هل تنجح القطاعات غير النفطية في تشكيل مستقبل الاقتصادات الخليجية؟

تركيز على السياحة والصناعات التحويلية والخدمات اللوجستية تدعمها الصحة والتعليم

.أ.ف.ب
.أ.ف.ب
تقلص دور القطاعات النفطية في اقتصادات دول الخليج

هل تنجح القطاعات غير النفطية في تشكيل مستقبل الاقتصادات الخليجية؟

تحاول دول الخليج الاستدلال على الطرق المناسبة لإنجاز عمليات تحول واسعة في الحياة الاقتصادية بما يؤدي الى تنويع القاعدة الاقتصادية وتعزيز دور القطاعات غير النفطية. لن تكون الأمور يسيرة على الرغم من أن دولا خليجية مثل السعودية والإمارات قطعت أشواطا في إنجاز هذه التحولات وتمكنت من ذلك إلى درجة مقبولة، لكن التحرر من الاعتماد على إيرادات النفط سيظل صعباً لزمن طويل. هناك محفزات للتنويع أهمها تراجع الإيرادات النفطية خلال السنوات المنصرمة بسبب ارتفاع إنتاج الولايات المتحدة من النفط والغاز بعد تطوير إنتاج النفط والغاز الصخري بفعل تقنيات ملائمة تتوافق مع تكاليف مناسبة.

كما أن هناك تحولات في اقتصاد الطاقة بعد التمكن من إنتاج الطاقة الشمسية بتكاليف مخفضة وتعزيز مساهمة الطاقات النظيفة البديلة لإنتاج الكهرباء، وكذلك تزايد إنتاج السيارات الكهربائية والهجينة بما يخفض الطلب على البنزين والمنتجات النفطية الأخرى. قد لا تكون هذه البدائل قادرة على منافسة النفط والغاز في الأجل القصير، ولكنها تمثل تحديات مهمة لاقتصادات النفط خلال السنوات والعقود المقبلة.

السياحة قطاع واعد في دول الخليج

السؤال الرئيس هو ما هي الأنشطة الاقتصادية المناسبة التي تمكن دول الخليج من تعزيز دورها بتكاليف ومعايير اقتصادية مجدية؟ عند التطرق للتنويع الاقتصادي أو الإصلاح الهيكلي بشكل عام، لا بد من التأكيد على أمرين أساسيين. الأمر الأول، هو مدى تمتع أي بلد خليجي بالميزات النسبية للنشاط الاقتصادي وهل يمكن أن يكون هذا النشاط قادراً على رفع مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. الأمر الثاني، هو قدرة هذا النشاط الاقتصادي على تعزيز مساهمة العمالة الوطنية في سوق العمل ورفع نسبتها. كثر الحديث عن أهمية تعزيز دور قطاع السياحة في دول الخليج، وعقدت مؤتمرات للتأكيد على أهمية القطاع وتحديد الآليات والأدوات المناسبة المحفزة لنمو أعمال القطاع ورفع مداخيله.

إن القيمة المضافة للصناعات التحويلية في دول الخليج ساهمت بنحو 204 مليارات دولار في الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022 

الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي جاسم البديوي

ويبين المركز الاحصائي الخليجي في تقرير صدر في ديسمبر/كانون الأول 2024، بأن العدد الإجمالي للسياح الدوليين الذين زاروا دول الخليج عام 2023 بلغ 68,1 مليون زائر، وبارتفاع بنسبة 42,8 في المئة عن عدد الزوار في عام 2019، أي قبل جائحة "كوفيد-19" مباشرة. أما الإيرادات أو العائدات من السياحة الدولية، فقد بلغت 110,4 مليارات دولار. يذكر التقرير بأن هناك 10,800 منشأة فندقية في دول المنطقة. لكن الزوار الدوليين توزعوا على دول الخليج بأعداد متفاوتة، تقدر في الإمارات بـ28,1 مليون، وفي السعودية 27,4 مليون، وفي البحرين 5,6 ملايين، وفي قطر 4,1 ملايين، وفي عمان 2,8 مليون، في حين لم يتعد عدد زوار الكويت 400 ألف.

