أحمد الشرع... "كرة النار" السورية التي تتدحرج نحو "الإطار" العراقي (1-2)

مصدر قلق هائل للنخبة الشيعية الحاكمة في بغداد

رويترز
رويترز
الرئيس السوري أحمد الشرع خلال مقابلة مع "رويترز" في القصر الرئاسي في دمشق، سوريا، 10 مارس 2025

أحمد الشرع... "كرة النار" السورية التي تتدحرج نحو "الإطار" العراقي (1-2)

في لقاء تلفزيوني له مؤخرا، ذكر ريان الكلداني، الأمين العام لحركة "بابليون" المسيحية، المنضوية في "الإطار التنسيقي" الشيعي الحاكم في العراق، والتي تمتلك فصيلا مؤثرا في "الحشد الشعبي" بنفوذ واسع في محافظة نينوى، أن لديه معلومات بخصوص اشتراك الرئيس السوري أحمد الشرع في الهجوم على كنيسة "سيدة النجاة" في بغداد، مطالبا الحكومة العراقية بالتحقيق في هذه المعلومات، واتخاذ موقف على أساس نتائج التحقيق.

مَثَّل هذا الهجوم في نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2010 لحظةَ ألم وغضب عراقي هائلين، حيث اجتمعت فيه قسوة الإرهاب، وتخبط الرد الحكومي عليه، ليذهب ضحايا هذا الاجتماع السيئ والمعتاد، في السنوات العراقية الصعبة في مواجهة الإرهاب، عشراتُ المسيحيين العراقيين، ورجال أمن ومارة عابرون. في ذلك اليوم، تسلل مسلحون انتحاريون من تنظيم "داعش" إلى هذه الكنيسة المشهورة في أثناء إقامة القُداس، وبدأوا بقتل المصلين فيها، ما قاد إلى شن قوات الأمن العراقية عملية اقتحام سريعة لإنقاذ المحتجزين فيها. وأدى هذا الاقتحام سيئ التخطيط والمواجهة المسلحة الناشئة عنه، إلى مقتل المزيد من المصلين ورجال أمن ومارة، قبل نهاية المشهد المأساوي، بقتل المهاجمين أنفسهم عبر تفجير أحزمتهم الناسفة، مُوقِعين المزيد من الخسائر البشرية. كانت الحصيلة مقتل نحو ستين شخصا، وعدد أكبر من الجرحى.

لا يحتاج الأمر الكثير من التقصي، لاكتشاف أن ما قاله الكلداني بخصوص ضلوع أحمد الشرع (الذي كان يعرف باسم "أبو محمد الجولاني" سابقا) المحتمل في هذا الهجوم، مُزيَّف، إن لم يكن تضليلا متعمدا، فأحمد الشرع في وقت حدوث الهجوم كان محتجزا في سجن عراقي، شمال بغداد، وبالتالي من المستحيل ضلوعه في التخطيط له. فضلا عن ذلك، أعلنت السلطات العراقية حينها، بعد فترة قصيرة من وقوع الهجوم، أنها اعتقلت المسؤولين عنه، وهم أكثر من عشرة أشخاص من ضمنهم الزعيم المُخطِّط له، حذيفة البطاوي، وقدمتهم للمحاكمة، وصدرت بحق بعضهم أحكام إعدام نُفذت تاليا، فيما قُتل آخرون منهم أثناء محاولة هروبهم من السجن، من ضمنهم البطاوي نفسه في منتصف عام 2011.

رويترز
خلال جنازة ضحايا الهجوم على كنيسة سيدة النجاة في بغداد في 2 نوفمبر 2010

ينضوي اتهام الكلداني "للجولاني"، بالضلوع في عمليات إرهابية كبرى استهدفت مدنيين عراقيين، ضمن جهد أوسع تتشارك فيه على نحو منتظم ومتواصل، أطراف فاعلة في "الإطار التنسيقي" الحاكم، وفصائل مسلحة متحالفة مع إيران، ووسائل إعلام حزبية، وأخرى ذات ميول إطارية، وثالثة ذات معايير إعلامية بائسة، تردد ما هو سائد ولا تتقصى حقيقته. برزَ هذا السعي سريعا وقويا ومنتظما مباشرة، بعد النجاح المفاجئ لـ"هيئة تحرير الشام" بزعامة أحمد الشرع بالإطاحة بنظام الأسد، في ديسمبر/كانون الأول، نهاية العام الماضي، من خلال الترويج الواسع لخطر مفترض، مؤداه أن الإرهابيين من تنظيم "القاعدة" أصبحوا يحكمون سوريا الآن بعد "أن كنا نقاتلهم في العراق" وأن هذا الخطر سيمتد حتما إلى العراق الذي عليه أن يستعد لهذه المواجهة، وذلك من أجل صناعة تضامن شيعي عام، نخبوي- شعبي يتجاوز غضب الجمهور الشيعي ضد النخبة السياسية الشيعية الحاكمة لفشلها وفسادها.

