تطبيقات المراسلة... معركة خفية بين الخصوصية وسهولة الاستخدامhttps://www.majalla.com/node/324915/%D8%B9%D9%84%D9%88%D9%85-%D9%88%D8%AA%D9%83%D9%86%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A7/%D8%AA%D8%B7%D8%A8%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%A9-%D9%85%D8%B9%D8%B1%D9%83%D8%A9-%D8%AE%D9%81%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B5%D9%88%D8%B5%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%B3%D9%87%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%AE%D8%AF%D8%A7%D9%85
في عالم باتت فيه البيانات هي العملة الأهم، وأصبحت الخصوصية سلعة تتم المساومة عليها بين الشركات والحكومات، يبرز سؤال جوهري: هل يمكن الفرد أن يمتلك حقه في التواصل دون أن يكون مراقبا أو خاضعا للتتبع الرقمي؟
مع تزايد المخاوف في شأن جمع البيانات واستغلالها، أصبحت تطبيقات المراسلة موضع جدال واسع، حيث يدعي كل منها توفير أقصى درجات الأمان لمستخدميه. إلا أن الفروق الدقيقة بين تلك التطبيقات قد تعني الفرق بين محادثة آمنة تماما وأخرى يمكن الوصول إليها بسهولة. فما هي آليات التشفير، وسياسات الخصوصية، ومستوى الحماية الفعلي الذي توفره التطبيقات المختلفة مثل "سيغنال"، "واتساب"، "تيليغرام"، وغيرها، لاتخاذ قرارات واعية تضمن أقصى درجات الأمان في عالم رقمي مليء بالتحديات؟
تمرد رقمي
لا يُعد "سيغنال" مجرد أداة، بل هو موقف فلسفي متجذر في فكرة أن الخصوصية ليست ترفا، بل حق أساسي لا يقبل المساومة. منذ نشأته، لم يسعَ "سيغنال" إلى تحقيق الربح أو التوسع التجاري، بل إلى ترسيخ رؤية تدعم الاستقلالية الرقمية عبر الشفافية والتشفير المفتوح المصدر.
فذلك التطبيق ليس مجرد برنامج للمراسلة، بل تمرد رقمي هادئ على معايير يفرضها العصر، حيث يتحول كل تفاعل إلى بيانات، وكل محادثة إلى مورد قابل للاستغلال.
تأسس "سيغنال" في 29 يوليو/تموز 2014 بعد دمج مشروعين منفصلين هما RedPhone وTextSecure، اللذين كانا يهدفان إلى توفير الاتصال المشفر لكل من المكالمات الصوتية والرسائل النصية.
منذ ذلك الحين، أصبحت مؤسسة غير ربحية تُعرف بـ"سيغنال فاونديشن"، ومقرها كاليفورنيا، تدير "سيغنال"، وتدعم البرمجيات المفتوحة المصدر.
يترأس المؤسسة اليوم بريان أكتون، الشريك المؤسس السابق لتطبيق "واتساب"، الذي استقال من منصبه بعد استحواذ شركة "فيسبوك" عليه عام 2014، رافضا المساس بخصوصية المستخدمين. وقد استثمر أكتون ما يقارب 50 مليون دولار من أمواله الخاصة وأموال شركائه لدعم تطوير "سيغنال"، بهدف تقديم بديل يحترم القيم التي شعر بأنها تتلاشى في بيئات أخرى.
في خطوة لتعزيز الخصوصية، قدم "سيغنال" ثلاث ميزات رئيسة لحماية هوية المستخدمين
منذ بدايته، حرص "سيغنال" على أن يكون تطبيقا مفتوح المصدر، بحيث يمكن أي شخص التحقق من كود البرنامج لضمان خلوه من أي ثغر أمنية أو أدوات تجسس. هذا النموذج أعطى التطبيق مصداقية عالية في أوساط المدافعين عن الخصوصية، مما أدى إلى تبني استخدامه في مختلف أنحاء العالم.
