التأريخ الفني... نقص فادح في الثقافة العربية المعاصرة

غياب ربط اللوحة والفيلم والعمارة بالوقائع والتحولات الاجتماعية

 Ahmed  Jadallah/Reuters
Ahmed Jadallah/Reuters
الزوار يتأملون لوحة "المغرب" للفنان فريد بلكاهية ضمن عرض "كريستيز" العلني للفن الحديث والمعاصر في الشرق الأوسط

التأريخ الفني... نقص فادح في الثقافة العربية المعاصرة

إذا تأملنا واقع الفنون البصرية اليوم في العالم العربي، نجد أنفسنا أمام أعمال فنية عربية ستظل خالدة. لا لأن بعض هذه الأعمال التشكيلية بيعت بملايين الدولارات أو لأن نماذج كثيرة من الأفلام السينمائية عرضت داخل صالات سينمائية كبيرة وبمهرجانات من الدرجة الأولى، وبالتالي حصلت على جوائز عالمية كثيرة، وإنما بحكم ما تركته بعض الأعمال من أثر بيّن وواضح في تاريخ الثقافة العربية الحديثة منها والمعاصرة. وقد شهدت الفنون البصرية منذ بدايات ما يعرف بـ"الربيع العربي" إلى اليوم، تحولا أنطولوجيا كبيرا، لم يتوقف عند حدود الشكل والأسلوب والمادة، بقدر ما اقتحم العديد من الفنانين التشكيليين والمخرجين السينمائيين براديغم الواقع وجعلوا منه مادة للتفكير ووسيلة لإدانة التاريخ وجرحه.

الفن بما هو فكر

يكتشف متأمل المختبر الفني العربي الحديث أن اللوحة العربية ليست مجرد وسيلة لمحاكاة التجربة الفنية الغربية، وإنما أضحت مستقلة عن منابعها الأولى، أي أن الفنانين العرب أصبحت لهم القدرة على إنجاز وإبداع وإنتاج أعمال تشكيلية تضاهي بجمالياتها ما أنتجه الغرب خلال الحقبة المعاصرة. ولا شك أن تجارب فنية متنوعة من قبيل فريد بلكاهية ولؤي كيالي وإيتل عدنان وحسن فتحي وزها حديد، قادرة على أن تتحدى بأفكارها ومواقفها ما أنتجته تجارب غربية، وذلك لكونها تطرح أفقا بصريا حداثيا له ما يميزه على مستوى الشكل والمضمون. كما أن هذه الأعمال الفنية نفسها، لا تقدم الفن كبضاعة ترفيهية غايتها الاستهلاك، بل تفكر في واقعها من خلال المعمار واللوحة والمنحوتة، أيْ أنها تنتج فكرا يتبلور عبر الفن. فهذا الأخير، له القدرة على أن يضمر مجموعة من الأفكار والمفاهيم والنظريات انطلاقا من العمل الفني. وقد حرص جملة من الفنانين العرب على تلمس البعد الفكري والحدث التاريخي في أعمالهم، بعدما تحول العديد من اللوحات المسندية إلى مساحات خاصة للتفكير في العديد من القضايا والإشكالات التي تطال الواقع العربي.

تجارب فنية متنوعة من قبيل فريد بلكاهية ولؤي كيالي وإيتل عدنان وحسن فتحي وزها حديد، قادرة على أن تتحدى بأفكارها ومواقفها ما أنتجته تجارب غربية

لم يجعل فنانون مثل شاكر حسن آل سعيد وأحمد الشرقاوي ومحمد المليحي من اللوحة وسيلة للتعبير عن ذواتهم، بقدر ما تحولت اللوحة إلى مطية للتفكير في بعض المفاهيم ذات الصلة بالهوية والأسلوب والعلامة. فهي لوحات تمنح الباحثين والمؤرخين والمفكرين مادة غنية للتفكير في الواقع والتاريخ والذاكرة والمجتمع والسياسة من خلال سند اللوحة. وإذا كانت الصورة الفنية أكثر ثبوتا من نظيرتها السينمائية، فإن هذا الأمر جعل الكثير من المفكرين مثل جيل دولوز وجاك أومون ومارك فيرو يبنون أفكارهم ونظرياتهم حول الفن السابع الذي تحول بدوره إلى وسيلة للتفكير. لكن في مقابل الجدال الفكري الذي عرفه براديغم الصورة في الثقافة الغربية، فإن العالم العربي لم يعرف اهتماما كبيرا بفكر الصورة، سواء داخل مشاريع زعماء الإصلاح في العصر الحديث أو حتى من لدن المفكرين الذين عادة ما يطلقون على أنفسهم رواد الحداثة العربية. إذ لا يوجد مفكر عربي واحد، جعل من لوحة فنية أو نقيشة صخرية أو فيلم سينمائي أو مقطوعة موسيقية، وسيلة للتفكير في قضايا مجتمعية، أي أن يتحول العمل الفني إلى قاطرة للتفكير في المجتمع، على أساس أن التعبير الفني، رغم ما يطبعه من تجريد، يظل في صناعته شكلا من أشكال التعبير عن الواقع.

