"شارع الأعشى"... دهشة الحب وانكساراته

أداءات متقنة ورؤية إخراجية متكاملة

صورة ترويجية للمسلسل

"شارع الأعشى"... دهشة الحب وانكساراته

يأخذنا مسلسل "شارع الأعشى" إلى سبعينات القرن العشرين في العاصمة السعودية الرياض، في أداء بديع لشخصيات العمل التي انتقلت من أوراق رواية الكاتبة بدرية البشر لتصبح عملا فنيا مميزا. يأخذنا المسلسل، ليس بالعودة الزمنية إلى تلك المرحلة من عمر الرياض فحسب، بل يأخذنا إلى طبيعة النفوس المتوهجة لمستقبل يتعدى ذلك الشارع الذي اتسم بقيمه الإنسانية والعلاقات الاجتماعية البسيطة والمعقدة في الوقت نفسه.

من قصص الحب المتفتقة لفتيات شارع الأعشى، تتفجر حكايات ذلك الزمن. حكايات لا تفصل بينها سوى جدران بيوت ذلك الشارع، والتحليق مع الأحلام من على سطوح المنازل، كالحمام الذي ينطلق من أقفاصه الى رحابة السماء. لم يكن شارع الأعشى، ببساطة مبانيه ومحلاته وعلاقات جيرانه، بعيدا عن تغيرات تلك المرحلة، من تسلل أصوات عمالقة الغناء العربي إلى دخول شاشة التلفزيون، وخطوط الهاتف، وقد ترافق ذلك كله مع ظهور موجة التشدد الديني.

بداية الأحداث في منزل أبو إبراهيم، وهو يفاجئ عائلته بشاشة تلفزيون ملونة. تستوقفنا في هذا المشهد، عودتنا إلى تلك الدهشة الأولى التي شعّت من أعين أفراد العائلة، وخصوصا الفتيات اللاتي ارتبطت أحلامهن بصورة الحب الذي جسدته الأفلام السينمائية، واصطدم بواقع فتيات شارع الأعشى آنذاك.

حوادث حب

يجسد أبو إبراهيم صورة رب العائلة المهتم بتعليم أبنائه، لا يميز في ذلك بين الفتيات والصبيان، لكن وقوع حوادث الحب، جعله يعيد النظر في مستقبل ابنتيه، الذي لم يتعدَّ المنظور السائد والتقليدي لحياة المرأة التي يجب أن تُستر بالزواج قبل أن تفتضح في علاقة حب. وكانت ابنته عزيزة (لمى عبد الوهاب)، المتعلقة بأفلام السينما المصرية وحكايتها مع الطبيب المصري، هي التي أثارت رعب الأب حيال مستقبل ابنتيه.

حكايات لا تفصل بينها سوى جدران بيوت ذلك الشارع، والتحليق مع الأحلام من على سطوح المنازل

القضايا الرئيسة البارزة في هذا العمل، تتمثل في ظهور موجة التشدد الديني، مما يعقد الحياة أكثر في شارع الأعشى ويحكم بسواده على واقع المرأة. وكأن العادات والتقاليد لم تكن كافية لتطويقها وتحديد مسار حياتها، فإضيف إليها التشدد في صكوك تُعمّد إلهيا بمنطق التدين الشكلي الذي يغطي على أشكال الحياة وتنوعها.

أداء تمثيلي متقن قدمه أبطال شارع الأعشى. وقد أسرنا الفنان خالد صقر في شخصية أبو إبراهيم، الأب الدمث والمسؤول والمحب لعائلته، وذلك بعمق شخصيته التي لا تتحدث كثيرا، إلا أننا نفهم كل ما يدور في نفسه من خلال تعابير وجهه، بشخصيته المرنة، الميالة الى الفن، والحريصة في الوقت نفسه على العادات والتقاليد، التي لم تمنعه من رفض زواج ابنته الكبرى عواطف بمن تحب، لمعرفته أن الشاب سعد متشدد دينيا، وقد يؤدي زواجه بها إلى تعاسة ابنته. هو لم يصرح لابنته أو لعائلته بسبب قراره، مكتفيا بالرفض القاطع هذا الزواج.

