مع انتهاء الولاية الأولى لحكومة تصريف الأعمال في سوريا والتي امتدت لثلاثة أشهر، تقف البلاد على أعتاب منعطف مصيري. ففي ظل رئاسة أحمد الشرع، أخذت الحكومة المؤقتة على عاتقها تنفيذ سلسلة من الخطوات الرامية إلى قيادة البلاد خلال مرحلة الانتقال السياسي، ولكن جهودها لم تسلم من النقد والتدقيق.
لقد كان متوقعا بالطبع أن تكون المرحلة الانتقالية صعبة، لكن فشل حكومة تصريف الأعمال في تحقيق تحسينات ملموسة ربما أدى إلى تجدد الاضطرابات. ويتوقف مستقبل سوريا على مدى فعالية الشرع في التعامل مع هذه الأزمات. ولعل أفضل فرصة أمامه لتوجيه البلاد نحو الاستقرار والازدهار هي في إقامة حكومة شفافة وشاملة وتشاركية- حكومة تدعم سيادة القانون وتلبي توقعات الشعب السوري.
مسار مثير للجدل نحو الانتقال السياسي
لقد لامس خطاب الشرع آمال كثير من السوريين، مجدِدا تطلعاتهم نحو مستقبل أكثر إشراقا. ومنذ توليه السلطة، دلت تصرفاته على حرص متعمد على رغبته في الالتزام بالقواعد القانونية والإجرائية– في مسعى واضح لطمأنة الرأي العام وتبديد الهواجس المتعلقة بماضيه المثير للجدل. ومن أبرز خطواته في هذا السياق لجوؤه لنيل الشرعية من القوى الثورية التي أسقطت نظام الأسد، بدلا من فرض سلطة أحادية الجانب. وفي إطار مساعيه لإرساء دعائم انتقال منظم، بادر الشرع إلى تشكيل لجنة تتولى تنظيم مؤتمر للحوار، فاتحا بذلك الباب أمام نقاش وطني موسع. كما كلف لجنة ثانية بإعداد إعلان دستوري حال الانتهاء من صياغته، ليكون الأساس القانوني لهيئة تشريعية جديدة وحكومة انتقالية.
الانتقادات الموجهة إلى تركيبة حكومة تصريف الأعمال وأدائها باتت أكثر انتشارا وحدّة. ويأتي في صدارة هذه الانتقادات هيمنة شخصيات مرتبطة بـ"هيئة تحرير الشام" على مفاصل الحكومة
غير أن سرعة هذه المبادرات وطريقة تنفيذها والنتائج التي صدرت عنها أثارت ردود فعل متباينة. فالبعض يراها إنجازات تاريخية، بحجة أن التحرك السريع كان ضروريا للحفاظ على الاستقرار المؤسسي. ومع ذلك، يرى آخرون أن العملية كانت متسرعة وسطحية وتهدف إلى ترسيخ سلطة الشرع أكثر من تعزيز التحول السياسي الهادف. وكان مؤتمر الحوار الوطني، تحديدا، محط انتقادات حادة جراء استعجال انعقاده، ما أثار الشك في أن العملية أعطت الأولوية للمظاهر على حساب الجوهر.
من جانبه أثار الإعلان الدستوري القلق لدى فئات من السوريين، لأنه يمنح الرئيس سلطات واسعة النطاق دون آليات واضحة للمساءلة أو لقاعدة الضوابط والتوازنات بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. وإلى جانب هذه القضايا المتعلقة بالحوكمة، يجادل المنتقدون بأن الوثيقة لا تعكس واقع المشهد الاجتماعي والسياسي المتنوع في سوريا. ولكن مؤيدي الشرع في المقابل يدافعون عن الصلاحيات الرئاسية الواسعة باعتبارها ضرورية لضمان انتقال منظم وفعال. وبينما يصعب قياس المستوى الدقيق للدعم أو المعارضة لتحركات الشرع السياسية، فإن من الواضح أن جهوده لم تعزز الوحدة التي كان يأملها الكثيرون.
