الحرب الباردة، بيد أن الوكالة استعادت أهميتها بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 الإرهابية، لتكون لاعبا رئيسا في حرب إدارة جورج دبليو بوش على الإرهاب.

المفاجأة الكبرى كانت في استهداف مؤسسات تُعدّ ركائز رئيسة في تجسيد "القوة الصلبة" الأميركية خارجيا، بما في ذلك الجيش وأجهزة الاستخبارات

العامل المهم الآخر الذي أسهم في فترات التراجع التاريخية لـ"وكالة الاستخبارات المركزية" هو التغير التكنولوجي. فقد وُجدتعلى الدوامتوترات بين طريقة جمع المعلومات الاستخباراتية، من خلال مصادر بشرية، مثل الجواسيس والمخبرين، وتلك المكتسبة عبر الوسائل التكنولوجية، مثل صور الأقمار الصناعية واعتراضات الاتصالات. واليوم، مع ازدياد تأثير الذكاء الاصطناعي، يمكن أن ترسل التحولات التكنولوجية إشارات إلى فيض في عمليات الوكالة في المستقبل، أو على الأقل تكون مبررا لذلك.

وقد وجد هذا النمط سوابق تاريخية، خاصة خلال إدارة كارتر بين عامي 1977 و1981. في ظل عصر مليء بكشف فضائح عمليات الوكالة، من التجسس على المواطنين الأميركيين إلى محاولات اغتيال قادة أجانب مثل فيدل كاسترو، تعرضت الوكالة لردود أفعال معارضة لأنشطتها. وفي هذا السياق، عين الرئيس جيمي كارتر الأدميرال ستانسفيلد تيرنر مديرا للوكالة، وكلّفه بإجراء تغييرات جذرية على المؤسسة الاستخباراتية.

وبدا يومها أن التكنولوجيا تقدم نهجا أكثر أخلاقية، في جمع المعلومات الاستخباراتية للولايات المتحدة، فوقعت مقصلة الميزانية على "وكالة الاستخبارات المركزية"، ودفع تيرنر بالمئات من موظفي "وكالة الاستخبارات المركزية" من ذوي الخبرة خارجا، خاصة في الجانب التشغيلي للوكالة. ولكن أحداث 11 سبتمبر/أيلول، أعطت البعض مبررا ليجادل في أن التخفيضات التي قام بها تيرنر هي التي أضعفت قدرة الاستخبارات الأميركية، على توليد رؤى مفصّلة عن تنظيم "القاعدة"، والتهديد الذي يشكله.

وأخيرا، شهدت "وكالة الاستخبارات المركزية"، تخفيضات وتقليصا لأسباب سياسية محلية، على الرغم من أن نطاق تركيز الوكالة، هو في الأساس العمليات خارج الولايات المتحدة. وتندرج التخفيضات التي قام بها ترمب ضمن هذه الفئة بشكل مباشر، ويذكّر سلوكه هذا بسلوك أحد أسلافه الجمهوريين، الأكثر شهرة في الرئاسة الأميركية، وهو ريتشارد نيكسون، الذي لطالما حمل مظلومية ضد "وكالة الاستخبارات المركزية" الأميركية، توازي درجة عداوة ترمب. فقد استاء ابن كاليفورنيا المنحدر من الساحل الغربي، والذي تلقى تعليمه في كلية ويتيار المتواضعة، من الوكالة التي كان يرى أنها تخضع لسيطرة الساحل الشرقي، الذي يضم خريجي جامعات النخبة مثل هارفارد وييل. وقد اشتهر عنه، عند الحديث عن موظفي "وكالة المخابرات المركزية"، نعتهم بأنهم "أولئك المهرجون هناك في لانغلي(مقر الـCIA)".وكان يعتقد أن الوكالة ساهمت في خسارته الانتخابات الرئاسية عام 1960 من خلال مساعدة خصمه الديمقراطي جون كنيدي.

شهدت "وكالة الاستخبارات المركزية" تخفيضات وتقليصا لأسباب سياسية محلية، على الرغم من أن نطاق تركيز الوكالة هو في الأساس العمليات خارج الولايات المتحدة

وتفاقم غضب نيكسون على الوكالة وقيادتها، في أعقاب اكتشاف عملية التجسس في "ووترغيت" ضد الحزب الديمقراطي، التي نفذها موظفون مرتبطون بحملة إعادة انتخاب نيكسون عام 1972. ولإيقاف التحقيق في "ووترغيت"، طلب نيكسون من مدير "وكالة الاستخبارات المركزية" آنذاك ريتشارد هيلمز أن يعرقل تحقيق الشرطة بإخبار مكتب التحقيقات الفيدرالي أن عملية الاقتحام كانت عملية لـ"وكالة الاستخبارات المركزية"، ولكن الأخير رفض أوامر نيكسون، استشعارا منه بالخطر الذي يهدد "وكالة الاستخبارات المركزية" من ارتباطها بالفضيحة المتنامية.

وعندما فاز نيكسون بإعادة انتخابه في نوفمبر/تشرين الثاني 1972، راح ينتقم من الوكالة، فأقال هيلمز وعيّن جيمس ر. شليزنغر مديرا لها وفوضه بالعمل على الحد من نفوذ الوكالة. ورغم أن شليزنغر شغل المنصب لمدة ستة أشهر فقط، فقد تمكن من تقليص القوى العاملة في الوكالة، بنحو 7 في المئة، وسعى لفرض رقابة رئاسية أكثر إحكاما على عملياتها.

رويترز
مقر وكالة المخابرات المركزية في ماكلين، فيرجينيا

ويمكن أن تكون سابقة المواجهة بين شليزنغر والوكالة تحذيرا محتملا لترمب وجهوده المشابهة، لتقليص حجم أشهر مؤسسة تجسس أميركية، وفرض سيطرة سياسية أكبر عليها. فخلال فترة ولايته القصيرة والتي لم تحظَ بشعبية كبيرة، طلب شليزنغر من "وكالة الاستخبارات المركزية" الأميركية، تخوّفا من ظهور فضائح، أن تجمع قائمة بالأنشطة السابقة، التي قد تسبب مشاكل سياسية مستقبلية إذا ما كُشف النقاب عنها.وقد تحققت مخاوفه: ففي عام 1974، تم تسريب القائمة إلى صحيفة "نيويورك تايمز"، ما أثار موجة غضب واسعة ضد أنشطة الوكالة، وألحق ضررا سياسيا بالغا بجيرالد فورد، خليفة نيكسون في الرئاسة.وإذن، يمكن لترمب أن يضرب وكالات التجسس الخاصة به، ويواصل الانتقام منها، ولكن عليه أن يدرك أنها مجهزة جيدا للانتقام من أسيادها السياسيين.

font change