التفلسف على الموت

لا تفريق بين ذات مفكِرة وموضوع مفكر فيه

التفلسف على الموت

وعي الإنسان يختلف عن كل وعي، وذكاؤه يتميز عن كل ذكاء. لذلك هو الوحيد القادر على طرح مشكلة وجوده ومناقشة كونها مشكلة، والاكتواء بنار الأسئلة. في البوذية، تطرح فكرة التخلي عن هذا الوعي، أو بعبارة أدق التخلي عن التفكير في المصير وعن كل تفكير، لأن هذا يؤدي إلى الحياة المريحة، ولا أقول السعيدة، التي تقوم على ملء الأمعاء ثم إفراغها، وإبقاء العينين على ما يحدث بالفعل، دون انشغال بالسؤال: لماذا؟ ومن يشرد تفكيره يتلقى ضربة مفاجئة بالعصا من أستاذه الذي يعلمه الرهبنة.

أن تتفلسف هو أن تتعلم كيف تموت. هكذا يقول ميشيل دي مونتين، مقتبسا عن شيشرون، في سياق الحديث عن سقراط المحكوم عليه بالإعدام، أي أن ميتة سقراط كانت ميتة عظيمة لا تليق إلا بفيلسوف. يقول مونتين إنه اعتاد أن يكون الموت، ليس في مخيلته وذاكرته وكل حياته فحسب، بل دائما في فمه، في الطعام الذي يأكله والشراب الذي يشربه. قد يبدو هذا كئيبا لمن يحبون الطعام، وربما يشربون كثيرا في عزلتهم. لكنه ليس كذلك على الإطلاق. يُكمل مونتين هذه الفكرة بعبارة استثنائية: "من تعلم كيف يموت فقد نسي كيف يكون عبدا".

العبودية هي عبودية الخوف من الموت. إن خوفنا من الفناء هو ما يبقينا مستعبدين. إن الحرية تزدهر وتتألق عندما يذهب الخوف. الحرية، على النقيض من كل ذلك. إنها تقبّل فناءنا، وكوننا محكومين بالموت. الحرية واقعية للغاية. ولن تشعر بالحرية الحقيقية إلا بمعرفتك أن حياتنا تتشكل بفعل اقتراب الموت الحتمي الذي لا مفر منه، يوما بعد يوم، وساعة بعد ساعة. ومن هذا المنطلق، فإن الحياة التي تُعاش بإتقان هي حياة فلسفية، هي حياة ترحب باقتراب الموت. الوجود محدود، والموت مؤكد. هذا ليس بالأمر الجديد. لكن الحياة الفلسفية يجب أن تنطلق من تأكيد من الوجدان على محدوديتنا.

لنحاول أن نفكر في هذا من منظور هايدغر للتمييز بين الخوف والقلق. لقد عرفنا أن الخوف هو رد فعلنا تجاه تهديد حقيقي في العالم يقع علينا، مثل الخوف من الحيوانات المفترسة. إذا ظهر لك أسد فستشعر بالخوف وسيختفي الخوف مع اختفائه. أما القلق، فعلى النقيض من ذلك، ليس له موضوع محدد. إنه حالة تتلاشى فيها حقائق العالم عن الأنظار، كل شيء فجأة يبدو غريبا ومريبا. إنه شعور بالوجود في العالم ككل، بكل شيء ولا شيء على وجه الخصوص، كما قرر هايدغر. "الدازاين" ليس الإنسان المهموم بوجوده فقط، بل الإنسان والعالم، الإنسان في العالم. لا تفريق بين ذات مفكِرة وموضوع مفكر فيه.

في أيام جائحة كورونا كلنا شعرنا بالقلق الهايدغري. لا يوجد شيء تراه فتخاف منه. فالفيروس لا يُرى بالعين المجردة كالأسد، لكنه منتشر في كل مكان وحقيقي وقد امتزج ببنية الواقع. مرض منتشر في كل مكان، ومجهول الهوية، وربما غير قابل للعلاج في تلك الأيام. لقد شعر معظمنا وكأننا نسبح في بحر من الفيروسات طوال الوقت. واليوم لا أحد يريد أن يتذكره أو يتحدث عنه. لكن في تلك الأيام كان يكمن وراء رعشة الخوف قلق أعمق، ليس الخوف من الفيروس بل القلق من فنائنا، والسير نحو الموت.

إنه لشيء مدهش أن يكون شيئا غاليا للغاية، مثل الحياة، قابلا للكسر والتهشم بهذه السهولة. حادث سيارة، أو سقوط من السلالم، ثم يموت الإنسان وتتسرب الحياة من بين أنامله

ينبغي أن لا نصدق أولئك المبتسمين الذين يظهرون على قنوات التلفزيون ليحدثونا عن تطوير الذات والثروة والصحة وطرد القلق. يقولون العمر ليس سوى رقم. فليجربوا أن يقولوا هذا لرجل تقوّس ظهره ويعاني من سبعة أمراض خطيرة في الوقت نفسه. إنه من الأهمية بمكان تقبّل القلق والتأكيد عليه، وعدم إخفائه أو الهرب منه أو التهرب منه، أو محاولة تفسيره في سياق شيء أو سبب، كالحيوانات المفترسة. هذا القلق ليس مجرد اضطراب يحتاج إلى علاج أو تخدير. بل يجب الاعتراف به، وتشكيله، وصقله لكي ينفجر بنا ويصبح أداة للتحرر. وهنا سيمكننا أن نحاول تحويل الحالة المزاجية الأساسية للقلق من شيء مرهق إلى شيء نافع يساعدنا ويدفعنا للعمل.
نغفل أحيانا فنتخيل أن الحياة ستستمر وأن الموت أمرٌ يحدث للآخرين وليس لنا. بينما يكمن عزاء الفلسفة في التخلي عن عادات الحياة العادية المُنكِرة للموت، ومواجهة قلق الموقف بشجاعة ثابتة وواقعية رصينة. لماذا نقلق من شيء يكمن في بذرة الحياة نفسها؟ إنه جزء لا يتجزأ من الرحلة. لقد قُذف بنا إلى هذا العالم من دون اختيارنا، وسنغادره رغم أنوفنا، ونحن نعلم منذ سن مبكرة أن هذا ما سيحدث لنا.
كم نحن ضعفاء وكم نحن قابلون للكسر. إنه لشيء مدهش أن يكون شيئا غاليا للغاية، مثل الحياة، قابلا للكسر والتهشم بهذه السهولة. حادث سيارة، أو سقوط من السلالم، ثم يموت الإنسان وتتسرب الحياة من بين أنامله. ومع كل ذلك، فإن الإنسان عظيم بسبب هذه الهشاشة. هشاشته هي منبع عظمته. إنه وحده من يملك الوعي بضعفه ومن هنا يأتي تميزه.

font change