حاليا، يعتمد التطبيق على بروتوكول التشفير المتقدم "Signal Protocol" الذي يوفر تشفيرا من الطرف إلى الطرف، مما يضمن أن الرسائل لا يمكن أن يقرأها إلا المرسل والمستلم فقط. الأهم من ذلك، أن "سيغنال" لا يحتفظ بأي بيانات وصفية، ولا يخزّن محتوى الرسائل. فكل ما يحتاجه المستخدم لتفعيل الحساب هو رقم الهاتف، دون الحاجة لإنشاء ملف شخصي رقمي.
فكل الرسائل والمكالمات التي تتم عبر "سيغنال" محمية بتشفير لا يمكن أي طرف ثالث—بما فيها الشركة المطورة نفسها—فك شفرته، مما يعني أن مزود الخدمة نفسه لا يستطيع الاطلاع على محتوى المحادثات.
ولضمان أعلى درجات الأمان، لا تُخزَّن مفاتيح التشفير على خوادم التطبيق، بل تُنشأ وتُخزَّن محليا على أجهزة المستخدمين. ويعزز هذا الأمان باستخدام خوارزمية تُعرف باسم Double Ratchet Algorithm، وتقوم بتحديث المفاتيح بعد كل رسالة تُرسل، مما يعني أن اعتراض رسالة واحدة لا يسمح بالوصول إلى باقي المحادثة.
تعتمد هذه الخوارزمية على مزيج من تقنيات التشفير لضمان سرية المحادثات الرقمية وحمايتها من أي محاولة للاعتراض أو فك التشفير. تقوم الخوارزمية بتحديث مفاتيح التشفير بشكل مستمر بعد كل رسالة يتم إرسالها أو استقبالها، مما يجعل أي اختراق للمحادثة في لحظة معينة غير قابل للاستمرار، حيث يتم توليد مفاتيح جديدة تلقائيا بعد كل تبادل للرسائل.
تعزيز الخصوصية
كما تستخدم الخوارزمية نظام تشفير متسلسلا يضمن أن كل مفتاح جديد يعتمد على المفتاح السابق ولكنه غير قابل للاسترجاع، مما يمنع استرجاع الرسائل القديمة حتى لو تم كشف أحد المفاتيح بالإضافة إلى تبادل المفاتيح الديناميكي، الذي يمكّن كل طرف في المحادثة من تحديث مفاتيحه بشكل مستقل، مما يزيد أمان الاتصال ويجعل من المستحيل تقريبا فك تشفير المحادثة بأثر رجعي.
لا يزال "واتساب" هو التطبيق الأكثر استخداما في العالم العربي، وواحدا من أكثر تطبيقات التراسل شعبية على المستوى العالمي، مع قاعدة مستخدمين تتجاوز 3 مليارات شخص
ويوفر ذلك التطبيق ميزات أمنية متقدمة، مثل الرسائل الذاتية الاختفاء، وقفل التطبيق بالبصمة أو الرقم السري، وعدم تخزين البيانات على الخوادم أو دعم النسخ الاحتياطي السحابي، مما يعزز خصوصية المستخدمين. إضافة إلى ذلك، يدعم التطبيق مكالمات فيديو وصوت مشفرة بالكامل بجودة عالية، مما يجعله خيارا مثاليا للتواصل الآمن. ورغم تركيزه على الأمان، يتمتع "سيغنال" بواجهة سهلة الاستخدام، مما يجعله في متناول الجميع دون الحاجة إلى خبرة تقنية متقدمة.
في خطوة لتعزيز الخصوصية، قدم "سيغنال" ثلاث ميزات رئيسة لحماية هوية المستخدمين. أولًا، باتت أرقام الهواتف مخفية تلقائيا في الملفات الشخصية، إلا إذا كان الطرف الآخر قد حفظ الرقم مسبقا. ثانيا، أصبح في إمكان المستخدمين إنشاء اسم مستخدم فريد ومشاركته بدلا من رقم الهاتف، سواء عبر رابط مباشر أو رمز QR، مما يتيح التواصل دون كشف المعلومات الشخصية. وأخيرا، لضمان أمان أكبر للصحافيين والنشطاء، يوفر التطبيق خيارا يجعل الرقم غير مرئي تماما وغير قابل للاكتشاف، إلا لمن يملكون اسم المستخدم الصحيح.
