أميركا... هكذا يشن ترمب حربا شرسة على الإعلام الليبرالي

الإدارة الجمهورية تقرر تفكيك جميع وسائل الإعلام الممولة فيدراليا

أ.ب
أ.ب
الرئيس دونالد ترامب يتحدث مع الصحفيين في البيت الأبيض، واشنطن 21 مارس 2025

أميركا... هكذا يشن ترمب حربا شرسة على الإعلام الليبرالي

استئنافا لمعاركه التي خاضها إبان ولايته الأولى، قرر الرئيس الأميركي دونالد ترمب الثأر من وسائل الإعلام الأميركية الليبرالية وإسكات أصوات ما وقع منها في نطاق سلطاته الفيدرالية.

فبعد منع "أسوشييتد برس"، وهي أكبر وكالة أميركية للأنباء، من حضور المؤتمرات الصحافية للبيت الأبيض أو التصريحات المباشرة للرئيس ترمب، شنت الإدارة الجمهورية الجديدة حربا واسعة وشرسة على جميع وسائل الإعلام الممولة من قبل الحكومة. واستهدفت الحرب جميع المنافذ الإعلامية المنضوية تحت لواء ما يسمى الوكالة الأميركية العالمية للإعلام (USAGM) والتي تضم "صوت أميركا"، و"راديو أوروبا الحرة/الحرية"، و"راديو فردا"، و"راديو آسيا الحرة"، و"شبكة البث الإذاعي للشرق الأوسط" التي تضم "قناة الحرة" و"راديو سوا" والكثير من المنصات الرقمية الناطقة بالعربية.

وهذا العداء المبيت الذي أسرّه ترمب في نفسه حتى بدأ ولايته الثانية يعود إلى عام 2017 عندما وصف ترمب وسائل الإعلام الرئيسة في البلاد بأنها "عدو للأميركيين" و"مصدر للأخبار الزائفة". وظل ترمب على نهجه المعادي للصحافة والإعلام على مدى حملته الانتخابية حتى أطلق منصته الخاصة المسماة "تروث سوشيال" بعد أن فرضت منصتا "تويتر" و"فيسبوك" حظرا على حساباته لديها بسبب ما وصفاه بالتغريدات المشوهة للحقائق التي اعتاد بثها.

ويذكّر الخطاب الذي اعتمده ترمب في حملته على الإعلام بذلك الذي استخدمه طغاة من أمثال أدولف هتلر وجوزيف ستالين وماوتسي تونغ، والذي اعتادوا فيه نعت الصحافة "بأنها عدو للشعب" لبث الشكوك لدى الرأي العام فيما تنشره وبلبلة أفكارهم والتعتيم على الحقائق.

تتعرض قناة "الحرة" بشكل خاص إلى انتقادات عديدة من قبل جهات موالية لإسرائيل ما لبثت أن تصاعدت منذ اندلاع الحرب على غزة

ولعل السبب الحقيقي الذي أجج هذا العداء لديه هو أن الإعلام اليساري أو الليبرالي يشكل حائط الصد العنيد أمام نفاذ الكثير من الأكاذيب إلى الشعب الأميركي، وهو ترجمة لعداء المحافظين للفكر الليبرالي. وثمة جانب مادي لهذه الحرب يتمثل في رغبة اليمين في السيطرة على أسواق الدعاية التي يهيمن عليها الإعلام التقليدي، وتقليص نصيبه من إيرادات الإعلان ليتجه المعلن بدلا من ذلك إلى المنصات الخاصة الموالية للجمهوريين، وفي مقدمتها "إكس" و"تروث سوشيال" و"فيسبوك" و"إنستغرام"، بل و"تيك توك" التي يريد ترمب شراءها من الصينيين. أما الذرائع التي تسوقها إدارة ترمب عن الفساد وعدم الفاعلية والفشل المتفشي في هذه المؤسسات الممولة من قبل دافعي الضرائب الأميركيين فهي أعذار واهية وآفات يمكن علاجها بأساليب أخرى، فضلا عن أن ميزانيتها مجتمعة لا تتجاوز المليار دولار، وهو مبلغ لا يذكر في الميزانية الأميركية.     

وثمة صراع بين السلطات الأميركية إزاء قانونية قرارات الإغلاق الكامل لهذه المنافذ، إذ تريد إدارة ترمب ممثلة في كيري ليك، التي عينها ترمب لترأس الوكالة العالمية للإعلام، تفكيك هذه المؤسسات وإغلاقها فورا دون النظر إلى الوراء أو الاعتبار للتبعات المترتبة على ذلك، بينما أقر الكونغرس ميزانية الكثير من هذه المنافذ حتى سبتمبر/أيلول القادم.