ورَكز هذا السعي، عبر حملة دعائية شرسة، على النقطة المشتركة التي لا يزال الشيعة، ساسة وجمهورا، عاطفيا وإجرائيا يتوحدون حولها، ويُنحون خلافاتهم الكثيرة جانبا عند مواجهتها: الإرهاب، الخوف منه وكراهية الذين يلجأون إليه، أو يحرضون على استخدامه، وضرورة محاربته وتعقب القائمين عليه. فعلى مدى سنوات طويلة، عانى الشيعة العاديون من التوحش الإرهابي، الذي استهدفهم بوصفهم شيعة.

قبل يناير/ كانون الثاني 2012، حين إعلان تشكيل "جبهة النصرة" في سوريا، الاختصار الإعلامي لـ"جبهة نصرة أهل الشام"، لم يسمع العراقيون باسم أحمد الشرع أو "ابو محمد الجولاني"، إذ لم يصدر أي بيان رسمي عراقي يتهم الرجل بتدبير عملية إرهابية، كما لم يتناول الإعلام العراقي، الرسمي أو الحزبي، الرجلَ في أي سياق. وحتى بعد تحوله إلى شخصية عامة غامضة في سوريا عبر قيادته "جبهة النصرة"، لم يتهمه العراق بتنفيذ أي عمل إرهابي في البلد، كما لم يعلنه إرهابيا أو شخصا مطلوبا للحكومة العراقية.

فضلا عن ذلك، لم تعلن "جبهة النصرة" التي انحصرت عملياتها في سوريا، عن تنظيمها أي عملية مسلحة في العراق. في الحقيقة، لحد هذه اللحظة لا يوجد أي اتهام رسمي عراقي لــ"الجولاني" باستهدافه عراقيين، وحتى عندما كان معتقلا لدى السلطات العراقية، فإن هذه السلطات لم توجه له تهما رسمية، ولم تقدمه لمحاكمة، بل أطلقت سراحه في 2011، لعدم وجود أدلة لديها على ارتكابه عملا إرهابيا ضد عراقيين.

من سوء الحظ أن يكون خيار العراق وفصائله المسلحة الموالية لإيران، هو الدفاع عن نظام الأسد، والوقوف إلى جانبه حتى لحظاته الأخيرة بالضد من السوريين العاديين، ورغبتهم المشروعة بالتخلص من النظام

 الجهة التي صنفت "الجولاني" كإرهابي هي الولايات المتحدة الأميركية، وليس العراق، وذلك في مايو/أيار 2013، لأسباب لا تتعلق بالعراق ولا بما جرى فيه، ولا بأنشطة "الجولاني" المفترضة فيه. جاء تصنيف أميركا هذا بعد ستة أشهر من تصنيفها "جبهة النصرة" تنظيما إرهابيا، أي في ديسمبر/كانون الأول 2012، بوصفها الفرع السوري لتنظيم "القاعدة". في معرض تبريره لهذا التصنيف، استخدم بيان وزارة الخارجية الأميركية أسبابا ووقائع سورية، وليست عراقية، عبر المحاججة حينها أن الجولاني، بوصفه زعيما لـ"جبهة النصرة"، قد "أعلن في تسجيلات فيديوية أن هدفه النهائي هو الإطاحة بالنظام السوري، وتطبيق الشريعة الإسلامية في سوريا". أضاف البيان أنه "تحت قيادة الشرع، نفذت (جبهة النصرة) عمليات انتحارية في سوريا، في كل أنحاء سوريا في دمشق خصوصا، ذهب ضحيتها مدنيون سوريون، إضافة إلى أفراد في القوات الأمنية والعسكرية للنظام السابق". وخَلُصَ البيان إلى أن "الرؤية الطائفية العنيفة لـ(جبهة النصرة) بقيادة أحمد الشرع  تناقض مطامح الشعب السوري، من ضمنها الأغلبية الساحقة من المعارضة السورية الساعية لسوريا ديمقراطية وحرة تستوعب الجميع…". في حينها، تظاهر سوريون كثيرون ضد هذا التصنيف الأميركي لـ"جبهة النصرة"، ليس لأنهم مؤيدون لتنظيم "القاعدة" أو راغبون في تطبيق الشريعة الإسلامية في سوريا، وإنما لأنهم وجدوا في "جبهة النصرة" التنظيم الوحيد القادر على الإطاحة بنظام الأسد، بسبب قوة تأثير عملياته ضد هذا النظام، وانضباط مقاتلي التنظيم في مواجهته، على نحو لم يكن متوفرا في المجاميع السورية المسلحة الأخرى، التي رفعت السلاح ضد نظام الأسد، وظلت مشتتة وقليلة التأثير.

