رحيل عبد الكريم العريض... رسام البحرين الأول ومؤسس جماعاتها الفنية

رسم كل شيء رآه وعاشه باعتباره الجزء الحيوي من حياته

عبد الكريم العريض

رحيل عبد الكريم العريض... رسام البحرين الأول ومؤسس جماعاتها الفنية

على الرغم من أنه احترف الرسم قبل الجميع وزاوله مهنة وهواية تفرغ لها مبكرا فإن الرسام البحريني عبد الكريم العريض الذي توفى قبل أيام عن عمر ناهز الحادية والتسعين عاما كان يفضل أن يكون واحدا من رواد الفن هناك. يهمه أن يكون فردا في جماعة على أن يلقب بالرسام الأول أو المؤسس.

لا تكمن أهميته التاريخية في ريادته الفنية فحسب، بل أيضا في تأسيسه جماعات فنية، كان لها أكبر الأثر في نشر الوعي الفني بين عامة الناس وتطوير الذائقة الجمالية لديهم.

رسام الجماعة المنفتح

لم يدرس عبد الكريم العريض الرسم أكاديميا، غير أنه لم يكن رساما فطريا، بل حرص على أن يكون محترفا في إطار الرسم الواقعي. خطوة فتحت الطريق أمام أجيال من الرسامين لكي يتعلموا الرسم على أصوله المدرسية ويمارسونه باعتباره حرفة.

أسس جماعات فنية كانت عنوانا للتحول من الفردي إلى الجماعي في طرق التفكير في الرسم وطرق مزاولته، وفتح في ذلك طريقا في اتجاه فهم الرسم، كونه وسيلة للتعبير الثقافي وليس مجرد مهنة لإنتاج مواد مسلية يمكن استعمالها للزينة. أما حين أقام صالة لعرض رسومه الشخصية فإنه أسس تقليدا جديدا، من خلاله تكون رؤية الأعمال الفنية متاحة للجميع نظرا واقتناء، إضافة إلى أنها أخرجت الرسام من مرسمه ليواجه مقتني أعماله وجمهوره بشكل مباشر.

حين كان يفتح أبواب ذاكرته فإن تلك الأبواب تفضي إلى جزء مهم من التاريخ الفني في البحرين، هو الجزء المتعلق بالتأسيس والبدايات

يشار إليه دائما باعتباره أديبا وفنانا، ذلك لأنه ألف العديد من الكتب التي لا تبعد كثيرا عن عالمه الفني الواسع. من خلال تلك الكتب يمكن التعرف الى تاريخ الحركة التشكيلية في البحرين. كانت ذاكرته ملعبا شهد تحولات الرسم في بلده في النصف الثاني من القرن العشرين.
حين كان العريض يفتح أبواب ذاكرته، فإن تلك الأبواب تفضي إلى جزء مهم من التاريخ الفني في البحرين، هو الجزء المتعلق بالتأسيس والبدايات. وبذلك فتح نافذة على الفن في العالم العربي حين بادر إلى المشاركة في معارض وملتقيات فنية عربية، ولم تكن تلك المشاركات فردية بل حرص العريض على طابعها الجماعي.

لوحة للفنان عبد الكريم العريض

رسم الحياة بقوة الحلم

تميز أسلوب العريض في الرسم بواقعيته. بين البحر والسوق القديمة، يمتد عالمه وتلقي رسومه الضوء على الحياة التي عاشها البحرينيون في زمن صيد اللؤلؤ والاتجار به. كانت المسافة هائلة العمق بين الغياب والحضور اللذين يمثلان عنصري الحياة في معادلة يتقاسمها الحزن والفرح. سحره البحر بقوته الغامضة، وبالقوة نفسها أبهرته الحياة في السوق التي كانت بمثابة مرآة لتحولات المجتمع.

رسم كل شيء رآه وعاشه وشعر به باعتباره الجزء الحيوي من حياته، غير أنه بالرغم من اهتمامه بالتراث الشعبي، لم يتخذ من مفردات ذلك التراث ضالة جمالية. لم يعنَ بتلك المفردات من جهة دلالاتها الرمزية. فالعريض حرص على أن يكون مخلصا للحياة المباشرة التي عاشها ليرسمها كما لو أنها نوع من الحلم. لذلك لم يشعر بالحاجة إلى الترميز.

عبد الكريم العريض في مرسمه

أحب مدينته التي صارت أخرى

يمكن النظر إلى كتاب العريض، "أيام الأدب والفن"، باعتباره كتاب سيرة ذاتية. غير أن ذلك التجنيس لا يمكن أن يتم ببساطة ويسر. فهو كتاب سيرة تتقاطع فيه الذكريات الشخصية بسيرة المنامة، المدينة التي كانت تقف بين زمنين. كانت تلك لحظة تستحق التوثيق، فهي لحظة تحول، كانت المدينة تستعد فيه لأن تغادر ماضيها وتمضي في طريق التطور العمراني.