 Amal  Alhasan/Getty/Sothebys
إيتل عدنان، "التحديق في الشمس"، ضمن معرض "سوذبيز" الذي افتُتح في تراس البجيري بالدرعية، قبيل أول مزاد يقام في السعودية

هشاشة البحث التاريخي

ونظرا إلى الهشاشة التي يعرفها مجال البحث التاريخي في العالم العربي وعدم إيمان المؤرخين العرب بأن الأعمال الفنية تدخل ضمن اختصاصاتهم ومناهجهم، سيما ما يرتبط بفكر الصورة وتاريخ الفن والأنماط الموسيقية وظهور اللوحة وجماليات المعمار وتاريخ الفرجة السينمائية، فهذه الموضوعات المتصلة عموما بتاريخ الفن لا يقربها المؤرخ. وهو تصور علمي تقليدي كانت كرسته المدرسة المنهجية أو الوضعية في كتابة التاريخ مع شارل لانغوا وشارل سينيوبوس، حيث نظرا إلى التاريخ انطلاقا من الوثائق المكتوبة وأن أي وثيقة أخرى، سواء كانت لوحة أو أرشيفا أو سجلا لمحاكم التفتيش أو أدبا تاريخيا أو مسكوكات (النقود)، لا يمكن اعتبارها وثائق تاريخية في نظر رواد المدرسة الوضعية.

Marc Gantier / Gamma-Rapho
جيل دولوز

وإذا كان المؤرخون العرب انتقدوا هذه الطروحات من الناحية المنهجية، وثاروا عليها في إطار النسق الفكري الذي تبنته "مدرسة الحوليات" مع لوسيان فيبر ومارك بلوك، فإن الوعي بقيمة الصورة والفن عموما كمصدر لكتابة التاريخ، لم يتبلور بعد داخل الأدبيات التاريخية في العالم العربي. فهي في مجملها كتابات يطغى عليها مفهم الحدث السياسي والعنصر الديبلوماسي والقضايا والإشكالات ذات الصلة بالتاريخين السياسي والاجتماعي. في حين أن تاريخ الفن يظل في حكم اللامفكر به، مع العلم أن هناك العديد من المنشآت المعمارية واللوحات التشكيلية والصور الفوتوغرافية والأفلام السينمائية التي تحتاج إلى عناية خاصة من لدن المؤرخين، من أجل ضبط سيرتها وذاكرتها ووجودها، حتى تضمن ديمومتها داخل الأجيال الجديدة.

لا يوجد مفكر عربي واحد، جعل من لوحة فنية أو نقيشة صخرية أو فيلم سينمائي أو مقطوعة موسيقية، وسيلة للتفكير في قضايا مجتمعية

بيد أن هذه الكتابة التاريخية المعاصرة، رغم ما شهدته من تحولات على مستوى الكتابة والمنهج، تحتاج اليوم إلى مزيد من البحث والحفر عميقا في تاريخ الفنون البصرية وغيرها، خاصة أن المرحلة التي نعيشها اليوم، عرفت نوعا من التنامي على مستوى تشييد المتاحف الفنية وإقامة المعارض التشكيلية وفتح الخزانات السينمائية والبحث عن الأرشيفات البصرية. كلها عناصر تخدم الباحثين في التاريخ وتضعهم أمام مسؤولية فكرية حول ضرورة تأريخ الفنون العربية وإبراز ذاكرتها وما تنضح به من خصوصيات جمالية ذات أثر واضح في تاريخ المنطقة العربية. إن منطلق المعاينة النقدية والتاريخية للفنون العربية يبدو منعدما ومغيبا داخل واقع ثقافي يتشدق بمفاهيم الحداثة وما بعدها. والحقيقة أن التحول الجمالي الكبير الذي عرفته الفنون البصرية في العديد من البلدان العربية وقدرة العديد من الفنانين على الانغماس في الحروب ونقاشات الفضاءات العمومية ومنصات التواصل الاجتماعي، يجعلان بعض هذه الأعمال رائدة وتحتاج إلى معاينات دقيقة من لدن مؤرخي الفنون من أجل القبض على ملامحها وجمالياتها.