استوديو البث لقناة الحرة، فبراير 2011

وفي المقابل تقف هذه المؤسسات متحدية قرارات ترمب، حيث رفعت دعاوى قضائية تتهم الإدارة بانتهاك التعديل الأول للدستور الذي يكفل حرية الإعلام، وبانتهاك القانون الخاص بضمان استقلالية هذه المؤسسات. وتسود هذه المؤسسات حالة من الارتباك إزاء القرارات الضبابية التي تصدرها إدارة ترمب والتي تثير حيرة العاملين فيها بين الإذعان والتحدي. وهناك تداعيات إنسانية لهذه القرارات لا تأبه بها الإدارة ولا القائمون على هذه المؤسسات، لاسيما فيما يتعلق بالأوضاع القانونية للكثير من العاملين فيها ممن لم يحصلوا بعد على وثائق الإقائمة الدائمة والذين لا ذنب لهم سوى أن الشبكة التابعة للخارجية الأميركية تعاقدت معهم. فهم ليسوا بلاجئين ولا مهاجرين، بل إعلاميون جاءوا من مختلف البلاد إلى الولايات المتحدة بناء على تعاقدات قانونية تفضي تلقائيا إلى حصولهم على بطاقات "الغرين كارد" ومن ثم الجنسية.       

وتتعرض قناة "الحرة" بشكل خاص إلى انتقادات عديدة من قبل جهات موالية لإسرائيل ما لبثت أن تصاعدت منذ اندلاع الحرب على غزة. أبرز هذه المآخذ الادعاء باستضافة شخصيات معادية لإسرائيل، وتبني نهج تحريري موال للفلسطينيين، وتحيز العاملين فيها للقضايا العربية نظرا لانتماء أغلبهم لجنسيات عربية، وهو ما نفته إدارة المحطة مرارا. كما نادت بعض الهيئات التي تراقب الإعلام المعادي لإسرائيل في الولايات المتحدة بتعيين إسرائيليين في القناة لضمان توازن الخط التحريري. 

وثمة تحذيرات عديدة من أن إغلاق هذه المنافذ الإعلامية سيخلي الساحة أمام الدعايات الروسية والصينية والإيرانية، حسبما ذكر الرئيس السابق لـ"راديو أوروبا الحرة".

أمرت الإدارة الأميركية العاملين في "صوت أميركا" بعدم التوجه إلى مكاتبهم وأغلقت مقرها، كما علقت المنح التشغيلية لـ"راديو الحرية" و"راديو آسيا الحرة" وقناة "الحرة"، وجميعها تعتمد بالكامل على التمويل الحكومي

بيد أن شبكة "الشرق الأوسط" التي أطلقتها واشنطن عام 2004 في أعقاب غزوها للعراق من أجل تحسين صورة الولايات المتحدة لدى الجمهور العربي، لم تستطع منافسة القنوات العربية الأخرى وظل جمهور المنطقة ينظر إليها باعتبارها أداة دعاية للسياسات الأميركية التي لم ترق له يوما. واعتمدت "الحرة" خطا تحريريا أحاديا يعرض الجانب الأميركي والإسرائيلي من الصورة دون إتاحة الفرصة للطرف الآخر. واتسمت مسيرة القناة بالاضطراب منذ نشأتها وتعاقبت عليها إدارات عديدة تجاهلت الأسباب الجذرية لفشلها وفي صدارتها ارتياب الجمهور المستهدف من الغاية منها، وبث برامج تشكك في العقيدة الدينية للغالبية العظمى لسكان المنطقة، وانتهاج خط يتنافى مع قواعد الصحافة الموضوعية، وحظر إتاحة الفرصة أمام الطرف الآخر من القصة، والتغيير المستمر في أطقم الصحافيين، والتذبذب التحريري حسب سياسة الحزب الحاكم.

وتحاول قيادات هذه المؤسسات الحالية السعي لدى الكونغرس لإقناع ترمب بالتراجع عن قراراته، ورفعوا دعاوى قضائية لإبطال الإجراءات التي اتخذتها مستشارته الإعلامية التي وصفت هذه المؤسسات بأنها متعفنة وفاسدة وتشكل عبئا على دافعي الضرائب، بل وخطرا على الأمن القومي.

