لبنان... صواريخ وكأنها إطلاق للنار على القدمين

عجز عن إخراج لبنان من مأزقه

أ.ف.ب
أ.ف.ب
الأضرار التي لحقت بمبنى إثر غارة إسرائيلية استهدفت حيا سكنيا في مدينة صور جنوب لبنان في 22 مارس 2025

لبنان... صواريخ وكأنها إطلاق للنار على القدمين

لم تكن عملية إطلاق الصواريخ من جنوب لبنان على مستوطنة المطلة يوم السبت الماضي مستغربة، لكن في الوقت نفسه من الصعب جدا الإحاطة بكل دوافعها ومدلولاتها بالنظر إلى الحسابات المعقدة لكل الأطراف المعنية، خصوصا أنه لم يعد من الممكن تفسير أي حدث محلي بمعزل عن التطورات الإقليمية. هذا مع العلم أن عملية إطلاق الصواريخ تلك لا يمكن اعتبارها حدثا محليا، أو أن أحد الأسئلة المطروحة هي نسب الدوافع الداخلية والإقليمية فيها، أي ماذا أراد "حزب الله" منها وما هي حسابات طهران إزاءها؟

بداية يفترض التوقف عند الطابع الأمني للعملية، أي إنها عملية أمنية أكثر منها عسكرية، وهو ما يجعل تخمين الجهة التي تقف وراءها أقرب إلى تفكيك لغز، تماما كما سائر العمليات الأمنية في لبنان بما فيها الاغتيالات السياسية. بالتالي أمام هذا النوع من العمليات يصبح نفي "حزب الله" إطلاقه الصواريخ جزءا من العملية الأمنية ولا يمكن اعتباره البتة حسما لمسألة وقوف الحزب وراء العملية من عدمه.

كذلك فإن الكلام الذي صدر عن مسؤولين لبنانيين بأن جهات تريد جرّ لبنان إلى الحرب تقف وراء إطلاق الصواريخ هو بأقل تقدير غير دقيق أو أنه أشبه باللغة الدبلوماسية التي تخفي أكثر مما تكشف، فيعدو ما تخفيه أهم مما تبينه. والمهم هنا هو أن افتراض أن إسرائيل تتحين الفرصة لشن عدوان جديد على لبنان هو افتراض لا يستند إلى حجة قوية، بل على العكس تماما، حيث إن ميل إسرائيل إلى استمرار الستاتيكو الحالي أعلى بكثير من ميلها إلى تجديد الحرب مع "حزب الله".

وهذا ما يزيد من دوافع اعتبار أن "حزب الله" هو من يقف فعلا وراء هذه العملية، أي إن الحزب يقدّر جيدا أن إسرائيل ليست في وارد شن حرب جديدة ضده لمجرد إطلاق خمسة صواريخ بدائية ضدها، بل إن طريقة إطلاق هذه الصواريخ وعدم تبني أي جهة إطلاقها وبالأخص نفي الحزب الوقوف وراءها، يبعث برسالة لإسرائيل بأن "حزب الله" لا يريد تجديد الحرب بالرغم من الخروقات الإسرائيلية المتواصلة لاتفاق وقف إطلاق النار، وبالرغم من مواصلة إسرائيل استهداف كوادره، في ظل الكلام عن سعي إسرائيلي لتصفية كوادر الصف الثالث في الحزب بعد تصفية الصفين الأول والثاني.

"حزب الله" يدير حسابات دقيقة جدا لا تتصل به وحسب بل بإيران أيضا التي لا يمكن الفصل بينها وبينه في قراءة مجمل حركته ومواقفه بما في ذلك إطلاق الصواريخ يوم السبت الفائت

وهو ما يدفع إلى السؤال عن مدى قدرة "حزب الله" على التأقلم أو القبول بهذا الستاتيكو القاتل بالنسبة إليه والذي يستنزف قواه البشرية ويزيد في إضعاف صورته وتأكيد حجم الانتكاسة التي حلت به والتي تتزايد الأسباب التي تدفع إلى الاقتناع بعدم قدرته على التعافي منها، أقله في مدى قريب أو متوسط، رغم كل الحديث عن إعادة تركيب هيكليته العسكرية والسياسية، وعن إعادة بناء بعض قوته العسكرية. فكل ذلك تدحضه الوقائع وآخرها عملية إطلاق الصواريخ وكيفية تعامل "حزب الله" معها وما تبعها من رد إسرائيلي استهدف ما قيل إنه غرفة عمليات للحزب في مدينة صور، وهو ما يزيد في تأكيد حجم الاختراقات في صفوفه ومدى صعوبة معالجتها بالنسبة إليه.

