عن السجال الذي أثاره فوز "لا أرض أخرى" بالأوسكار

السينما الوثائقية ورؤية العالم

مشهد من الفيلم

عن السجال الذي أثاره فوز "لا أرض أخرى" بالأوسكار

لم يمرّ فوز "لا أرض أخرى" بأوسكار أفضل فيلم وثائقي هذا العام، مرور الكرام، وهو من إنتاج فلسطيني نروجي مشترك، وإخراج فريق من الصناع أبرزهم إعلاميا الفلسطيني باسل عدرا والإسرائيلي يوفال أبراهام. عربيا نُظر إلى الفيلم بالكثير من التشكك، وأدين صاحبه الأول الفلسطيني باسل استباقيا واحتياطيا بالتطبيع مع إسرائيل. استباقيا، بمعنى أن هذا الحكم صدر قبل مشاهدة الفيلم، وربما كي تحظر بصورة ما الفرجة عليه. واحتياطيا، على خلفية المذابح التي ارتكبتها إسرائيل في غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول العام 2023. وأدان الإسرائيليون المتشددون يوفال أبراهم، فأن ينقل معاناة الفلسطينيين ضد الجنود والمستوطنين الإسرائيليين، وأن يتحدث من منطقة حقوق الإنسان، فذلك يرتب عليه في طبيعة الحال لوما وتشكيكا من طرف مواطنيه.

السياق الذي شوهد فيه الفيلم، ولا يزال، هو سياق استقطابي ومغلق بشدة على عصبيته. بل إن العالم كله يعيش، مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، وكل التغييرات السياسية العالمية التي تلت، وقتا عصيبا يعوزه بشدة الانضباط والاتزان. فهل كنا لنتلقى، عربيا على الأقل، فوز "لا أرض أخرى"، بتشنج أقل، لو لم نكن عشنا الفصل الدامي الأخير الذي يحدث في غزة؟

سؤال تصعب الإجابة عنه. أما السؤال الأهم، والأكثر منطقية في سياق كهذا، فهو، في طبيعة الحال، السؤال الفني، سؤال السينما. وبصياغة أشد مباشرة: هل يستحق "لا أرض أخرى"، هذا الفوز الأوسكاري؟ تاليا، هل يستحق أن يصل إلى أعداد أكبر من المتفرجين حول العالم، وهذه ميزة الجائزة الأهم؟ وهل يضيف شيئا إلى رؤيتنا للسينما كفن، أو حتى رؤيتها لنا، هي الفن المعترف به عالميا اليوم إلى درجة التمجيد؟

حياة مشروطة

صانع هذا الفيلم الأول هو في الحقيقة باسل عدرا. فهو الصوت الذي يصاحبنا على مدار زمن الفيلم. يمرر إلينا من تاريخه الشخصي تارة، ومن تاريخ منطقته "مسافر يطا" تارة أخرى. يقول في البداية إنه ولد لعائلة من "الناشطين"، وإنه كبر على إصرار والده على التصدي لمضايقات قوات الاحتلال الإسرائيلي بالتظاهرات، وبالتوثيق أيضا، توثيق أسرة باسل حتى لنزهاتهم المشروطة بعدم الخروج عن حيز الضفة الغربية، بسبب سياسة الفصل العنصري التي تطبقها إسرائيل. وتقرر هذه السياسة من يحق لهم التجول بحرية في البلاد، أصحاب السيارات الصفراء، ومن لا يحق لهم تجاوز الضفة الغربية، الفلسطينيون أصحاب السيارات الخضراء.

السياق الذي شوهد فيه الفيلم، ولا يزال، هو سياق استقطابي ومغلق بشدة على عصبيته. بل إن العالم كله يعيش مع عودة دونالد ترمب وقتا عصيبا يعوزه بشدة الاتزان

ثمة مشاهد لباسل صغيرا يرعى الغنم، ويتحدث إلى الكاميرا. وكان يمكنه أن يبقى بلا تعليم، مثل أبيه ناصر. لكن في التسعينات قرر أهالي مسافر يطا أن يبنوا مدرسة لتعليم الصغار. مشروع تصدت له إسرائيل بعنف كالعادة. غير أن زيارة رئيس الوزراء البريطاني آنذاك توني بلير لموقع المدرسة والمنطقة المحيطة بها، أجبرت إسرائيل على التراجع. وهكذا تعلم باسل، وبمعنى ما صار واعيا بما يكفي، لا فقط كي يناضل على طريقة أبيه وجده، أي بالتمسك بالبقاء على الأرض رغم كل المضايقات، لأن لا أرض أخرى يذهبون إليها، لكن أيضا بأهمية التقاط الصورة عبر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لنشر ما يشهده من بطش إسرائيلي.

