"ساحة أتنيه" في الخرطوم... المقهى الثقافي المنفتح على التنوع والاختلاف

مركز للحوار والتعبير الفني والثقافي والسياسي

sudanmemory.org
sudanmemory.org
وسط الخرطوم القديم

"ساحة أتنيه" في الخرطوم... المقهى الثقافي المنفتح على التنوع والاختلاف

في خضم معارك الخرطوم المندلعة منذ نحو أسبوعين بشراسة بين الجيش و"قوات الدعم السريع"، نقل مقطع فيديو مشاهد من ساحة ومقهى أتنيه، توضح حجم الخراب الذي لحق بالمكان، الذي عد على مدار سنوات طويلة ملتقى رئيسيا لمثقفي الخرطوم وكتابها وأدبائها، ممن تمردوا على السلطات بتصنيفاتها كافة، وأسسوا في أتنيه، مدارس فكرية وأدبية لأصوات جديدة في الكتابة والنقد والشعر.

تأسيس أتنيه

يعود تأسيس مقهى وساحة أتنيه إلى ما قبل استقلال السودان، في العهد البريطاني. وفي السنوات التي تلت استقلال البلاد، لا سيما فترة الستينات، ذات الزخم الثوري عالميا، أصبح المكان تجمعا رئيسا لمثقفي العاصمة، ومدارا لنقاشاتهم الفكرية، وإن اتخذت تلك الملتقيات شكلا نخوبيا ينحصر في متخرجي جامعة الخرطوم وصغار موظفي الدولة، بأزيائهم الأنيقة ولغتهم المطعمة بالكثير من الإنكليزية.

وزير الثقافة الأسبق في ولاية الخرطوم، والصحافي يوسف حمد، يقول لـ"المجلة" عن نشأة المكان: "تكونت ساحة أتنيه في فناء عمارة أبو العلا بشارع القصر، وتقف مجسدة لحقبة التجديد العمراني الذي بدأ لدى السودانيين في خمسينات القرن الماضي. ومن هنا أخذ المكان رمزيته في المدينة الناهضة المشرئبة للحداثة. خطوطها الأفقية، كاسرات الشمس، الفرندات الخارجية على مستوى الشارع".

هذا الفضاء المعماري المميز أتاح للمدينة أن يكون لها ليلها ومكان تجمع مثقفيها وسياسييها

يوسف حمد

ويضيف: "استغرقت الأجزاء القائمة الآن مراحل عدة لتكتمل في نحو عشر سنوات، وقصد أن يتوسطها برج، لكن موقعه ظل ساحة مفتوحة بين الأجنحة الثلاثة المكونة للعمارة، وهو مكان النشاط الذي أخذ الاسم: ساحة أتنيه".

ويلفت إلى أن "شيئا آخر يدلل الى رمزية المكان وارتباطه بما هو حديث، أن عمارة أبو العلا هي أول عمارة في الخرطوم استعملت الخوازيق في أساساتها، ومواقف للسيارات أسفلها، ووضع التصميم الخاص بها معماري لبناني، وقد طلب إليه آل أبو العلا مبنى مميزا يشابه عمارة الإيموبيليا في وسط القاهرة".

ويرى أن "هذا الفضاء المعماري المميز أتاح للمدينة أن يكون لها ليلها ومكان تجمع مثقفيها وسياسييها، بكل ما تحتاج إليه مدينة ترغب في الالتحاق بحداثة ستينات القرن الماضي."

ثورة أتنيه الثقافية

منذ أواسط تسعينات القرن الماضي، بدأت ساحة أتنيه تشهد مظاهر التمرد الثقافي، والانفصال الرمزي لمجتمعها المصغر عن المجتمع الأكبر، بسلطاته المختلفة، وفي ظل القمع السياسي والمجتمعي حينها لسلطة "الإنقاذ"، اجترح رواد المقهى لغتهم الخاصة، وأزياءهم المميزة، ومظهرهم العام الذي يعكس تمردهم على النظام – السياسي والمجتمعي – وفي الفترة ذاتها بدأت تتشكل التجارب الشعرية والسردية الجديدة بصوتها المختلف والغريب عن السائد من مدارس أدبية وفكرية، وأصبح ترديد قصائد الشعراء عثمان بشرى وعاطف خيري والصادق الرضي، والترنم بأغاني مصطفى سيد أحمد ومجموعة "عقد الجلاد" الغنائية، وكأنه تشفير دلالي يؤشر الى الانتماء إلى المكان – الساحة، وإن كنت بعيدا في آخر أصقاع البلاد.