حظي "سيغنال" بدعم شخصيات بارزة مثل إيلون ماسك، الذي أوصى باستخدامه علنا، وإدوارد سنودن، الذي صرح عام 2015 بأنه يستخدم التطبيق يوميا نظرا الى قوة نظام الخصوصية الذي يعتمده. ونتيجة لهذا الدعم، إلى جانب تنامي الحاجة العالمية لتطبيقات تراسل آمنة، شهد "سيغنال" نموا لافتا، حيث بلغ عدد مستخدميه النشطين عام 2024 نحو 70 مليون مستخدم، مع أكثر من 220 مليون تحميل منذ انطلاقه.
تساؤلات مشروعة
في المقابل، لا يزال "واتساب" هو التطبيق الأكثر استخداما في العالم العربي، وواحدا من أكثر تطبيقات التراسل شعبية على المستوى العالمي، مع قاعدة مستخدمين تتجاوز 3 مليارات شخص. وقد حافظ التطبيق على سلاسة الاستخدام والبساطة، مع تقديم تشفير قوي للرسائل باستخدام بروتوكول "سيغنال" نفسه، وأُعلن في ديسمبر/دانون الال 2016 أنه أصبح مفعلا لجميع مستخدمي "واتساب".
برايان أكتون، المؤسس المشارك لتطبيق "واتساب"
ورغم المزايا العديدة التي يوفرها تطبيق "واتساب"، فإن حقيقة كونه مملوكا لشركة "ميتا"، التي كانت تُعرف سابقا باسم "فيسبوك"، تثير العديد من التساؤلات حول مدى خصوصية المستخدمين وطرق التعامل مع بياناتهم.
يعتبر "تيليغرام" أقل أمانا من تطبيقات أخرى مثل "سيغنال" و"واتساب"، ويرجع ذلك إلى أسباب عدة تتعلق ببنية التشفير والخصوصية فيه.
فالتطبيق يقوم بجمع كمية كبيرة من المعلومات الشخصية التي تتجاوز مجرد الرسائل والمحادثات، حيث يسجل عنوان بروتوكول الإنترنت الخاص بالمستخدم، ونوع الجهاز الذي يستخدمه، وموقعه الجغرافي، بالإضافة إلى جهات الاتصال المخزنة في هاتفه، بل وحتى أنماط الاستخدام داخل التطبيق، مثل مدة الاستخدام وتوقيت آخر ظهور.
هذا الكم الهائل من البيانات يجعل المستخدمين في مواجهة تساؤلات مشروعة حول كيفية استخدامها، وما هي الجهات التي قد يكون لها الحق في الاطلاع عليها أو الاستفادة منها، خاصة في ظل تاريخ الشركة المالكة في جمع البيانات وتحليلها لأغراض الإعلانات المستهدفة أو لأي استخدامات أخرى قد لا تكون واضحة للمستخدمين.
صحيح أن كلا التطبيقين يوفران تشفيرا شاملا للمحادثات، إلا أن البيانات الوصفية — أي من تواصل مع من، ومتى، وعدد مرات التواصل — تبقى مكشوفة في "واتساب". في المقابل، يقدّم "سيغنال" ميزة Sealed Sender، التي تخفي حتى هوية المرسل عن خوادم التطبيق نفسها، مما يضفي طبقة إضافية من السرية.
يوفر التطبيقان ميزة الرسائل الذاتية التدمير، لكن يختلفان في مستوى التحكم، إذ يتيح "واتساب" فترات حذف محددة مسبقا، بينما يمنح "سيغنال" المستخدم حرية اختيار توقيت حذف الرسائل، سواء بعد ثوانٍ أو أيام أو أسابيع، بحسب تفضيلاته.
"واتساب"
وبينما يُعد بروتوكول التشفير في "واتساب" مفتوح المصدر، فإن بنية التطبيق نفسها مغلقة، ولا تسمح للمجتمع الأمني بمراجعة الكود البرمجي بالكامل. على النقيض، يتبنى "سيغنال" مبدأ الشفافية الكاملة، مما يتيح للمختصين فحص كل سطر برمجي للتأكد من خلوه من الثغر أو التتبع.