كانت متعته في أن يكتب عن المدينة التي رسمها، لا لأنه يريد أن يصفها للآخر الذي لم يرها، بل كتب عن المدينة التي عاشها من خلال رسومه التي احتفت بها

عاش العريض تلك اللحظة التاريخية الحاسمة التي كانت بالنسبة إليه الواقعة التي لخصت حياته كلها. مغزى تلك الحياة التي هيمن عليها الرسم بقوته التي يغلب عليها طابع التحدي الجسور. لم تكن لدى العريض رغبة في الاكتفاء بتوثيق تلك اللحظة، فأسوأ الرسوم هي تلك التي تصلح أن تكون وثائق تاريخية. لذلك حرص على أن يرسم المشاهد التي يراها، خشية منه في أن لا يفتح عينيه ثانية عليها. أدرك العريض حينها أن في إمكان الرسم أن يبقي لذائذ شعورية مهددة بالاختفاء.

كانت متعته تكمن في أن يكتب عن المدينة التي رسمها، لا لأنه يريد أن يصفها للآخر الذي لم يرها، بل كتب عن المدينة التي عاشها من خلال رسومه التي احتفت بها. عاش تفاصيل حياته فيها. غير أنه بالرغم من حبه العميق لتلك التفاصيل التي رسمها، كان ميالا إلى أن تمضي المدينة في تحولها. ذلك ما تعلمه من الرسم الذي كان يثق به باعتباره محرضا على التحول الذي لا بد من وقوعه.

لوحة للفنان عبد الكريم العريض

فن جديد في بلد قديم

صمدت "جمعية البحرين للفن المعاصر" أمام الزمن، فكانت تنظم معارضها دوريا. إضافة إلى الجيل المؤسس، انضمت إليها أجيال من الفنانين، كان أفرادها يرغبون في أن يلتحقوا بالتاريخ الذي صنعته الجمعية التي يعتبرها البعض جماعة فنية، وهي في الحقيقة ليست كذلك.

حرص عبد الكريم العريض أكثر من سواه، على أن يكون العمل الجماعي قائما على فهم وظيفة الفن الثقافية والاجتماعية. عام 1960 حين بدأ الرسم أمام الجمهور، كان لديه شعور بأنه يقوم بمهمة نبيلة، لا من خلال الرسم، بل من خلال اتاحة الفرصة لجمهور العامة للتعرف الى الرسم وطرق معالجة الرسام لمواده وكيف ينظر إلى موضوعاته.

كان تبشيريا في طريقة نظره الى علاقة الجمهور بالرسم، وكان يهمه أن يتعرف الجمهور الى مدينته بطريقة مختلفة، هي غير تلك الطريقة العادية التي تخفي الكثير من مصادر السعادة ولا تظهرها.

كان واحدا من الآباء المؤسسين للرسم بصيغته الأوروبية في بلد جمعته بالعالم الخارجي صداقة قوية تمتد إلى آلاف السنين

ولأنه لم يكن لديه شيء من "عقدة الهوية"، فقد وجد الطرق أمامه مفتوحة بين الشخصي والموضوعي، وبين الخاص والعام. كان اهتمامه بالتراث الحكائي والبصري على حد سواء ينطلق من فكرة أن هناك شيئا يتعلق بالروح يتعرض للاختفاء وقد يختفي في أية لحظة من غير أن يترك وراءه أثرا يذكّر به سوى لوعة غامضة.

لذلك وجد البعض في رسوم العريض مادة حكائية يمكن أن تُروى باعتبارها حقائق عن المكان الذي لم يعد كما هو، وعن الناس الذين عاشوا في حضن ذلك المكان برضا يشبه الصلح الداخلي.

كان العريض واحدا من الآباء المؤسسين للرسم بصيغته الأوروبية، في بلد جمعته بالعالم الخارجي صداقة قوية تمتد إلى آلاف السنين. فالبحرين لم تكن بلدا مغلقا على نفسه يوما ما. لذلك كان من اليسير على البحريين أن يقبلوا على كل ما هو جديد.

فن جديد. ذلك كان عنوانا لتحول ثقافي، العريض هو واحد من رواده.  

لوحة للفنان عبد الكريم العريض

ولد عبد الكريم العريض في المنامة عام 1934. أسس "أسرة هواة الفن" وشارك في كل معارضها، ثم أسس "جمعية البحرين للفن المعاصر" التي ترأسها لدورات عدة. أقام صالة لعرض أعماله بشكل ثابت عام 1960. عام 1967 شارك في معرض الاتحاد العربي للفنون التشكيلية بالرباط. وفي العام الذي تلاه، شارك في المؤتمر الأول للفنون التشكيلية في العالم العربي بدمشق، وفي العام نفسه عرض رسومه في الجزائر.

ألف العريض العديد من الكتب في الفن والتراث. منها "نافذة على التاريخ" 1999. و"حصاد الفن" 2002.  و"المنامة خلال خمسة قرون" 2006. وأخيرا أصدر كتاب "أيام الفن والأدب" 2009. كما أن لديه كتابا بعنوان "أضواء على الحركة التشكيلية في البحرين". حصل على جائزة الدولة التشجيعية للفنون عام 1984 وفي عام 1999 حصل على "جائزة الدانة الذهبية" في الكويت.

font change