تفصيل من لوحة "لاس مينيناس"، من أشهر أعمال الرسام الإسباني دييغو فيلاثكيث

منسي الثقافة العربية المعاصرة

تعدّ الكتابة عن الفن مسؤولية فكرية أكثر من كونها تدخل ضمن وسيط ثقافي يعرف بالإنتاج الفني. ذلك إن الناقد الفني المعاين، كتابة وتفكيرا وتأملا للأعمال الفنية والأفلام السينمائية، يعطي المؤرخين مادة خصبة لتدقيق المفاهيم والسياقات والنظريات وفق آلية علمية رصينة تمنح الفنون حياة أخرى. ثمة علاقة كبيرة بين الناقد والمؤرخ والمفكر، فالأول، وبحكم احتكاكه الحميمي بالمحترفات التشكيلية، على أساس أننا نتعلم لغة الفن من هذه الفضاءات التي لا يخبو ضوؤها، يمنح المؤرخ والمفكر مدخلا للتفكير في طبيعة المادة الفنية الموجودة والتدقيق في تاريخها وألوانها وموادها وسندها. فنحن أمام نوع آخر من المتابعة النقدية، حيث تغدو فيه اللوحة بمثابة مختبر بصري للتفكير، وقد نجح الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو في كتابه "الكلمات والأشياء" في جعل لوحة "وصيفات الشرف" للفنان الإسباني دييغو فيلاسكيز مدخلا لفهم العلاقة بين الكلمة والشيء، أيْ أن اللوحة رغم ما تذهب إليه من بعد جمالي، تبقى تهجس بأبعاد فكرية أصيلة متجذرة في التاريخ والواقع.

الجري وراء الأحداث السياسية والمعاهدات الديبلوماسية والتكتلات الاقتصادية والوقائع الاجتماعية، جعل المؤرخ العربي يبقى في منأى من التفكير في الفن وعوامله

وإذا تتبعنا المسار الإبستمولوجي الذي قطعته الكتابة التاريخية، وحدنا أن هناك نوعين من الكتابة. فالنمط الأول، كما حدده المفكر عبد الله العروي هو الذي يكتب به أحمد بن خالد الناصري صاحب كتاب "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى"(1894). وهو نمط من الكتابة التاريخية التي تقف عند حدود السرد وبلاغة الحكي، أي أنها كتابة تاريخية تعنى بمفهوم الحدث ولا تنظر إلى ما بعده فتحاول قراءته وفق آليات علمية تستشرف تأثير هذا الحدث في بنية المجتمع، بما لا يجعل الكتابة التاريخية تظل مرتبطة فقط بالماضي، بقدر ما تنزع صوب المستقبل وتحاول التفكير فيه انطلاقا من أسس تاريخية. أما النمط الثاني، فيرتبط بنموذج المؤرخ الفرنسي إفاريست ليفي بروفنسال، الذي يعد من المؤرخين والباحثين المتخصصين في شؤون الشرق. فكتاباته تتمتع بطابع حديث، يجعلها تقترب من حيث التفكير إلى مجال الفكر. وهذا النمط غائب داخل البحث التاريخي العربي، سواء من ناحية سوسيولوجيا المنهج أو من جانب اختيار الموضوعات التاريخية.

shutterstock
مركز حيدر عالييف ليلا، بتصميمه المعماري المتميز والمنحني الذي يُعدّ من أبرز معالم باكو المعمارية الحديثة

على هذا الأساس، فإن الجري لقرون طويلة وراء الأحداث السياسية والمعاهدات الديبلوماسية والتكتلات الاقتصادية والوقائع الاجتماعية، جعل المؤرخ العربي يبقى في منأى من التفكير في الفن وعوامله. فإذا استثنينا المؤرخ السوري الفذ عفيف البهنسي الذي كتب دراسات من وجهة نظر المؤرخ حول الفن العربي والفنون القديمة وجماليات العمارة. لا يكاد القارئ يعثر على كتابات حول تاريخ الفنون العربية وجمالياتها وتحولاتها. فنحن أمام وضع مرتبط ومتناقض تشهد فيه الفنون العربية انتقالا كبيرا من الوسائط البصرية وحواملها التقليدية، صوب مجال المرئي المرتبط بالطفرة التقنية، إلا أن هذا الانتقال لا يزال لم يفهم ولم يوثق بطريقة علمية. فالعديد من اللوحات تنسى وتتلاشى بمجرد موت الفنان، إما بسبب صراع الورثة وإما بفعل عدم الوعي بقيمة بعض اللوحات التشكيلية التي يسرح النسيان في جسدها بشكل تلقائي.

font change