رويترز
مقاتلون من جماعة "جبهة فتح الشام" يهتفون بعد إسقاط مروحية روسية في شمال محافظة إدلب، 1 أغسطس 2016

 لا تختلف أحاسيس هؤلاء السوريين عن الأحاسيس السائدة بين عراقيين كثيرين قبل 2003 من الذين كانوا يتمنون مجيء أي قوة لتخليصهم من نظام صدام القمعي، حتى لو كانت هذه القوة، في إطار التمني العراقي اليائس وقتها، هي أرييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها، المكروه على نحو واسع عراقيا وعربيا.

لا يملك اليائسون والمتعطشون خيارات كثيرة، خصوصا بعد أزمنة طويلة عاشوها، تحت ظلم شامل يسحق إنسانيتهم، ويسد آفاق الحياة الواعدة أمامهم. بهذا الصدد، لا يختلف عراقيو 2003 عن سوريي 2024، عند إطاحة النظام البعثي الحاكم في البلدين، إذ اشترك الاثنان، العراقيون والسوريون، في فرح الإطاحة المتشابه، بغض النظر عن هوية الذين تولوا فعل الإطاحة. من سوء الحظ أن يكون خيار العراق وفصائله المسلحة الموالية لإيران، هو الدفاع عن نظام الأسد، والوقوف إلى جانبه حتى لحظاته الأخيرة بالضد من السوريين العاديين، ورغبتهم المشروعة في التخلص من النظام الذي ظلمهم كثيرا.. سيرافق هذا العار الأخلاقي والسياسي طويلا عراقَ الإسلام السياسي الشيعي…

قضى أحمد الشرع بضع سنوات في معتقلات أميركية مختلفة في العراق، أبرزها بوكا وسجن المطار، قبل أن تسلمه القوات الأميركية إلى السلطات العراقية، بوصفه عراقيا

قتال الأميركيين وليس الشيعة

في ظل حملة التضليل الإعلامي الشرسة، التي يقودها "الإطار" بخصوص ما يحدث في سوريا، ضاعت قصة "ابو محمد الجولاني" العراقية، لتستبدل الأوهام الأيديولوجية الوقائعَ الموثقة والمعروفة. دخل "الجولاني" العراق، بعمر 21 عاما، قبل أسابيع قليلة من شن أميركا حرب إطاحتها بنظام صدام حسين، في إطار ما عُرف بـ"المجاهدين العرب" الذين رحبت بقدومهم للبلد الحكومة البعثية حينها، من أجل مساعدتها في صد الغزو الأميركي الوشيك. فَشلَ هؤلاء في مهمتهم، وتفرق الكثيرون منهم، وعادوا إلى بلدانهم بعد نهاية نظام صدام، وسيطرة القوات الأميركية على البلد. كان "الجولاني" من القليلين الذين قرروا البقاء، محفزا بأفكار جهادية لقتال الأميركيين. انتمى لتنظيم صغير محلي "سرايا المجاهدين" لهذا الغرض. كان التنظيم الذي نشط في بغداد، وديالى يتشكل من بعثيين وعسكريين سابقين تخصصوا في استهداف القوات الأميركية. كعضو في هذا التنظيم، أتقن "الجولاني" صناعة العبوات الناسفة، وزرعها على الطرق، قبل أن تعتقله القوات الأميركية، في عام 2005، بعد محاولته زراعة عبوة تستهدف رتلا لها (قبل هذا الاعتقال، في وقت ما بين عامي 2003 و2005، عاد أحمد الشرع إلى سوريا للمساعدة في تجنيد مقاتلين يذهبون للعراق، لتعتقله السلطات السورية، ويقضي بعض الوقت في سجن صيدنايا قبل إطلاق سراحه وعودته للعراق).

