غمرت مشاعر فرح وطني عارمة قطاعات واسعة من الشعب السوداني إثر التقدم المطرد لقوات الجيش السوداني وإعلانها استعادة السيطرة على جميع مناطق العاصمة الخرطوم وإعادة السيطرة عليها بشكل كامل من قبضة ميليشيا "قوات الدعم السريع"، التي ظلت مسيطرة على أجزاء واسعة منها منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل/نيسان 2023. وهو الإنجاز العسكري الذي فك أسر عشرات الآلاف من المواطنين المدنيين الذين عانوا الأمرين على مدى عامين من سيطرة الميليشيا وسيسمح بعودة ملايين آخرين أجبروا على مغادرة بيوتهم.
وفي 26 مارس/آذار 2025، وصل قائد الجيش السوداني إلى القصر الجمهوري، الذي استعادت السيطرة عليه قوات الجيش، وذلك بعد سلسلة من التقدم العسكري رافقت عمليات الجيش، بدءا من استعادة السيطرة على ولاية الجزيرة- القلب الزراعي للسودان- الواقعة جنوبي العاصمة الخرطوم في 11 يناير/كانون الثاني 2025، مرورا بفك الحصار عن مقر قيادة الجيش وسلاح المدرعات في الخرطوم، بعد حصار استمر قرابة العامين، وانتهاء باستعادة السيطرة علىالقصر الجمهوري.
ومنذ اندلاع الحرب، لم يكن ثمة سيناريو منطقي تنتهي فيه الحرب بانتصار ميليشيا "قوات الدعم السريع"، بتركيبتها غير النظامية، والتي زادت من فوضويتها ركون الميليشيا إلى التجنيد الجهوي لعناصر تفتقر إلى التدريب العسكري النظامي، على قوات الجيش السوداني النظامي التي تتمتع ببنية تنظيمية أكثر رسوخا وخبرة مؤسسية ومعرفة منهجية في إدارة العمليات العسكرية.
ولكن التقهقر وسلسلة الانتكاسات والتراجع الذي حاق بقوات الجيش في مطلع الحرب وأدى إلى خسارتها للسيطرة على العاصمة الخرطوم، وولاية الجزيرة ومساحات معتبرة من إقليمي دارفور وكردفان، أثار الشك بين المتابعين في قدرة الجيش على الصمود في مواجهة تكتيك حرب المدن الذي اعتمدته "قوات الدعم السريع". لكن مع مرور الوقت، بدأت ديناميكيات المواجهة تتكشف بشكل يعكس عودة الجيش إلى استعادة زمام المبادرة. فالتقدم العسكري الذي أحرزه الجيش موخرا جاء ليؤكد صحة التقديرات المبدئية، التي رجحت أن التفوق التنظيمي والقدرات العسكرية المنهجية للجيش ستكون عاملا حاسما في حسم الصراع لصالحه. هذا التطور أظهر أن الفوضى الهيكلية والاعتماد على عناصر غير مؤهلة عسكريا، كما في حالة الميليشيا، لا يمكن أن يشكلا أساسا مستداما لتحقيق نصر استراتيجي أمام قوة نظامية راسخة، رغم التعثرات الأولية التي قد تواجهها الأخيرة.