صحيح أن هزيمة "حزب الله" العسكرية أمام إسرائيل لم تؤد إلى هزيمة سياسية له في الداخل اللبناني، وإن كان نفوذه داخل تركيبة الحكم قد تقلص أو تراجع، لكن واقع الحال أن الحزب بطريقة مباشرة أو عن طريق الرئيس نبيه بري موجود في المعادلة السياسية وبحدود لا تقل عن القوى الأخرى. بل إن رئيسي الجمهورية والحكومة وبالرغم من مواقفهما السياسية عالية السقف فيما يخص سلاح الحزب وضرورة احتكار الدولة لـ"العنف الشرعي" فإن ممارستهما للحكم ليست ضد الحزب أو ما يسمى "الثنائي الشيعي" بل على العكس تماما فإن التعيينات الإدارية والأمنية الأخيرة أظهرت أن إرادة هذا الثنائي لم تكسر داخل الدولة. وهو ما يحيل إلى وضع فرضية مفادها أن الحكم الجديد يتحرك بين حدين: الدعم الخارجي وبالأخص الأميركي، ومحاولة إرضاء "حزب الله" لكي لا ينقلب كليا عليه، هذا بالرغم من كل تعبيرات بيئته ضد الرئيسين عون وسلام وحتى ضد الجيش اللبناني، وهو ما يكشف حقيقة المناخ السياسي في تلك البيئة المرضوضة.

أ.ف.ب
من اليمين، الرئيس اللبناني جوزيف عون، متوسطا رئيسي مجلس النواب نبيه بري، والحكومة نواف سلام، في القصر الرئاسي، 14 يناير 2025

لكن واقعيا فإن "حزب الله" يدير حسابات سياسية دقيقة جدا، وهي حسابات لا تتصل به وحسب بل بإيران أيضا التي لا يمكن الفصل بينها وبينه في قراءة مجمل حركته ومواقفه بما في ذلك عملية إطلاق الصواريخ يوم السبت الفائت. النقطة الرئيسة التي يجدر التوقف عندها هنا هي أن قبول الحزب بالمعادلة السياسية الجديدة في لبنان ليس بدافع الإقرار بالخسارة والاضطرار لقبول نتائج الحرب والتأقلم مع الواقع الجديد. بل إن "حزب الله" ومن ورائه إيران يتعاملون مع معادلة الحكم الجديدة على قاعدة الاشتباك/التقاطع مع الأميركيين، وخصوصا أن استراتيجية الرئيس دونالد ترمب للتعامل مع المنطقة ولاسيما مع إيران لم تتضح تماما بعد لكن ما بدا منها حتى الآن ينطوي على احتمال الوصول إلى اتفاق مع إيران بشأن برنامجها النووي وبرنامجها الصاروخي، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية الإيرانية عباس عراقجي بقوله إن رسالة ترمب للمرشد علي خامنئي تزعم تقديم فرص لكنها أقرب إلى التهديد، أي إنها ليست تهديدا وحسب بل تنطوي على فرص أيضا.

"حزب الله" يقيم الآن في موقع الترقب والانتظار مع احتفاظه بردود فعل "موضعية" ومدروسة قدر الإمكان، مع الأخذ في الحسبان احتمال أن تكون الحرب قد خلقت انقسامات داخله

وبالتالي فإن ثمة فارقا بين ما يقوله الحزب لجمهوره أو يتركه يقتنع به كما لو كان الواقع، وبين إدارته لحركته السياسية التي تبحث عن تقاطعات للمرحلة المقبلة بما في ذلك مع الأميركيين- وإن لم تكن بطريقة مباشرة، أي عبر نبيه بري، لكنها في النهاية تعني الحزب مباشرة- خصوصا في ظل المناورات الجارية بين إيران وأميركا، والتي لا يعرف بعد إلى ماذا ستنتهي، هل إلى اتفاق أم إلى ضربة عسكرية داخل إيران.

وربما يعطي الاجتماع الإسرائيلي الأميركي حول إيران هذا الأسبوع إشارات أكثر في هذا الاتجاه أو ذاك، مع الأخذ في الحسبان أن إسرائيل التي أضعفت أذرع إيران الإقليمية قد ترى أن الفرصة سانحة لتوجيه ضربة عسكرية لها. لكن ذلك قد يؤدي إلى اندلاع حرب لا يريدها ترمب. وفي الوقت نفسه فإن الرئيس الأميركي لا يستطيع الدفع باتجاه تثمير نتائج الحرب الأخيرة في المنطقة وبناء تحالفات إقليمية جديدة إن لم يجد حلا لـ"مشكلة إيران".