حُكم متوتر
وتتخطى الانتقادات مسألة تشكيلة الحكومة لتطال أداءها الضعيف. فبالنسبة لكثير من السوريين– ولا سيما في المناطق التي كانت خاضعة سابقا لسيطرة النظام– لا تكمن الأولوية في التمثيل السياسي، بل في فشل الحكومة في تقديم الخدمات الأساسية. وتشير شهادات من مختلف أنحاء البلاد إلى أن خدمات حيوية، كالماء والكهرباء، قد شهدت مزيدا من التدهور مقارنة بسنوات حكم الأسد الأخيرة، بدل أن تتحسن.
أسهمت التحسينات الأولية– إلى جانب ارتفاع مؤقت في قيمة الليرة السورية مقابل الدولار– في تعزيز القدرة الشرائية، وبثت قدرا من التفاؤل الاقتصادي المشوب بالحذر
وإن كانت قلة الموارد واستمرار العقوبات وغياب الدعم الدولي قد حدت من قدرة الحكومة على التصدي لهذه التحديات، فإن مشاعر الإحباط الشعبي تفاقمت بسبب الوعود التي لم يوفَ بها. وكانت السلطات قد تعهدت بتحسينات كبيرة، بما في ذلك زيادة الرواتب بنسبة 400 في المئة وإيجاد حل سريع لمشكلة نقص الكهرباء، لكن هذه التوقعات الكبيرة لم تتحقق، مما زاد من خيبة الأمل العامة.
وتأتي على قمة هرم الاستياء أيضا مشكلة الفصل الجماعي التي طالت عشرات الآلاف من موظفي القطاع العام. وفي حين أن بعض حالات الفصل قد يكون لها ما يبررها– بحجة الفساد والتغيب عن العمل وتضخم الكادر الإداري في المؤسسات– فإن حجم هذه المشكلة والسرعة التي تحدث بها قد تركا الكثيرين دون عمل بديل أو مساعدة مالية. ومن ناحية ثانية، تسببت إعادة هيكلة المؤسسات الحكومية في تعليق الخدمات البيروقراطية الأساسية، مما زاد من تعقيد الحياة اليومية. وفي حين أن حكومة تصريف الأعمال أعادت مؤخرا بعض الموظفين المفصولين من وظائفهم وأعادت تفعيل بعض مؤسسات الدولة، فإن هذه الإجراءات لا تزال قاصرة عن معالجة هموم المواطنين بصورة فاعلة وشاملة.
مكاسب أولية بددتها الاضطرابات المالية
في أعقاب الإطاحة بالأسد مباشرة، حققت حكومة تصريف الأعمال إنجازات اقتصادية متواضعة، لا سيما في مجالي التجارة وتوفير الوقود. فقد سارعت السلطات إلى رفع الكثير من القيود المفروضة على الاستيراد وخفض الرسوم الجمركية، مما أدى إلى تدفق كميات أكبر من السلع الأجنبية بأسعار أكثر تيسيرا. كما شهدت أزمة نقص الوقود التي عانت منها البلاد لسنوات انفراجا نسبيا، مع تحسن في توفر مادتي الغاز والمازوت. وعلى الرغم من أن أسعار الوقود بقيت أعلى من معدلاتها السابقة المدعومة، فإنها ظلت أدنى بكثير من أسعار السوق السوداء التي لطالما كانت المصدر الرئيس للتزود بالوقود.
وقد أسهمت هذه التحسينات الأولية– إلى جانب ارتفاع مؤقت في قيمة الليرة السورية مقابل الدولار– في تعزيز القدرة الشرائية، وبثت قدرا من التفاؤل الاقتصادي المشوب بالحذر.
على أن هذه المكاسب سرعان ما تبددت، وكانت إحدى المشاكل الرئيسة هي فشل الحكومة في تحقيق الاستقرار في سعر صرف الليرة، مما أدى إلى تقلبات شديدة– أكثر من 30 في المئة خلال أيام. وقد أدى تقلب العملة إلى اضطراب الأسواق، وخلق حالة من عدم اليقين على نطاق واسع.