أما من حيث التوظيف المؤسسي، فيتفوق "واتساب" بوضوح، إذ يوفر أدوات مثل النسخ الاحتياطي، والأرشفة، والتكامل مع منصات خارجية. في حين يفتقر "سيغنال" لهذه الإمكانات، مما يجعله أقل ملاءمة لبيئات العمل التي تتطلب الحوكمة والامتثال القانوني، مثل البنوك أو المؤسسات الصحية.
في النهاية، إن كنت فردا يبحث عن أقصى درجات الخصوصية والشفافية، فإن "سيغنال" هو الخيار الأكثر أمانا وموثوقية. أما إذا كنت تمثّل شركة أو مؤسسة تسعى لتحقيق توازن بين الوظائف العملية ومتطلبات الامتثال، فقد يكون "واتساب" خيارا عمليا، بشرط تطبيق سياسات داخلية صارمة تحمي بيانات المستخدمين.
"تيليغرام": شهرة واسعة... وخصوصية محدودة
يُعد "تيليغرام" أحد أكثر تطبيقات المراسلة شيوعا في العالم العربي، خاصة في دول مثل السعودية ومصر وسوريا، حيث يستخدمه ملايين الأشخاص للتواصل اليومي، سواء عبر الدردشات الخاصة أو القنوات العامة والمجموعات الضخمة. يتميز التطبيق بقدرته على دعم القنوات الإعلامية والمجموعات التي يمكن أن تضم مئات الآلاف من المشتركين، مما جعله منصة رئيسة للإعلام البديل والنقاشات العامة، إلى جانب استخدامه كأداة لتنظيم الحملات الاجتماعية والسياسية، سواء لدعم قضايا معينة أو لحشد التأييد حول موضوعات مختلفة.
لم يكن سجل "تيليغرام" خاليا من الاختراقات، فقد شهد حوادث تسريب بيانات، من أبرزها الكشف عن معلومات أكثر من 42 مليون مستخدم عام 2020، حيث تم تسريب أرقام هواتفهم وبيانات أخرى على الإنترنت.
رغم شعبيته الواسعة، يعتبر "تيليغرام" أقل أمانا من تطبيقات أخرى مثل "سيغنال" و"واتساب"، ويرجع ذلك إلى أسباب تتعلق ببنية التشفير والخصوصية فيه. من أبرز نقاط الضعف أن التشفير من الطرف إلى الطرف، الذي يضمن عدم قدرة أي جهة على الاطلاع على محتوى الرسائل، ليس مفعّلا تلقائيا، بل يقتصر فقط على "المحادثات السرية"، وهي ميزة اختيارية لا تشمل المحادثات الجماعية أو القنوات العامة. وبذلك، فإن معظم الرسائل التي يتم تبادلها عبر التطبيق تظل غير محمية بتشفير قوي، مما قد يعرضها للاختراق أو الرصد من جهات مختلفة، سواء كانت حكومية أو غير حكومية.
تطبيق "تيليغرام"
إلى جانب ذلك، يجمع التطبيق كمية كبيرة من البيانات الشخصية لمستخدميه، تشمل الاسم ورقم الهاتف وعنوان بروتوكول الإنترنت (IP)، بالإضافة إلى قائمة جهات الاتصال المسجلة على الهاتف. وفي حال تعرض "تيليغرام" للاختراق، يمكن هذه البيانات أن تصبح مكشوفة، مما يرفع مستوى الأخطار الأمنية والخصوصية.
يعتمد "تيليغرام" على بروتوكول تشفير خاص به يُعرف باسم MTProto، وهو بروتوكول غير شائع مقارنة بالبروتوكولات المعتمدة في التطبيقات الأخرى مثل "سيغنال"، والتي خضعت لمراجعات أمنية دقيقة من خبراء مستقلين. ورغم أن أجزاء من MTProto مفتوحة المصدر، إلا أن بنيته الكاملة ليست خاضعة لرقابة مستقلة كافية، مما يثير مخاوف بين الخبراء الأمنيين حول مدى قوته وشفافيته، خاصة في ظل عدم توفر مراجعات أمنية خارجية شاملة له.