مشهد من الفيلم

في 2019، تتخذ حياة باسل، المشروط وجودها تقريبا بهذا النضال، منحى جديدا. حين تقرر محكمة إسرائيلية مصادرة أرض مسافر يطا، وتحويلها إلى ساحة تدريبات للجيش الإسرائيلي. القرار الذي تناقلته وسائل الإعلام الدولية آنذاك، كان يعني التهجير القسري لأهالي عشرين قرية تتشكل منها مسافر يطا، تدمير بيوتهم وإجبارهم على النزوح إلى مدن متكدسة. يقرر أهل باسل وجيرانه، عدم المغادرة، مما يعرضهم إلى اعتداء متواصل من جانب القوات الإسرائيلية، ومن جبروت مسؤول إسرائيلي معين هو إيلان، الذي يظهر في الفيلم دائما بنظارات سوداء تبقيه محجوبا تماما على الرؤية. إيلان هذا، يوقع قرارات الطرد، ولا يأبه بصرخات الفلسطينيين وحيواتهم تنتزع نزعا بالجرافات.

في هذه اللحظة المحددة يظهر يوفال أبراهام. صحافي يهودي، كما يقدم نفسه. يتحدث مع أهالي القرية، وينقل شهاداتهم. يقول إنه يكتب ما يرى، وحين يسأله أحد الأهالي: هل يقرأ أحد هذه المقالات؟ يجيبه بكل صراحة: عدد قليل جدا. ومع ذلك، لا يهزم يوفال اليأس، بل يقف أحيانا أمام ضباط الجيش الإسرائيلي وهم يمارسون أعمال الترويع، ويرفع الكاميرا أمامهم وهو يسمع إهاناتهم. وهو إلى ذلك، يشارك أحيانا في أعمال البناء الليلي للبيوت التي هدمتها إسرائيل في الصباح. إننا نرى أهالي مسافر يطا جميعا من الناشطين - وليس أسرة باسل عدرا فقط – أي من المقاومين، ذلك أنهم يرسخون في وجه قوات الاحتلال، بعيدا من أي مباهاة إعلامية، ويسقط أحدهم هو هارون ضحية لهذا الوقوف الأعزل ضد السلاح، إذ يرديه أحد الجنود برصاصة تتسبب له بشلل لا شفاء منه.

مشهد من الفيلم

الزمن الدائري

تتداخل في الفيلم مشاهد عنف القوات الإسرائيلية ضد المواطنين الفلسطينيين السلميين، وتتكرر كل مرة بعنف أكبر. بحيث تجعل المشاهَدة في ذاتها تجربة صعبة، وتنقل إلى المتفرج إحساسا مستمرا بالعجز والخشية من الآت. فلا سقف لتعديات الجنود. ولا حماية من الهجومات المستمرة إلا الالتجاء إلى الكهوف التي تحيط طبيعيا بالقرى. ولنتصور حياة الأهالي وسط الكهوف، في عز البرد القارص للشتاء.

نحس أن يوفال، يسعى إلى تحييد نفسه بصورة ما، يجعل باسل في المقدمة، ويقف هو وراء الكاميرا، وكأنه يمارس شيئا من التكفير عن الذنب

ربما تُدخِل على قلوبنا مسحة خفيفة من السرور، رؤية إلياس الصغير ابن شقيق باسل، وهو يتفاعل مع من حوله، بمن فيهم يوفال نفسه، ببراءة تبدو كذكرى بعيدة وسط الاستعراض المستمر للعضلات الإسرائيلية. صورة إلياس، تردنا كذلك إلى حياة باسل وهو طفل، وإلى الاعتقال الأول لأبيه في صغره، التجربة التي أثرت بشدة عليه، وعلى موقفه الحياتي ككل. كيف يسعنا أن ننظر إلى مستقبل إلياس اللطيف هذا، خارج حياة باسل الحالية؟ باسل المأخوذ في المقاومة، في التوثيق والتصوير والنشر، المهدد بناء على ذلك بالاعتقال في أي لحظة، مثله مثل أبيه. أو خارج مصير هارون، الذي راح ضحية صموده أمام فعل الاستلاب. إن الزمن في "لا أرض أخرى"، مثله مثل الزمن عند الفلسطيني في أرضه، لا يكف عن التكرر إلى ما لا نهاية.