الحركة الثقافية في أتنيه، فكرية محبة للخيال ومقدسة للحب والجمال

مأمون التلب

عضو "جماعة عمل الثقافية" الشاعر والكاتب مأمون التلب، يقول عن ساحة أتنيه، لـ"المجلة": "رأينا مقاطع فيديو تعرض مشهدا من ساحة أتنيه وسط الخرطوم، قرب ساحة معركة دارت حولها وانتهت بتحرير المنطقة والقصر على يد الجيش من قبضة الميليشيات. لم تسلم الساحة - كما حدث لجميع المباني والساحات - من آثار الحرب المدمرة، لكن المستمع الى المصور وهو يجيل الكاميرا شامتا في كل من كان يجلس يوما هنا، أو كانت تجلس، من الفنانين أو الكاتبات أو المحبين للمعرفة، واعدا إياهم بمستقبل مغلق لهذه الساحة، وأن لا يدخلها إلا من كانت أو كان له إذن من "أب جيقة"، وهو مصطلح يشير، في العموم، لمن لا يرى في النساء سوى تابعات للرجل، بلا حقوق ولا مساواة".

ويضيف التلب: "لم تكن الساحة معروفة لعامة الشباب قبل اندلاع معرض "مفروش لبيع وتبادل الكتاب المستعمل" في العام 2012، الذي كانت تنظمه جماعة "عمل" الثقافية شهريا في هذه الساحة، وتحول الى سوق للكتب استمر قرابة الثلاث سنوات، قبل أن تغلقه السلطات لمخاوف أمنية من تجمع آلاف الناس في ساحة واحدة شهريا، وكان العذر هو عرض كتب ممنوعة من قبل الرقابة".

AFP
مقاتلون موالون للجيش في سوق بالخرطوم

ويتابع: "قبل ذلك كانت أتنيه معروفة بالنسبة الى محترفي الفنون والكتابة والسياسة والتحرير الثقافي. كانت الملاذ المسائي للعائدين من أشغالهم، وهي تطابق في قيمتها مقاهي موزعة على عواصم العالم الكبرى، وعرفت بضمها لهذه الفئات التي بدت معزولة في سودان الإخوان المسلمين".

ويلفت إلى أن "الساحة كانت مكانا للتفاكر والتدارس والاجتماع، ومن ذلك خرجت مشاريع ثقافية كبرى، مجلات ثقافية وملفات وكتب، مبادرة 'برانا' للنشر، نادي القصة السوداني، معارض تشكيلية مرتجلة، جلسات غنائية مفاجئة، وقراءات شعرية على الدوام. منتدى مشافهة النص الشعري كان يقيم فعالياته بين حين وحين في الساحة ويحتفل بيوم الشعر العالمي، والحركة الشعرية تقدم قراءات أدبية للأطفال. لاحقا جاء 'مفروش'، سوق الكتاب، ليجمع كل هذه الأطياف ويحمل في داخل مساحاته الواسعة أشكال الفنون المتنوعة، من قراءات الشعر إلى الغناء والمسرح ومسرح العرائس وعروض الكتب والفنون التشكيلية والمشغولات اليدوية، والأهم من كل ذلك كان اللقاء".

ساحة أتنيه أشبه بمتحف يضم الفنون كافة وأنماط الثقافة السودانية، لذا فهي ساحة مهمة جدا والمثقفون قادرون على إعادة تشكيلها

وسيلة حسين

ويقول مأمون التلب: "رغم أن طبيعة المشاريع التي خرجت من روح الساحة لم تكن سياسية، ولم تناصب الحكومة العداء المباشر، ولم تقبل حتى الفعاليات ذات الطابع السياسي إلا بعد النجاح الجزئي لثورة ديسمبر/ كانون الأول ربما. إلا أن هذه المشاريع كانت وقودا لطاقة الرفض والتمرد، وربما في ما بعد رافدا من روافد الثورة، وذلك هو السبب المباشر من نبرة التشفي والشماتة التي يتحدث بها مصور الفيديو، إذ أن حركة الساحة كانت عصية على الكبح، ببساطة لأن أساليب القمع السياسي لا تجدي معها نفعا، إن الحركة في أتنيه فكرية، محبة للخيال، ومقدسة للحب والجمال. يلاحظ صديق أن مجموعة من شهداء ثورة ديسمبر المعروفين كانت لهم صور ملتقطة في ساحة أتنيه في يوم من الأيام، عشنا شبابنا وكبرنا نشرب القهوة في هذه الساحة وما حولها، ليس دمارها البائن في الفيديو هو ما يحزن، وإنما الاستماع لمن يسيطر عليها اليوم، ويتوعد كل من ضحك يوما على مصاطبها من كل قلبه، وسخريته الساذجة من حمام الساحة ومن كانوا يصادقونه ويمنحونه الحب والحب، متوعدا الحياة نفسها بمستقبل لا مكان فيه للحرية التي تنفست عقودا في تلك الساحة".

