بوتين "يفك شفرة" ترمب... وينظر أبعد من أوكرانيا

تراهن موسكو على عودة تقاسم مناطق النفوذ مع واشنطن

بوتين "يفك شفرة" ترمب... وينظر أبعد من أوكرانيا

وسط تقارب كبير في مواقف موسكو وواشنطن، استضافت المملكة العربية السعودية، الاثنين، جولة جديدة من المباحثات المنفصلة بين وفود أميركية أوكرانية، واخرى أميركية روسية لوضع حدّ للحرب في أوكرانيا. وفي حين تتواصل المعارك على الأرض في جبهة طولها قرابة ألفي كيلومتر، كثف جيشا روسيا وأوكرانيا الضربات بالمسيرات والصواريخ في محاولة على ما يبدو لتحسين الأوراق التفاوضية. وتدخل روسيا في جولة المباحثات الجديدة أقوى مع توقعات بقرب انسحاب أوكرانيا من كامل أراضي مقاطعة كورسك ما حرمها من ورقة تفاوضية مهمة، وكشف مدى اعتمادها على الدعم العسكري والاستخباراتي الأميركي. وبعيدا عن تفوق آلتها العسكرية، وتقدم قواتها، تراهن موسكو على أن "الكيمياء" الواضحة بين الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترمب، تقربها أكثر ليس من تحقيق معظم أهدافها في أوكرانيا فحسب، بل والتوصل إلى تفاهمات ثنائية مع إدارة ترمب لتقاسم مناطق النفوذ وزيادة وتوسيع الشقاق على ضفتي الأطلسي بين واشنطن والعواصم الأوروبية.

وعكس تعليق ديمتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن الروسي على مكالمة بوتين ترمب الأسبوع الماضي ارتياح النخب الروسية ورهاناتها المستقبلية بوضوح. وقال فيها: "أكدت المكالمة الهاتفية بين الرئيسين بوتين وترمب الفكرة المعروفة، في غرفة الطعام يوجد فقط روسيا والولايات المتحدة. وفي القائمة: مقبلات خفيفة، كرنب بروكسل والأسماك والبطاطا المقلية البريطانية، والديك الباريسي. والطبق الرئيس هو شرائح كييف من الدجاج. طعاما شهيا".

وفي المقابل، وعلى خلفية استبعادها عن لعب أي دور في المفاوضات حول أوكرانيا، يسابق قادة الاتحاد الأوروبي وبريطانيا الزمن للتوصل إلى اتفاقات وتفاهمات عسكرية واقتصادية تجنب بلدانهم المصير الذي تحدث عنه ميدفيديف وسط أعمق أزمة مع واشنطن منذ الحرب العالمية الثانية تتداخل فيها قضايا السياسة والاقتصاد والقيم، وتنعكس بشكل مباشر على منظومة الأمن في القارة العجوز المعتمدة على المظلة الدفاعية الأميركية منذ عقود، والعاجزة عن تأمين منظومة دفاع خاصة بها.

نتائج الاتصال

على عكس التوافقات الأوكرانية الأميركية بشأن وقف شامل لإطلاق النار لمدة 30 يوما قابلة للتجديد، وافق بوتين في اتصاله مع ترمب على هدنة جزئية بوقف الضربات على البنى التحتية للطاقة. وإضافة إلى أن هذه الهدنة تصب في مصلحة روسيا نظرا لأنها توقف الضربات الأوكرانية الموجعة على خزانات ومصافي النفط الروسية في السنة الأخيرة، وتسمح بمواصلة القوات الروسية تقدمها الواضح على الأرض، فإن بوتين أعاد طرح شروطه للموافقة على هدنة شاملة تتمثل في إنهاء التعبئة وإعادة تسليح أوكرانيا، وكذلك وقف كامل للمساعدات الأجنبية. كما أعادت موسكو طرح قضية شرعية زيلينسكي من خلال إشارة بيان الكرملين إلى عدم قدرة نظام كييف على التوصل إلى اتفاق.