رويترز
تصاعد الدخان من جبل الريحان، في أعقاب الضربات الإسرائيلية رداً على إطلاق الصواريخ عبر الحدود، كما شوهد من مرجعيون، في جنوب لبنان، 22 مارس 2025

وفي ظل تعقيدات المشهد الإقليمي فإن "حزب الله" يقيم الآن في موقع الترقب والانتظار مع احتفاظه بردود فعل موضعية ومدروسة قدر الإمكان، مع الأخذ في الاعتبار احتمال أن تكون الحرب قد خلقت انقسامات داخله. لكن في مطلق الأحوال فإن الحزب مضطر إلى أن يقيم حسابات دقيقة لكل خطوة يقوم بها، سواء في الداخل اللبناني أو على الحدود مع إسرائيل، وهو في الوقت نفسه لا يستطيع تحمل اغتيال المزيد من كوادره ولذلك عليه أن يخرج من دائرة الاستنزاف التي تحاصره. لكن كيف؟ فعملية استعراض سريعة للسيناريوهات التي قد يعتمدها أو ينتظرها تدفع إلى الاستنتاج أنه يراهن على متغيرات إقليمية يفرضها الاتفاق المحتمل بين إيران وإدارة ترمب.

ما يتبين من إعادة تركيب للمشهد الإقليمي بما في ذلك لبنان، أن خيار التصعيد بالنسبة لإيران وأذرعها أضحى خيارا انتحاريا أقله في المدى المنظور

هذا الأمر سينعكس حكما على وضعية "حزب الله" في لبنان لجهة إمكان التوصل إلى تفاهمات تحت الطاولة- بالتوازي مع العروض الأميركية لإجراء مفاوضات بين لبنان وإسرائيل- تكف يد الجيش الإسرائيلي عن مهاجمة مواقع الحزب وكوادره، مقابل أن يباشر في عملية تحوّل داخلية بدءا بتسليم سلاحه إلى الجيش اللبناني، وهو ما يقال إنه باشر به بعيدا عن الإعلام. لكن بغض النظر عن صحة ذلك من عدمه، فإن الحزب لا يستطيع الاستمرار في الستاتيكو الحالي، فحتى إعادة الإعمار غير ممكنة حتى الآن ويبدو أنها لن تشهد انفراجات قريبة. وهو ما قد يثير مع الوقت بلبلة داخل بيئة الحزب التي لا تزال متضامنة معه حتى الآن، وهو ما يطمئنه مرحليا، لكنه حكما مضطر إلى البحث عن حلول والخروج من الواقع الحالي بأي طريقة من الطرق، وطبعا ليس عبر إطلاق صواريخ بدائية على المستعمرات الإسرائيلية كما حصل السبت الماضي.

لكن مع ذلك فإن إطلاق هذه الصواريخ يؤشر إلى الديناميتين الرئيستين اللتين تحركان "حزب الله" الآن، الدينامية الأولى هي باتجاه الداخل اللبناني، إذ إن إطلاق هذه الصواريخ يعطي إشارة ولو خطرة إلى أن الحزب مستعد للمغامرة مجددا إذا استمر الستاتيكو الراهن. وبالتالي فإن هذه "العملية الأمنية" هي بمثابة ضغط على الدولة اللبنانية التي يلوذ بها "حزب الله" راهنا ويحملها مسؤولية إخراج الجيش الإسرائيلي من كامل الأراضي اللبنانية وإعادة الإعمار. والدينامية الثانية متصلة بالاستراتيجية الإيرانية ولذلك لم يكن قليل الدلالة أن يتزامن إطلاق هذه الصواريخ مع كلام خامنئي عن استقلالية وكلاء إيران ومع دعوة أبي عبيدة إلى استئناف جبهات إسناد غزة، ومع قصف الحوثيين لإسرائيل. فهذا التزامن يَفترض وجود رابط بين كل هذه التحركات، ويفترض أيضا وجود رابط بينها وبين الاستراتيجية الإيرانية التي تمر بمرحلة حساسة ومفصلية راهنا في ظل "عروض" ترمب. لكن ما يتبين من إعادة تركيب للمشهد الإقليمي بما في ذلك لبنان، أن خيار التصعيد بالنسبة لإيران وأذرعها أضحى خيارا انتحاريا أقله في المدى المنظور، وبالتالي قد يكون الخلاص بقبول هذه "العروض". وأيا يكن من أمر، هل يمكن التفكير بتبني "حزب الله" لاستراتيجية تصعيد جديدة؟ وبأي أثمان؟ وبأي نتائج؟ لذلك فإن الحزب قابع حاليا في المأزق، وهو مأزق ينسحب على لبنان كله من دون آفاق واضحة لكيفية الخروج منه، والأكيد أن هذه المهمة صعبة وتتجاوز قدرات الرئيسين عون وسلام مهما حسنت نواياهما.

font change