 وفي السياق ذاته يقول الشاعر والكاتب السوداني، وسيلة حسين، لـ"المجلة": "ساحة أتنيه تشكل مساحة كبيرة للمقاومة المدنية، وأعني ذروة المقاومة المدنية السلمية، ضد العنف بأشكاله كافة".

sudanmemory.org
وسط الخرطوم القديم

ويضيف حسين: "شهدت الساحة ندوات ومثاقفات فكرية تتصدى للمشكلات السودانية، وهي أيضا ليست ساحة للثقافة فقط، فقد كانت تتناول الشأنين السياسي والاجتماعي".

وعما يشاع عن ساحة أتنيه والتوصيفات الساخرة حولها كونها ملتقى لـ"الشفيفين" و"العميقين"، بقصد عزل روادها عن المجتمع، يقول وسيلة حسين: "بالعكس هي ساحة مهمة جدا وحاضرة، في الثقافة السودانية ووسط المثقفين السودانيين، فحتى الجلسات الودية، أو (الونسات) بين مرتاديها لم تكن عادية، بقدر ما كانت تناقش الشأن السوداني، وتحذر من مآلات الحرب، فلقد نبهوا وحذروا من أخطار الحرب منذ وقت مبكر جدا".

ويتابع حسين في إفادته عن النشاط الثقافي في ساحة ومقهى أتنيه: "كانت شعلة للنشاط في مجالات التشكيل والموسيقى، لا سيما بعد ثورة ديسمبر المجيدة، إذ انفتحت على هذه الفنون بشكل كبير جدا".

أتنيه تعتبر ذاكرة عميقة لأحداث إبداعية متعددة الأجناس ومسرحا مفتوحا يجمع بين التاريخ والاستنارة

محمد نجيب محمد علي

ويضيف حسين: "ساحة أتنيه – كما هو معروف – أشبه بمتحف يضم الفنون كافة وأنماط الثقافة السودانية، لذا فهي ساحة مهمة جدا، والمثقفون قادرون على إعادة تشكيلها من جديد، بسلميتهم المعروفة ونبذهم للعنف، الذي تعكسه كتاباتهم الشعرية والسردية، التي حذرت وتنبأت بمآلات الحرب".  

AFP
دخان كثيف قرب مطار الخرطوم خلال اشتباكات في العاصمة

الشاعر السوداني الكبير، محمد نجيب محمد علي، أحد الذين عاصروا ساحة أتنيه في أطوارها المختلفة، يفيد "المجلة"، بقوله: "أتنيه تعتبر ذاكرة عميقة لأحداث إبداعية متعددة الأجناس ومسرح مفتوح يجمع بين التاريخ والاستنارة في زواياه المختلفة، هي ملتقى رحيم للغناء والشعر والمسرح والإذاعة والأنس الحميم والكتاب وحدائق الحمام الأليف التي بالتأكيد هربت حين حاصرها صوت الرصاص ودوي التوحش والدماء التى تناثرت فى المكان".

ويتابع: "لغالبية المبدعين ذكريات أثيرة فيها وقصص وحكايا، وظلال غرام تنبض بالمحبة والجمال. أتنيه هي بيت العائلة الثقافية المفتوح لكل المبدعين ومواعيدهم، وحكاياتهم الأثيرة، هو مقهى أسطوري منذ عهد سحيق، بدأ بزهرات روما والورود المعلقة في خصلاتهم والفساتين البيضاء المبهجة التي أشعلت الكثير من القصائد والأحلام. هو المكان الساحر الذى ظل يقاوم قبح العالم بالحب ويصلح ما تفسده السياسة".

تعود ساحة أتنيه ضمن مناطق شاسعة استعادتها القوات المسلحة السودانية، في وسط الخرطوم خلال الأيام الماضية، مراكز ثقافية واقتصادية وسيادية، مثلت على مر السنين ترميزا مضمرا للدولة السودانية، في جانبها الثقافي المعارض، وفي مستواها الرسمي الحاكم. فهل تعود إلى أتنيه، في مقبل الأيام، تلك اللقاءات العاصفة بالفكر والمثاقفة، وسمو صوت الاختلاف؟

font change