في لقاء تلفزيوني له مؤخرا، ذكر ريان الكلداني، الأمين العام لحركة "بابليون" المسيحية، المنضوية في "الإطار التنسيقي" الشيعي الحاكم في العراق، والتي تمتلك فصيلا مؤثرا في "الحشد الشعبي" بنفوذ واسع في محافظة نينوى، أن لديه معلومات بخصوص اشتراك الرئيس السوري أحمد الشرع في الهجوم على كنيسة "سيدة النجاة" في بغداد، مطالبا الحكومة العراقية بالتحقيق في هذه المعلومات، واتخاذ موقف على أساس نتائج التحقيق.
مَثَّل هذا الهجوم في نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2010 لحظةَ ألم وغضب عراقي هائلين، حيث اجتمعت فيه قسوة الإرهاب، وتخبط الرد الحكومي عليه، ليذهب ضحايا هذا الاجتماع السيئ والمعتاد، في السنوات العراقية الصعبة في مواجهة الإرهاب، عشراتُ المسيحيين العراقيين، ورجال أمن ومارة عابرون. في ذلك اليوم، تسلل مسلحون انتحاريون من تنظيم "داعش" إلى هذه الكنيسة المشهورة في أثناء إقامة القُداس، وبدأوا بقتل المصلين فيها، ما قاد إلى شن قوات الأمن العراقية عملية اقتحام سريعة لإنقاذ المحتجزين فيها. وأدى هذا الاقتحام سيئ التخطيط والمواجهة المسلحة الناشئة عنه، إلى مقتل المزيد من المصلين ورجال أمن ومارة، قبل نهاية المشهد المأساوي، بقتل المهاجمين أنفسهم عبر تفجير أحزمتهم الناسفة، مُوقِعين المزيد من الخسائر البشرية. كانت الحصيلة مقتل نحو ستين شخصا، وعدد أكبر من الجرحى.
لا يحتاج الأمر الكثير من التقصي، لاكتشاف أن ما قاله الكلداني بخصوص ضلوع أحمد الشرع (الذي كان يعرف باسم "أبو محمد الجولاني" سابقا) المحتمل في هذا الهجوم، مُزيَّف، إن لم يكن تضليلا متعمدا، فأحمد الشرع في وقت حدوث الهجوم كان محتجزا في سجن عراقي، شمال بغداد، وبالتالي من المستحيل ضلوعه في التخطيط له. فضلا عن ذلك، أعلنت السلطات العراقية حينها، بعد فترة قصيرة من وقوع الهجوم، أنها اعتقلت المسؤولين عنه، وهم أكثر من عشرة أشخاص من ضمنهم الزعيم المُخطِّط له، حذيفة البطاوي، وقدمتهم للمحاكمة، وصدرت بحق بعضهم أحكام إعدام نُفذت تاليا، فيما قُتل آخرون منهم أثناء محاولة هروبهم من السجن، من ضمنهم البطاوي نفسه في منتصف عام 2011.
ينضوي اتهام الكلداني "للجولاني"، بالضلوع في عمليات إرهابية كبرى استهدفت مدنيين عراقيين، ضمن جهد أوسع تتشارك فيه على نحو منتظم ومتواصل، أطراف فاعلة في "الإطار التنسيقي" الحاكم، وفصائل مسلحة متحالفة مع إيران، ووسائل إعلام حزبية، وأخرى ذات ميول إطارية، وثالثة ذات معايير إعلامية بائسة، تردد ما هو سائد ولا تتقصى حقيقته. برزَ هذا السعي سريعا وقويا ومنتظما مباشرة، بعد النجاح المفاجئ لـ"هيئة تحرير الشام" بزعامة أحمد الشرع بالإطاحة بنظام الأسد، في ديسمبر/كانون الأول، نهاية العام الماضي، من خلال الترويج الواسع لخطر مفترض، مؤداه أن الإرهابيين من تنظيم "القاعدة" أصبحوا يحكمون سوريا الآن بعد "أن كنا نقاتلهم في العراق" وأن هذا الخطر سيمتد حتما إلى العراق الذي عليه أن يستعد لهذه المواجهة، وذلك من أجل صناعة تضامن شيعي عام، نخبوي- شعبي يتجاوز غضب الجمهور الشيعي ضد النخبة السياسية الشيعية الحاكمة لفشلها وفسادها.
ورَكز هذا السعي، عبر حملة دعائية شرسة، على النقطة المشتركة التي لا يزال الشيعة، ساسة وجمهورا، عاطفيا وإجرائيا يتوحدون حولها، ويُنحون خلافاتهم الكثيرة جانبا عند مواجهتها: الإرهاب، الخوف منه وكراهية الذين يلجأون إليه، أو يحرضون على استخدامه، وضرورة محاربته وتعقب القائمين عليه. فعلى مدى سنوات طويلة، عانى الشيعة العاديون من التوحش الإرهابي، الذي استهدفهم بوصفهم شيعة.
قبل يناير/ كانون الثاني 2012، حين إعلان تشكيل "جبهة النصرة" في سوريا، الاختصار الإعلامي لـ"جبهة نصرة أهل الشام"، لم يسمع العراقيون باسم أحمد الشرع أو "ابو محمد الجولاني"، إذ لم يصدر أي بيان رسمي عراقي يتهم الرجل بتدبير عملية إرهابية، كما لم يتناول الإعلام العراقي، الرسمي أو الحزبي، الرجلَ في أي سياق. وحتى بعد تحوله إلى شخصية عامة غامضة في سوريا عبر قيادته "جبهة النصرة"، لم يتهمه العراق بتنفيذ أي عمل إرهابي في البلد، كما لم يعلنه إرهابيا أو شخصا مطلوبا للحكومة العراقية.
فضلا عن ذلك، لم تعلن "جبهة النصرة" التي انحصرت عملياتها في سوريا، عن تنظيمها أي عملية مسلحة في العراق. في الحقيقة، لحد هذه اللحظة لا يوجد أي اتهام رسمي عراقي لــ"الجولاني" باستهدافه عراقيين، وحتى عندما كان معتقلا لدى السلطات العراقية، فإن هذه السلطات لم توجه له تهما رسمية، ولم تقدمه لمحاكمة، بل أطلقت سراحه في 2011، لعدم وجود أدلة لديها على ارتكابه عملا إرهابيا ضد عراقيين.