من الواضح أن بوتين بخبرته الطويلة، أدرك طريقة ترمب التفاوضية المنطلقة من عقلية "رعاة البقر" والمراهنة على عاملي القوة والروابط الشخصية في العلاقات

الاختراق الأهم ربما أن المكالمة الثانية بين الزعيمين فتحت آفاقا جديدة لتطبيع العلاقات الروسية الأميركية الدبلوماسية والاقتصادية بشكل منفصل عن مآلات جهود التسوية في أوكرانيا. وفي هذا الإطار برز الحديث في البيان الروسي عن آفاق واسعة للتعاون الاقتصادي والاستثماري. ومن الواضح أن عملية التسوية السياسية في أوكرانيا تسير وفق السيناريو الروسي الذي نجح في جر التفاوض إلى معالجة "الأسباب الجذرية" للحرب من وجهة نظر روسيا وهي نزع سلاح أوكرانيا، وعدم انضمامها لـ"الناتو"، وأن أوكرانيا قضية واحدة ضمن إطار أوسع لإعادة ترتيب نظام عالمي جديد تكون فيه روسيا على قدم المساواة مع الولايات المتحدة، ويفتح مجالات للمقايضة بين قوتين عظميين. ومعلوم أن بياني البيت الأبيض والكرملين أشارا إلى مناقشة قضايا الشرق الأوسط وقضايا عالمية أخرى. وسابقا، أرسلت موسكو إشارات إلى واشنطن بأنها مستعدة للمساعدة في حل القضية النووية الإيرانية، والتعاون في سوريا ولبنان وفلسطين. 

رويترز
وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان يتوسط وفدي واشنطن وموسكو في المحادثات الثنائية التي استضافتها الرياض، في 18 فبراير

فك الشفرة

وكشفت التطورات والتصريحات الأخيرة الصادرة عن موسكو وواشنطن، أن بوتين استطاع "فك شفرة" ترمب واستغل ذلك لتحقيق مكاسب ربما تكون الأهم في تعامله مع الإدارات الأميركية المتلاحقة منذ اعتلائه رأس هرم السلطة في الكرملين قبل ربع قرن.  ومن الواضح أن بوتين بخبرته الطويلة، أدرك طريقة ترمب التفاوضية المنطلقة من عقلية "رعاة البقر" والمراهنة على عاملي القوة والروابط الشخصية في العلاقات، فشكره على جهوده الصادقة لوضع حد للحرب، وتعمد عدم رفض مقترحاته. وعرض بوتين شروط بلاده من دون اي إيحاء بالرفض بل غلفها بشكل أسئلة للبحث.

ذكر ويتكوف أن القيادة الأوكرانية وافقت على تنظيم انتخابات رئاسية، لافتا إلى أن "الموقف الروسي هو أن القائد الحالي لأوكرانيا (زيلينسكي) لم يتم انتخابه، وبالتالي من المستحيل إبرام اتفاقية مع هذه الدولة"

ومع إدراكه أن لغة المصالح هي الطاغية في واشنطن في ظل إدارة ترمب، لم يتوان بوتين ومستشاروه من عرض الحسنات الاقتصادية لتقارب البلدين في مشروعات الطاقة والتعاون في القطب الشمالي. وربما تحاشى بوتين إطلاق تصريحات متصلبة تظهره كطرف معطل لمخططات ترمب تجنبا لرد فعله وإحباط الرئيس الأميركي المندفع بقوة لتحقيق نتيجة سريعة، وإمكانية ذهابه نحو زيادة الدعم العسكري لأوكرانيا، واستعادة التنسيق مع الدول الأوروبية لدعم أوكرانيا.

وأضاءت إشادة ستيف ويتكوف المبعوث الخاص للرئيس الأميركي ببوتين على حجم التغيرات في نظرة النخب الجديدة في واشنطن إليه ومستوى علاقاته مع ترمب. وقال ويتكوف في مقابلة مع تاكر كارلسون بثت يوم الجمعة الماضي إن بوتين أثار إعجابه، ووصفه بأنه "قائد عظيم" وذكي، مشيرا إلى ماضيه في الاستخبارات الروسية التي تختار الأذكياء فقط، وأضاف أنه ليس "رجلاً سيئاً"، ويسعى إلى إنهاء الصراع الدامي المستمر منذ 3 سنوات بين موسكو وكييف. 

وذكر ويتكوف أن بوتين أخبره بأنه صلى في كنيسة من أجل ترمب بعد تعرضه لمحاولة اغتيال الصيف الماضي في بنسلفانيا" ليس لأنه كان من الممكن أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة، بل لأنه كان صديقا له، وكان يصلي من أجل صديقه". وكشف أنه تلقى "لوحة جميلة للرئيس ترمب" خطها رسام روسي  بارز بطلب من بوتين ونقلها معه إلى الرئيس بعد زيارته الأخيرة إلى موسكو الشهر الحالي.

وفي المقابل، كرر ويتكوف تصريحات سابقة أطلقها ترمب ومسؤولين في إدارته حول عدم جواز ضم أوكرانيا إلى حلف "الناتو"، مشيرا إلى أنه "على الرغم من اعتقادي أنه يجب علينا التوصل لصفقة عادلة لأوكرانيا، فإنه لا يمكننا السماح لهذه الدولة بجرنا إلى حرب عالمية ثالثة. هذه هي سياسة الرئيس ترمب".