قضى "الجولاني" بضع سنوات في معتقلات أميركية مختلفة في العراق، أبرزها بوكا وسجن المطار، قبل أن تسلمه القوات الأميركية إلى السلطات العراقية، بوصفه عراقيا (أتقن الشرع اللهجة العراقية، وادعى أنه عراقي بهوية أحوال شخصية عراقية مزورة). في آخر المطاف، أطلقت السلطات العراقية سراحه لعدم متابعة الأميركيين قضيته عبر النظام القضائي العراقي (أي تقديم التهم الرسمية ضده، وحضور المحاكمة والشهادة ضده أمام قاض عراقي)، ربما لأنهم لم يروا فيه شخصا مهما أو خطيرا يستحق المتابعة.

وقبل اعتقاله في عام 2004 اندمج تنظيمه الصغير بتنظيم أكبر هو "تنظيم التوحيد والجهاد" الذي كان يتزعمه أبو مصعب الزرقاوي. بخلاف الشائع عراقيا، لم يلتقِ "الجولاني" بالزرقاوي ولم يعمل معه، فأحمد الشرع كان عضوا عاديا في التنظيم، وليس من القيادات أو له تاريخ جهادي سابق في أفغانستان أو غيرها بحيث يُوثق به بسهولة، ويُعطى فرصة التعامل المباشر مع زعيم التنظيم. 

رويترز
مقاتل من"جبهة النصرة الإسلامية" السورية يتحدث عبر جهاز اتصال لاسلكي أثناء حمله السلاح في خان شيخون، شمال سوريا، 17 مايو 2014

لكن السجن وفر "للجولاني" فرصة ذهبية ساهمت تاليا بعد خروجه منه، في تسلقه سلم القيادة سريعا، إذ التقى فيه زعماء كبارا في تنظيم "القاعدة"، وارتبط بصلة وثيقة بأحدهم، "أبو علي الأنباري"، الذي سيصبح فيما بعد نائبا لأبي بكر البغدادي، زعيم تنظيم "الدولة الإسلامية". وبعد إطلاق السلطات العراقية سراح أحمد الشرع في 2011، توسط له الأنباري، الذي أطلق سراحه قبل الشرع، وكان بمثابة الأب الروحي له، لدى البغدادي، لإرساله إلى سوريا بغية تشكيل تنظيم جهادي هناك، يُطيح بنظام الأسد، وذلك بعد اندلاع الثورة الشعبية السورية في بداية عام 2011.

كان أصل فكرة الإرسال وإنشاء تنظيم في سوريا مقترحا للجولاني نفسه قدمه الأخير على شكل تقرير مفصل للبغدادي عبر الأنباري. أثار التقرير إعجاب البغدادي فقرر تنفيذ الفكرة. أرسل مع أحمد الشرع خمسة من المقربين كي يشتغلوا جميعا على تشكيل التنظيم الجديد، وأمدهم بالمال على مدى أشهر، لحين قدرة التنظيم الجديد على أن يقف على قدميه ويمول نفسه بنفسه، وهو ما حصل بالفعل.

الإطاحة بحكم "البعث" السوري حولت أحمد الشرع إلى مصدر قلق هائل للنخبة الشيعية الحاكمة في العراق

بمغادرة"الجولاني" إلى سوريا، انطوت صفحته العراقية، ليصبح الرجل بسرعة اسما معروفا في بلده، عبر قيادته أهم تنظيم إسلامي مسلح معارض للنظام، وسيطيح بعد سنوات بهذا النظام عندما غادره- لأسباب مختلفة قاهرة- داعموه الخارجيون: "حزب الله" اللبناني، إيران، روسيا، والفصائل العراقية. هذه الإطاحة بحكم "البعث" السوري حولت أحمد الشرع إلى مصدر قلق هائل للنخبة الشيعية الحاكمة في العراق، على نحو لم يقترب منه الرجل ولو قليلا خلال سنواته في العراق. وتحاول الآن هذه النخبة إعادة تعريف سنوات الرجل العراقية، وابتكار أفعال جديدة فيها بعد انقضائها، كجزء من تشكيل مصدات سياسية وشعبية وأمنية ضده، وضد النظام الجديد في سوريا بتأثيراته المحتملة الكبيرة على العراق مستقبلا…

font change