العوامل الحاسمة
تصاعد المقاومة الشعبية ضد الميليشيا: شهدت فترة ما بعد اندلاع الحرب انخراط مقاتلين متطوعين من شتى أطياف المجتمع السوداني، ومن بينهم برزت مجموعة "غاضبون" والتي تميزت بجرأتها في مواجهة الانقلاب العسكري الذي قامت به قوات الجيش و"الدعم السريع" بشكل مشترك في أكتوبر/تشرين الأول 2021 ضد الحكومة الانتقالية، كما كانت عضويتها منخرطة بعنفوان في المظاهرات الشعبية التي أسقطت نظام عمر البشير الإسلامي العسكري في 2019. انخرط هولاء المقاتلون تطوعا في صفوف الجيش لمواجهة ميليشيا "قوات الدعم السريع"، والتي انكشف حال انتهاكاتها ضد المواطنين المدنيين منذ اليوم الأول للحرب بشكل شمل القتل العشوائي والنهب الممنهج والاغتصاب والانتهاكات الجنسية، مما شجع على استنفار المقاومة المجتمعية ضدهم، وخلق حالة غضب شعبي عارم ضد الميليشيا وأفرادها، وعرى زيف ادعاءاتها السياسية، وصب كل ذلك في صالح الجيش الذي أضفى هذا الزخم الشعبي عليه شرعية متزايدة، حيث بات يُنظر إليه بشكل واسع على أنه الجهة التي تتصدى لوحشية "قوات الدعم السريع" وتحمي المدنيين الذين يلجأون لمناطق سيطرته فرارا من مناطق سيطرة "قوات الدعم السريع". وبذلك، لم تقتصر المقاومة الشعبية على دورها القتالي المباشر، بل أسهمت في ترجيح كفة المعركة سياسيا ومجتمعيا لصالح الجيش، مما عزز موقعه في الصراع وأعطاه دفعة قوية نحو تحقيق المزيد من التقدم الميداني.
التفوق التكتيكي لعمليات الجيش السوداني مقابل الانتشار العشوائي لميليشيا "قوات الدعم السريع": اعتمد الجيش السوداني على عمليات موجهة تستند إلى أهداف عسكرية واضحة ومرتبطة باستراتيجية كلية، تتمحور حول استعادة السيطرة على المراكز الاستراتيجية، وقطع خطوط إمداد الميليشيا، وإجبارها على خوض معارك استنزاف طويلة (كتلك التي حدثت في الخرطوم) تؤدي إلى إنهاكها. وفي المقابل، تبنت "قوات الدعم السريع" استراتيجية انتشار أفقي واسعة دون القدرة على تركيز قواتها في مواقع استراتيجية محددة تخدم أهدافها السياسية والعسكرية. هذا الانتشار الواسع لـ"قوات الدعم السريع"، أو ما يمكن تسميته "التوزيع المفرط للقوات"، جعلها غير قادرة على الاحتفاظ بمواقع مهمة أو الدفاع عنها بفعالية. بدلا من ذلك، انخرطت الميليشيا في نهج يقوم بالتركيز على النهب الاقتصادي والسعي وراء الغنائم عبر احتلال المدن والقرى بشكل متفرق، دون أن تمتلك القوة الكافية للدفاع عنها عند استهدافها من قبل الجيش، مما جعلها تفقد الكثير من المناطق بسرعة بمجرد أن ركز الجيش عملياته لاستعادتها.
التفوق الجوي للجيش واستخدام المسيرات: مثّل التفوق الجوي للجيش السوداني أحد العوامل الحاسمة التي رجحت كفته موخرا في مواجهة "قوات الدعم السريع"، حيث مكّنته السيطرة الجوية، المدعومة بالطائرات الحربية والمسيرات، من فرض تفوق استراتيجي ميداني. اعتمد الجيش على الضربات الجوية الموجهة لشل قدرة الميليشيا على الحركة والإمداد، مستهدفا مخازن الذخيرة وقوافل التموين والإمداد القادمة من مناطق نفوذها في غرب السودان نحو الخرطوم. وأسهمت هذه الاستراتيجية في خنق الدعم اللوجستي لـ"قوات الدعم السريع"، مما أدى إلى إضعاف قدرتها على شن عمليات هجومية منظمة وأجبرها على تبني تكتيكات دفاعية غير مجدية. علاوة على ذلك، أدى الاستخدام المكثف للمسيرات إلى رصد تحركات الميليشيا بدقة واستهداف مواقعها بشكل استباقي، ما أدى إلى تفكيك تشكيلاتها القتالية وعزل وحداتها عن بعضها البعض، وبالتالي إضعاف قدرتها على التنسيق العملياتي.