بعد مرور مائة يوم على سقوط نظام الأسد، لا تزال سوريا على مفترق طرق. ويضطلع الشرع بدور محوري في توجيه البلاد نحو الاستقرار والازدهار
ويقع في قلب الأزمة نقص حاد في السيولة بالليرة السورية، تفاقم بسبب السياسات التقييدية التي فرضها البنك المركزي. وتنطبق هذه القيود أيضا على الشركات والمنظمات الخيرية، مما أعاق عملياتها بشدة. وبالإضافة إلى تأخر دفع الرواتب والتسريح الجماعي للعمال، أجبرت هذه الإجراءات كثيرا من السوريين على الاعتماد على المدخرات أو الوقوع في دوامة الديون.
وفي حين لعبت العوامل الخارجية مثل العقوبات الدولية والانهيار المالي الموروث من نظام الأسد دورا كبيرا، فإن الكثير من السوريين لا يعفون حكومة تصريف الأعمال من المسؤولية، ويلقون باللوم عليها لفشلها في إدارة الأزمة بشكل فعال.
تصاعد العنف وعدم الاستقرار
ولم يكن حال الأمن أفضل من حال الاقتصاد، فقد أظهر الوضع الأمني في سوريا في البداية درجة من الاستقرار، لكنه تدهور بشكل ملحوظ منذ ذلك الحين. في البداية، كان الانضباط في صفوف الجيش وقوات الأمن عاملا أساسيا في منع حدوث اضطرابات واسعة النطاق. لكن الهجمات ضد قوات حكومة تصريف الأعمال تصاعدت. وظهرت تقارير في المقابل تشير إلى حوادث عنف انتقامية وانتهاكات لحقوق الإنسان، ناهيك عن ارتفاع ملحوظ في الأنشطة الإجرامية، بما في ذلك عمليات الخطف والسرقة.
وتأتي هذه الصعوبات نتاجا لأسباب متعددة، بما في ذلك تفكيك الهياكل الأمنية التابعة للنظام السابق بالجملة، وعجز حكومة تصريف الأعمال عن بسط نفوذها على المناطق التي كانت خاضعة لسلطة الأسد في السابق، والضغوط المتزايدة من المصاعب الاقتصادية. ويزيد من تفاقم الوضع غياب أي مساءلة ذات مغزى لمسؤولي النظام السابق، مع تأخير البدء في أي عملية عدالة انتقالية، مما يقوض سيادة القانون والسعي الأوسع نطاقا لتحقيق الاستقرار.
ويمثل التصعيد الأخير في اللاذقية- حيث أسفرت الهجمات المنسقة عن مقتل أكثر من 13 عنصر أمن- أخطر التحديات الأمنية التي واجهتها السلطات الجديدة. وعلى الرغم من أن الحكومة سحقت التمرد العسكري بسرعة، فإن المخاوف لا تزال قائمة بشأن قدرتها على معالجة انتهاكات حقوق الإنسان ومنع المزيد من الاضطرابات.
وبعد مرور مائة يوم على سقوط نظام الأسد، لا تزال سوريا على مفترق طرق. ويضطلع الشرع بدور محوري في توجيه البلاد نحو الاستقرار والازدهار، لكن قدرته على القيام بذلك تتوقف على الوفاء بوعوده بطريقة شاملة وتشاركية. وإذا لم تتحقق هذه الوعود فإن الانقسامات ستتعمق والتوترات ستتصاعد، وقد تواجه سوريا مرة أخرى اضطرابات عنيفة.
ومع ذلك، يجب أن يكون واضحا أنه لا الشرع ولا أي زعيم يستطيع بمفرده تحقيق ذلك كله. فالدعم الإقليمي والدولي سيكون حاسما في إعطاء سوريا فرصة عادلة للتغلب على أزماتها المتشابكة. وسيكون رفع العقوبات وتقديم المساعدات غير الإنسانية ضروريا لإعادة إعمار سوريا.
وباختصار، إن مستقبل سوريا في الميزان، والخيارات التي يجري اتخاذها الآن لن تحدد مسار سوريا فحسب، بل ستحدد أيضا استقرار المنطقة الأوسع.