Shutterstock
أكبر منطقة تجارية للشركات مركز الملك عبد الله المالي في الرياض

تعتبر أهم المؤشرات المساهمة في الناتج المحلي الإجمالي لدول الخليج والتي تشير بيانات التقرير إلى أنها تعادل 10,8 في المئة في عام 2023 على الرغم من معدل النمو المرتفع مقارنة بالعام السابق، كما أن القطاع يساهم بنسبة 14,2 في المئة في سوق العمل، لكنها غالباً عمالة وافدة.

الصناعة والقيمة المضافة للصناعات التحويلية

سيؤدي قطاع السياحة في دول الخليج دوراً ملائماً في عملية التنويع ولكنه ليس كافيا. إذ يستلزم طغيان قطاع النفط العمل على تفعيل القطاعات الحيوية الأخرى ومنها قطاع الصناعات التحويلية. أشار الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي جاسم البديوي في أكتوبر/تشرين الأول 2024، بأن القيمة المضافة للصناعات التحويلية في دول الخليج ساهمت بنحو 204 مليارات دولار في الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022 وبلغت نسبة المساهمة في الناتج المحلي الإجمالي لدول الخليج 12,5 في المئة في عام 2023. هذه بيانات مشجعة عن قطاع الصناعات التحويلية لكن لا تزال هذه الصناعات وكما هي الحال في قطاع السياحة، تعتمد بشكل كبير على العمالة الوافدة.

تتزايد أهمية الخدمات اللوجستية في دول مجلس التعاون الخليجي، وقد بلغت قيمة التعاقدات لهذه الخدمات في مختلف دول المنطقة في عام 2024 نحو 9,16 مليارات دولار ويتوقع أن تصل قيمة التعاقدات في عام 2029 إلى ما يصل إلى 12,9 مليار دولار

يمكن القول بأن السعودية تتمتع بإمكانات جيدة لنمو قطاع الصناعات التحويلية. هناك صناعة تكرير الزيوت والمنتجات الغذائية والمشروبات وصناعة الأخشاب وصناعة المنسوجات والأثاث وصناعة الورق بالإضافة إلى الصناعات الكيمائية والصيدلانية ومنتجات المطاط واللدائن. وبموجب البيانات الرسمية للهيئة العامة للإحصاء في السعودية للربع الثاني من عام 2024، فإن مساهمة الصناعات التحويلية (ما عدا تكرير الزيت) بلغت 9,7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

الخدمات اللوجستية: النقل البري والبحري والتخزين

غني عن البيان أن دول الخليج تملك إمكانات في قطاعات أخرى يمكن أن ترفع من مساهمة هذه القطاعات في النشاط الاقتصادي الشامل. تتزايد أهمية الخدمات اللوجستية في دول مجلس التعاون الخليجي، وقد بلغت قيمة التعاقدات لهذه الخدمات في مختلف دول المنطقة في عام 2024 نحو 9,16 مليارات دولار ويتوقع أن تصل قيمة التعاقدات في عام 2029 إلى ما يصل إلى 12,9 مليار دولار.

Shutterstock
ساحل مدينة أبوظبي

وتشمل الخدمات اللوجستية التجارة الالكترونية والنقل البري والبحري والتخزين. هناك تقديرات حول ارتفاع الطلب على هذه الخدمات خلال السنوات المقبلة عندما تتمكن دول المنطقة من الارتقاء بأداء اقتصاداتها وتتعزز عوامل الانفتاح على الاقتصاد العالمـــي.