رئيس "راديو أوروبا الحرة" الذي يتخذ من براغ مقرا له وصف قرار ترمب بوقف التمويل عن مؤسسته بأنه غير قانوني، معربا عن أمله في أن لا تطول شماتة موسكو. وكان "راديو أوروبا الحرة"/"الحرية" قد أنشئ إبان الحرب الباردة ليوجه بثه بحوالي 27 لغة إلى 23 بلدا، منها بيلاروسيا وروسيا وإيران وأفغانستان. ويعتبره سياسيون أوروبيون مصدرا مهما للمعلومات في بلدان تتعثر فيها الديمقراطية وحرية التعبير أو تكاد تنعدم.

وقال رئيس "راديو أوروبا الحرة"/"راديو الحرية" إن الميزانية الباقية لديه في براغ لا تكفي إلا لتغطية شهر واحد من أجور 700 صحافي دائمين و1300 مؤقتين.

ومن جانبه، قال مدير "صوت أميركا" مايكل إبراموفيتش إنه وأكثر من 1300 صحافي وعامل تم إيقافهم عن العمل، مضيفا أن "صوت أميركا" سكت لأول مرة منذ 83 عاما.

وأمرت الإدارة الأميركية العاملين في "صوت أميركا" بعدم التوجه إلى مكاتبهم وأغلقت مقرها، كما علقت المنح التشغيلية لـ"راديو الحرية" و"راديو آسيا الحرة" وقناة "الحرة"، وجميعها تعتمد بالكامل على التمويل الحكومي.     

ويدفع قادة هذه المؤسسات بأن الإدارة لا تملك الحق في وقف التمويل الذي سبق أن أقره الكونغرس.

وقد نعت الرئيس الأميركي وصديقه إيلون ماسك العاملين في هذه المؤسسات "بالمجانين اليساريين المتطرفين" الذين يبددون أموال دافعي الضرائب".

ثمة توقعات بأن تعاد هيكلة شبكة "صوت أميركا" بحيث يتم تقليص قوتها البشرية وتمييع استقلاليتها التحريرية ثم تحويلها إلى بوق لإدارة ترمب

وتأسس "صوت أميركا" عام 1942 وترسخت استقلاليته التحريرية بموجب قانون أصدره الرئيس جيرالد فورد عام 1976. ونصت لائحته على أن يكون مصدرا موثوقا ودقيقا وموضوعيا وشاملا للأخبار. وتلى ذلك صدور قوانين أخرى تحمي شبكة "صوت أميركا" من التدخل الحكومي.  

لكن إدارة ترمب دأبت منذ ولايته الأولى على السعي لتدجين الإعلام المستقل أو جمهرته (تحوله إلى إعلام موال للجمهوريين ولليمين) وشهدت الكثير من المؤتمرات الصحافية مشادات بين الرئيس الجمهوري والصحافيين. واحتدمت المواجهات خاصة مع صحافيي "صوت أميركا" بعد تعيين ترمب في ولايته الأولى لليميني المتشدد مايكل باك، أحد صناع الأفلام الوثائقية، رئيسا تنفيذيا للوكالة العالمية للإعلام والذي حاول تكبيل الاستقلالية التحريرية للصحافيين، واتخذ إجراءات تأديبية ضد كل من يرفض الولاء لترمب وأجندته. ورفعت الكثير من الدعاوى القضائية ضد باك وقضت محكمة فيدرالية بعدم قانونية الإجراءات التي اتخذها للتأثير على التغطيات الصحافية للشبكة.

ووصف البيت الأبيض مؤخرا الشبكة بأنها بوق للدعاية المتطرفة وتبديد لأموال دافعي الضرائب.  

رويترز
صورة لصفحة ترمب على تيك توك، في واشنطن، الولايات المتحدة الأميركية، في 19 يناير2025

وامتدحت ليك التي عينت مستشارا إعلاميا حتى يقر مجلس الشيوخ ترشيحها رئيسا للوكالة العالمية للإعلام قرار الرئيس ترمب بتفكيك جميع وسائل الإعلام الممولة فيدراليا.  

وثمة توقعات بأن تعاد هيكلة شبكة "صوت أميركا" بحيث يتم تقليص قوتها البشرية وتمييع استقلاليتها التحريرية ثم تحويلها إلى بوق لإدارة ترمب. 

وظلت هذه المنابر الإعلامية الأميركية تشكل على مدى عقود متنفسا للشعوب الرازخة تحت نير الأنظمة الديكتاتورية والشيوعية، وأيضا لسكان الأقاليم النائية التي تعدم التواصل مع العالم. ووصفت اللجنة الدولية لحماية الصحافيين الحملة التي يشنها ترمب على هذه المؤسسات بأنها مكافأة للطغاة والمستبدين، وطالبت الكونغرس الذي تسيطر عليه أغلبية جمهورية تسير في ركاب ترمب بالتصدي للدفاع عن وجود هذه المنافذ.

font change