مشهد من الفيلم

ومع ذلك، قد تعزينا هذه الصداقة، بين باسل المقاوم ويوفال المتعاطف. والواقع أننا نرى يوفال يصغي إلى باسل في شكواه، حين يدخن النارجيلة، وحتى وهو يسأله متى يتزوج ويكوّن عائلة؟ ولا نراه تقريبا يتكلم عن حياته هو، ولا ما يتعرض من مضايقات إسرائيلية ثمنا لموقفه الإنساني إلا قليلا. في الفيلم نحس أن يوفال، يسعى إلى تحييد نفسه بصورة ما، يجعل باسل في المقدمة، ويقف هو وراء الكاميرا، وكأنه يمارس شيئا من التكفير عن الذنب. وفي مشهد يحدد إلى درجة كبيرة الرسالة السياسية والخطاب في "لا أرض أخرى"، يحلم الصديقان الشابان بحياة عادية، بدولة واحدة وديمقراطية وسلام. ويضيف يوفال أنه يتمنى أن يتمكن باسل ذات يوم من زيارته في مدينته، كما يأتي هو لزيارته، بعد أن تلغى سياسة الفصل العنصري الإسرائيلية.

دولة واحدة؟

والواقع أن هذا الطرح السياسي للفيلم ليس جديدا علينا في العالم العربي، الكلمات نفسها والأفكار عبّر عنها المفكر الكبير إدواردد سعيد في المقالات التي كتبها بالإنكليزية لصحيفتي "الحياة" و"الأهرام ويكلي"، في التسعينات بعد اتفاقية أوسلو. وهي الكتابات التي جمعتها وترجمتها دار نشر "لا فابريك" الفرنسية، وأعيد إصدارها في كتاب يحمل رأي سعيد وفكره في فبراير/ شباط من العام 2024: "إسرائيل فلسطين: المساواة أو لا شيء"  Israël, Palestine l'égalité ou rien. في المقالات يطالب سعيد بدولة علمانية واحدة للفلسطينيين والإسرائيليين، يتساوى مواطنوها أمام القانون، أيا كانت ديانتهم. وكما ردد يوفال في حواراته مع التلفزيونات الإسرائيلية، كان سعيد يرى أن البطش المستمر بالفلسطينيين، سيمنع الإسرائيليين من التمتع بأي شعور بالأمان.

صارت الهواتف المحمولة في كل يد، والكاميرات في المتناول، لكن الرهان على من يستطيع أن يصنع بها فيلما ينتمي فعلا إلى السينما

بعيدا من السياسة، يأتي فوز "لا أرض أخرى" لينبهنا إلى المسافة الواسعة التي قطعتها السينما الوثائقية في تقريب الواقع إلى الفن، من دون أن تساوم حول الواقع، أو أن تتخلى عن الفن. لقد رأينا أصحاب هذا الفيلم، يقفون على قدم المساواة مع أصحاب الفيلم الدعائي الفج، "الوحشي"، الذي اتسم بالإبهار السينمائي مع التلفيق الفكري لصالح التوجه الصهيوني. وإن كان "الوحشي" فاز بلا اكتساح في الأوسكار، فإن "لا أرض أخرى" يقول إن السينما ليست صورة فقط، وليست مغلقة على نفسها، مقطوعة الصلة بالواقع. كما يلعب المونتاج هنا دور البطولة تقريبا، ليس بصفته الترتيبية للوقائع والأزمنة، لكن كذلك والأهم، باعتباره رؤية للعالم وللناس في الأساس، وانحيازا إنسانيا، وتوقا إلى عدالة ما، لن تتحقق ربما بغير هذا النوع من المقاومة. نعم صارت الهواتف المحمولة في كل يد، والكاميرات في المتناول، لكن الرهان على من يستطيع أن يصنع بها فيلما ينتمي فعلا إلى السينما، وإلى الإنسان في آن واحد.    

font change

مقالات ذات صلة