كان الملك الأردني الراحل الحسين بن طلال، معروفا بشغفه بالمناورات البلاغية واللفظية، التي لم يكن يستخدمها لغايات الاستعراض، بل كوسيلة فعالة لإيصال الرسائل السياسية الموجزة، التي تعبر غالبا عن موقفه بوضوح وحزم، وكانت هذه من أدواته الدبلوماسية التي برع فيها. فمثلا، في كل إشارة للضفة الغربية، كان يفضل استعمال مفرداته الخاصة، فيصفها دائما بأنها "المحتل من أرضنا". وهي عبارة كانت تستفز الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات كثيرا، وكان يشكو دائما من دلالاتها السياسية التي تعكس حقيقة قناعة الملك حسين الداخلية والوجدانية، بأن الضفة الغربية أرض أردنية محتلة!
ورغم قبول الأردن- على مضض- وتحت وطأة ضغوط عربية ودولية، بأن تكون منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، بقيت آمال الملك الراحل ومحاولاته مستمرة ليقنع عرفات والعرب بأن للأردن حصة شراكة في تمثيل الفلسطينيين، لأسباب موضوعية وتاريخية لا يمكن تجاهلها.
اليوم، وبعد سنوات طويلة من "أوسلو"، وبعد قيام السلطة الفلسطينية كوريث شرعي لـ"منظمة التحرير الفلسطينية" التي أصرت أن تكون الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، نجد أنفسنا أمام مشهد شديد التعقيد، حيث تضاءلت السلطة برحيل ياسر عرفات نفسه، وتحولت إلى نخبة سلطوية، بممارسات أمنية و"اقتصادية".
أسباب العجز الفلسطيني اليوم كثيرة، بعضها يمتد في جذوره إلى ظروف نشأة "منظمة التحرير الفلسطينية" ذاتها، وبعضها يرتبط بمنهجية الإدارة التي أورثها الزعيم الفلسطيني الراحل عرفات لورثته في رام الله
إن أسباب العجز الفلسطيني اليوم كثيرة، بعضها يمتد في جذوره إلى ظروف نشأة "منظمة التحرير الفلسطينية" ذاتها، وبعضها يرتبط بمنهجية الإدارة التي أورثها عرفات لورثته في رام الله، ما منح إسرائيل ذريعة مستمرة، لتقول بصوت مرتفع، إنها لا تجد شريكا حقيقيا للسلام، ليبقى الفلسطينيون– مجموعات بشرية من النازحين في مخيمات الضفة أو سكان المدن والقرى الفلسطينية المحتلة– أيتاما على موائد اللئام لا يمثلهم أحد. ومع كل ذلك، يُصر الجميع– وهذا أمر غرائبي ومدهش حقا- على الحديث عن "حل الدولتين"، والسؤال الذي يجب طرحه بوضوح: عن أي دولتين يتحدث العالم اليوم؟
الحقيقة أن إسرائيل، بقيادتها اليمينية الإقصائية الحالية التي تعكس المزاج الإسرائيلي العام، مطالبة بالنزول من برجها العالي المتغطرس، على أن يتعرض المزاج العام في إسرائيل لصدمة المنطق والواقع.
هذا لن يتحقق إلا بإعادة إنتاج شريك فلسطيني جديد حقيقي، يمثل الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1967 بشكل شرعي، من خلال "انقلاب ديمقراطي أبيض"، يتحقق عبر صناديق انتخابات حقيقية وعميقة، تشمل كل مؤسسات وهيئات "منظمة التحرير الفلسطينية"، التي أوصلتنا لهذا المأزق.
إن ما يحتاجه الفلسطينيون اليوم هو قيادة من الداخل، تكرس نفسها بشرعية شعبية واضحة، قيادة تستطيع القول بثقة إنها تمثل الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة
هنا تبرز ضرورة المصالحة الفلسطينية الداخلية، كشرط أساسي لا مفر منه. مصالحة حقيقية لا تخضع لقوى التطرف كـ"حماس" و"الجهاد الإسلامي"، ولا ترتهن لأي أجندات خارجية، خاصة تلك التي تحاول استخدام مفهوم "المقاومة" لتمرير تمدد إقليمي لإيران أو لاعبين آخرين في المنطقة. إن ما يحتاجه الفلسطينيون اليوم هو قيادة من الداخل، تكرس نفسها بشرعية شعبية واضحة، قيادة تستطيع القول بثقة إنها تمثل الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة، وتعيد تعريف قواعد التمثيل، بما يؤهلها لتكون شريكا مقنعا أمام العالم والإقليم في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية.
هذا الخيار وحده قادر على إسقاط منطق التعنت الإسرائيلي، وقادر أيضا على فتح آفاق جديدة للسلام، بعيدا عن الشعارات الرنانة. والتجارب التاريخية تؤكد أن القيادات الفلسطينية التي خرجت من الداخل الفلسطيني نفسه هي التي نجحت في خلق واقع جديد، كما حدث في الانتفاضة الأولى التي أفرزت قيادات ميدانية حقيقية، حظيت بشرعية واضحة.
إن الطريق الحالي بات مسدودا، والتغيير بات حتميا. ولا بد من صياغة جديدة لعلاقات أردنية فلسطينية أيضا، تستفيد من التجارب التاريخية، وتعيد قراءة الدور الأردني كشريك استراتيجي، دون وصاية، بل بشراكة حقيقية تفيد الطرفين، وتعيد التوازن المفقود في العلاقات الثنائية.
وفي النهاية، من المفيد أن يتذكر الجميع غرب النهر، بأنه لا يوجد في أي جغرافيا في العالم نهر يمكن أن يجري بضفة واحدة.