لم يكن سجل "تيليغرام" خاليا من الاختراقات، فقد شهد حوادث تسريب بيانات، من أبرزها الكشف عن معلومات أكثر من 42 مليون مستخدم عام 2020، حيث تم تسريب أرقام هواتفهم وبيانات أخرى على الإنترنت. كما استُخدم التطبيق في بعض الأحيان كأداة لنشر المعلومات المضللة، أو في أنشطة مشبوهة مثل الاحتيال الإلكتروني والجرائم الرقمية، مما زاد المخاوف حول مدى الأمان الذي يقدمه لمستخدميه.
يُعد تطبيق المراسلة الخاص بأجهزة "آبل" -المعروف باسم "آي ماسيجيس"- واحدا من أكثر التطبيقات أمانا، حيث يعتمد على تشفير شامل يضمن عدم قدرة أي جهة خارجية، بما في ذلك الشركة المطورة نفسها، على الوصول إلى محتوى المحادثات
ورغم هذه التحديات الأمنية، يواصل "تيليغرام" تحقيق انتشار واسع، ليس بسبب قوة حمايته، وإنما بفضل مرونته وقدرته على تجاوز القيود والحجب، حيث يُستخدم على نطاق واسع في الدول التي تفرض قيودا على الإنترنت أو تحظر تطبيقات أخرى. كما يوفر ميزات مثل القنوات العامة التي تسهّل نشر المعلومات بسرعة وعلى نطاق واسع، مما يجعله أداة فعالة للإعلام المجتمعي والنشاط السياسي، خاصة في البيئات التي تعاني من قيود مشددة على حرية التعبير.
خصوصية محكمة… في عالم مغلق
يُعد تطبيق المراسلة الخاص بأجهزة "آبل" -المعروف باسم "آي ماسيجيس"- واحدا من أكثر التطبيقات أمانا، حيث يعتمد على تشفير شامل يضمن عدم قدرة أي جهة خارجية، بما في ذلك الشركة المطوّرة نفسها، على الوصول إلى محتوى المحادثات. كما أنه لا يعتمد على الإعلانات، مما يقلل الحاجة إلى جمع بيانات المستخدمين لأغراض تسويقية. هذه العوامل تجعل التطبيق خيارا موثوقا به لمن يبحثون عن بيئة تواصل مغلقة ومؤمّنة.
ورغم هذه القوة في الخصوصية، إلا أن التطبيق يعاني من قيود تحدّ من انتشاره. فهو متاح حصريا على أجهزة "آبل"، مما يعني أن مستخدمي الهواتف الذكية والحواسيب التي تعمل بأنظمة أخرى مثل "أندرويد" أو "ويندوز" لا يمكنهم استخدامه. إضافة إلى ذلك، فإن بنيته البرمجية ليست مفتوحة المصدر، مما يعني أن الخبراء المستقلين لا يمكنهم فحصه بدقة للتأكد من عدم وجود ثغر أمنية محتملة، وهو ما يقلل مستوى الشفافية مقارنة بتطبيقات أخرى توفر إمكان التدقيق المفتوح.
يظهر تطبيق Apple iMessage وشعاره في هذه الصورة التوضيحية الملتقطة في ٢١ يوليو ٢٠٢٣ في وارسو، بولندا.
على الجانب الآخر، يوفر تطبيق "تيليغرام" مرونة أكبر، حيث يدعم مختلف أنظمة التشغيل ويمكن الوصول إليه من أي جهاز عبر الويب، بفضل اعتماده على التخزين السحابي. هذا يعني أن المستخدم يمكنه بدء محادثة على هاتفه، ثم استكمالها بسهولة على الحاسوب دون الحاجة إلى نقل البيانات يدويا. لكن في المقابل، لا يعتمد التطبيق على التشفير الشامل بشكل افتراضي، إذ يقتصر ذلك على المحادثات السرية فقط، بينما تظل الرسائل العادية والمحادثات الجماعية غير مشفرة بالكامل، مما قد يشكّل نقطة ضعف أمنية.