مسلسل "شارع الأعشى"

مصائر

 تتحكم العادات في المصائر بصورة أكثر مأسوية، عندما يزوّج رب الأسرة ابنته عزيزة، الأحبّ إلى قلبه، لصديقه الذي يكبرها سنا، لمجرد اكتشافه رسالة طبيب العيون بين أغراض ابنته، وهو يفعل ذلك دون مواجهة ودون مساءلة، متخذا القرار  دون نقاش أو مجابهة.

تقف شخصية أبو إبراهيم في فاصل زمني بين التقدم إلى الأمام، والبقاء في منظومة التقاليد المجتمعية. ويتوافق ذلك مع شخصية زوجته التي تؤدي دورها الفنانة عائشة كاي زوجته، والتي تمثل النموذج الشائع للمرأة النجدية الجادة والحنونة في آن واحد. وهو توافق متناغم في الأداء، ويستند إلى إرث من العادات والتقاليد، معبّرٍ عنه بلغة جسد وملامح وجه وانفعالات عميقة، غير مبالغ فيها.

تتكامل خيوط العلاقات مع باقي الشخصيات الفاعلة والمؤثرة في المسلسل. فإلهام علي تؤدي دور وضحى، البدوية والأم القوية، المكافحة لتوفير حياة كريمة لأولادها، بحرفية عالية، وبصدق، إلى حد الواقعية، ابتداء باللهجة وتعابير الوجه وحركة الجسد، وصولا إلى الرقص والضحك الخاص بالبدويات. ليست ضحى امرأة عادية تستسلم للظروف، بل هي الشخصية التي تواجه عنف التغيير المتشدد، وهي المساحة الحرة لإدارة المواقف.

ضم مسلسل "شارع الأعشى" شبابا اتقنوا أدرواهم، وتلبسوا شخصيات العمل، وهو ما يبشر بطفرة فنية هائلة وقدرة على استيعاب المتغيرات

ضم مسلسل "شارع الأعشى" شبابا اتقنوا أدرواهم، وتلبسوا شخصيات العمل، وهو ما يبشر بطفرة فنية هائلة وقدرة على استيعاب المتغيرات، مستفيدا إلى حد كبير من طاقم عمل فني استطاع أن يخرج العمل الدرامي بمستوى لا يقل عن الأعمال السينمائية الاحترافية، من تصوير وإضاءة وحركة كاميرا وغيرها، بقيادة المخرج التركي أحمد كاتيكسيز.

دون صراخ

ما يميز مسلسل "شارع الأعشى" هو تصاعد الأحداث دون صراخ. فالإحساس النفسي الذي تجسد على الوجوه وحركة العيون والجسد، أدى جزءا كبيرا من تلك الأحداث، بل أدى مهمة الحوار في الكثير من المشاهد، كما أن الصورة نفسها وطريقة التقاطها، عبرت عن التحول النفسي للشخصيات.

وقد ظهر دور الصورة في حالات التعبير عن الحب، وهو المنطقة الشائكة التي لا يسمح نقلها بشفافية، في واقع يرى من العيب أن نصرّح به أو نناقشه. ومثل ذلك تجلى في مشهد الفنان باسل الصلي (متعب) حين أحرق المسبحة عند تأكده من حب أخيه لعطوة (طرفة الشريف)، من دون أن يكون بينهما أي مكاشفة لتلك المشاعر. كما تجلى في الرسالة الأخيرة التي ظلت في جيب سعد من عواطف قبل أن يفترقا، فأحرقها أخيرا حين اختار طريق التشدد ليكون عضوا في تنظيم. كثيرة هي المشاهد التي استعاضت بالصورة لتقوم مقام الحوار، فتثبت واقعية الحدث تعبيرا عن ثيمة الحب الشائك المستشري بين شخصيات المسلسل، وما يواجهه من وأد سريع.

font change