تتوقع شركات متخصصة بالرعاية الصحية بأن يصل الإنفاق على الرعاية الصحية في دول المنطقة إلى 159 مليار دولار بحلول عام 2029 وأن يرتفع الإنفاق في هذا القطاع بمعدل يتراوح بين 4 إلى 8,8 في المئة سنوياً

في حديث لوزير النقل والخدمات اللوجستية السعودي صالح الجاسر نشر في "الخليج أونلاين" في أكتوبر/تشرين الأول 2024، ذكر بأن الاستراتيجية الوطنية للنقل والخدمات اللوجستية تستهدف استثمار أكثر من تريليون ريال (أو 266,3 مليار دولار) بحلول عام 2030. وأكد بأنه تم بالفعل إنفاق 200 مليار ريال أو 53,2 مليار دولار حتى الآن. تؤكد هذه البيانات المساهمة الهامة لهذا القطاع خلال السنوات المقبلة في السعودية.

الرعاية الصحية بين الالتزامات الحكومية والتأمين

القطاعات الأخرى الأساسية والتي لا بد أن تسهم في تنويع الاقتصادات الخليجية تشمل الرعاية الصحية والتعليم، لما لهما من أهمية في عملية التنمية البشرية وتحسين نوعية الحياة. تتوقع شركات متخصصة بالرعاية الصحية مثل "البن كابتال" بأن يصل الإنفاق على الرعاية الصحية في دول المنطقة إلى 159 مليار دولار بحلول عام 2029 وأن يرتفع الإنفاق في هذا القطاع بمعدل يتراوح بين 4 إلى 8,8 في المئة سنوياً. بطبيعة الحال، تظل الرعاية الصحية من الالتزامات الحكومية منذ بداية عصر النفط في دول المنطقة ولكن دور القطاع الخاص وأعمال الرعاية الصحية تعزز خلال العقود الماضية وازدادت عقود التأمين الصحي، مما فتح المجال أمام خدمات شركات التأمين. ويمكن للقطاع أن يكون من القطاعات الخدمية الناجحة في ظل المتغيرات الديمغرافية حيث ترتفع معدلات الحياة ويزداد عدد كبار السن الذين يتطلبون عناية صحية خاصة. كما أن الحكومات ترغب في خفض عدد المرضى الذين يحتاجو إلى العلاج خارج الدول الخليجية.

قصور في استراتيجيات التعليم وإهمال دور التعليم المهني

يمثل قطاع التعليم أهمية كبيرة، ولا تزال أسواق العمل في مختلف دول الخليج تفتقر للعمالة الوطنية الماهرة. ربما كان هناك قصور في صياغة استراتيجيات التعليم وإهمال دور التعليم المهني، يضاف إلى ذلك المعتقدات الاجتماعية التي تكرس العمل المريح والمكتبي وأهمية الحصول على الشهادات الجامعية. لكن اليوم، وبعد التحولات التكنولوجية المثيرة وتطور مصفوفة المهن والحرف، لا بد من إعادة النظر في فلسفة التعليم وتبني استراتيجيات تعليمية مناسبة تواكب متطلبات سوق العمل.

Shutterstock
قوارب صيد التراثية أمام ناطحات سحاب الدوحة، قطر

على الرغم من الإنفاق الكبير على التعليم في دول المنطقة والذي ناهز 30,4 مليار دولار في عام 2024، فإن المخرجات لا تزال غير مواتية وغير كافية لاحتياجات الأعمال القائمة، كما أن هناك مخرجات أصبحت فائضة وغير ضرورية. وإذا أرادت دول المنطقة أن تطور اقتصاداتها وتنوع من أنشطتها وتعزز مساهمة مختلف القطاعات، فلا بد أن تعالج مسألة التعليم والتدريب وتعزز إمكانات التنمية البشرية بما يؤدي إلى مساهمة الشباب من الذكور والإناث في صناعة الثروة من خلال العلم والمعرفة واكتشاف مجالات العمل الجديدة المتوافقة مع احتياجات دول المنطقة والتي يجب أن تكون ذات ميزات نسبية تزيد من فرص إنجاحها.

font change