ورغم ذلك، يوفر "تيليغرام" طبقة خصوصية إضافية من خلال إمكان استخدام اسم مستخدم بدلا من رقم الهاتف، مما يمنح الأفراد قدرة أكبر على التواصل دون الكشف عن معلوماتهم الشخصية المباشرة.
عند الحديث عن مشاركة الملفات، يفرض تطبيق "آبل" حدًا أقصى لحجم المرفقات لا يتجاوز مئة ميغابايت، مما قد يشكل عائقا عند إرسال مقاطع فيديو أو مستندات كبيرة. في المقابل، يتيح "تيليغرام" مشاركة ملفات بحجم يصل إلى اثنين غيغابايت، مما يجعله مناسبا أكثر لنقل البيانات الضخمة دون الحاجة إلى أدوات خارجية.
أما من ناحية التخصيص، فإن "تيليغرام" يمنح المستخدمين قدرة واسعة على تعديل الواجهة، تغيير الألوان، والتحكم في طريقة عرض الروابط والوسائط، في حين تبقى خيارات التخصيص محدودة في التطبيق الخاص بـ"آبل"، حيث يتم التركيز أكثر على التكامل مع نظام التشغيل بدلا من منح المستخدم حرية التعديل.
يتيح تطبيق "آبل" مزامنة الرسائل بين مختلف أجهزته، لكن ذلك يقتصر فقط على المنتجات التي تعمل ضمن النظام نفسه، بينما يتيح "تيليغرام" الوصول إلى المحادثات من أي جهاز بمجرد تسجيل الدخول، مما يمنحه تفوقا في سهولة الاستخدام عبر المنصات المختلفة.
وعلى مستوى الميزات المتقدمة، يدعم التطبيق الخاص بأجهزة "آبل" وظائف مثل تعديل الرسائل بعد إرسالها، وضع علامة "غير مقروء" على المحادثات، وإمكان رفع الهاتف للاستماع إلى الرسائل الصوتية دون الحاجة إلى تشغيلها يدويا. أما "تيليغرام"، فيتميز بقدرات أكثر تطورا، مثل البحث الفوري في الرسائل، إرسال تنبيهات ذكية في المجموعات، ودعم إنشاء أدوات برمجية مخصصة يمكن استخدامها لأتمتة بعض المهام داخل التطبيق.
يبقى التطبيق الخاص بـ"آبل" خيارا مثاليا لمن يستخدمون أجهزتها ويرغبون في حماية بياناتهم داخل بيئة مغلقة وآمنة، بينما يوفر "تيليغرام" حرية أكبر في الاستخدام والتخصيص، لكنه يقدم مستوى أقل من الخصوصية مقارنة بالأول.
في عالم تزداد فيه المراقبة الرقمية ويتقلص فيه مفهوم الخصوصية، تصبح كل رسالة نرسلها وكل محادثة نجريها جزءا من معادلة أكبر تتعلق بالسيطرة والمعلومات. وبين تطبيق يحيط مستخدميه بجدران حماية لا يمكن اختراقها، لكنه يعزلهم داخل نظام واحد، وآخر يمنح حرية التواصل بلا حدود، لكنه يترك بعض الأبواب مفتوحة، يظل الخيار مسؤولية فردية تعكس تصور الإنسان الحديث للأمان، والحرية، والمخاطر التي هو مستعد لتحملها في مقابل أحدهما أو كليهما.
يبقى السؤال الجوهري الذي يواجه كل مستخدم: أيهما نختار، الخصوصية المطلقة في عالم مغلق، أم المرونة والانتشار على حساب بعض التنازلات الأمنية؟ لا يوجد جواب واحد صحيح، فالأمر يعتمد على أولويات كل فرد وما يراه أكثر أهمية—حماية بياناته مهما كان الثمن، أم سهولة الوصول والتكامل مع الآخرين؟