وفي مؤشر إلى استمرار الضغوط على الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، وتلبية اشتراطات الكرملين، ذكر ويتكوف أن القيادة الأوكرانية وافقت على تنظيم انتخابات رئاسية، لافتا إلى أن "الموقف الروسي هو أن القائد الحالي لأوكرانيا (زيلينسكي) لم يتم انتخابه، وبالتالي من المستحيل إبرام اتفاقية مع هذه الدولة". وفي تطرقه إلى موضوع التنازلات عن الأراضي مقابل السلام، وصف ويتكوف وضع المناطق الأوكرانية التي ضمتها روسيا بأنه "الفيل في الغرفة" الذي لا يريد أحد الحديث عنه.

وقال: "إنهم يتحدثون الروسية، وأجروا استفتاءات قالت فيها الغالبية العظمى من السكان إنهم يريدون أن يكونوا تحت الحكم الروسي"، وزاد أن "روسيا تسيطر بالفعل على هذه الأراضي، والسؤال هو ما إذا كان العالم مستعدًا للاعتراف بهذه الأراضي على أنها روسية، و"ما إذا كان زيلينسكي قادرًا على البقاء سياسيًا إذا اعترف بذلك".

يبدو أن هدف الكرملين في المرحلة الحالية يكمن في تحييد الولايات المتحدة من الناحية الجيوسياسية عبر تقديم تنازلات صغيرة أو وهمية في أوكرانيا لمنع تطبيع العلاقات الثنائية، وانتظار استسلام أوكرانيا للمطالب الروسية

وتكشف إشادة ترمب وكبار المسؤولين الأميركيين بصدق نوايا بوتين أن سيد الكرملين استطاع المحافظة على الدينامية الإيجابية لعلاقات البلدين من دون تقديم تنازلات ذات معنى في الموضوع الأوكراني، وفتح باب طويل للتفاوض. وفي المقابل بدا أن رهانات موسكو لم تتغير وهي أن تعميق الخلافات بين واشنطن والعواصم الأوروبية يضعف موقف أوكرانيا ويجبر الأوروبيين على تطبيع تدريجي للعلاقات معها كما حصل بعد حرب جورجيا في 2008 و2014.

ورغم الجهود الحثيثة من قبل بريطانيا وفرنسا وألمانيا بقيادتها الجديدة من أجل التوصل إلى استراتيجية دفاعية لمنع انهيار أوكرانيا، ومنع بوتين من تحقيق أهدافه المعلنة من الحرب المستمرة قبل نحو ثلاث سنوات، يبدو أن أوروبا غير قادرة على تقديم الدعم الكافي لأوكرانيا لأسباب كثيرة منها: غياب الإرادة السياسية الموحدة، والانقسامات الحادة بين الراغبين في إعادة العلاقات مع موسكو والداعين إلى التشدد أكثر، والإهمال الطويل لقضايا الدفاع والاتكال على واشنطن منذ ثمانية عقود في قضايا الأمن، ما أدى إلى عدم وجود جيوش قادرة على مواجهة أي خطر قدد تشكله روسيا، والتخلف التقني وتراجع قدرات الصناعات الدفاعية.

وزارة الدفاع الروسية
أفراد من الجيش الروسي يمرون أمام مبنى مدمر في بلدة سودجا، التي استعادتها القوات المسلحة الروسية مؤخرا خلال الصراع الروسي الأوكراني في منطقة كورسك، روسيا، في هذه الصورة الثابتة من فيديو نُشر في 15 مارس 2025

ويضاف إلى كل هذا، تراجع معدلات النمو في معظم الاقتصادات الأوروبية الرائدة، والانقسام المجتمعي حول قضية مواصلة دعم أوكرانيا، وصعود اليمين المتطرف في الانتخابات الأخيرة. 

ومؤكد أن طريق المفاوضات للوصول إلى تسوية للحرب الأوكرانية تناسب جميع الأطراف المنخرطة فيها ما زال طويلا. ويبدو أن هدف الكرملين في المرحلة الحالية يكمن في تحييد الولايات المتحدة من الناحية الجيوسياسية عبر تقديم تنازلات صغيرة أو وهمية في أوكرانيا لمنع تطبيع العلاقات الثنائية، وانتظار استسلام أوكرانيا للمطالب الروسية مع قطع الدعم العسكري الأميركي، وعجز أوروبا عن تعويض هذا الدعم. وعلى المدى البعيد تراهن موسكو على أن الشقاق عبر الأطلسي، وإمكانية زوال حلف "الناتو" يفتح على عودة تقاسم مناطق النفوذ بين روسيا والولايات المتحدة.

font change