إيران واليمن... علاقات معقدة وتاريخ من الخداع

لا رهان على إمكان أن تضع إيران حدا لتدخلاتها في اليمن

رويترز
رويترز
متظاهرون يشاركون في مظاهرة تضامنًا مع الفلسطينيين في قطاع غزة، في صنعاء، اليمن في17 مارس

إيران واليمن... علاقات معقدة وتاريخ من الخداع

أطلقت التدخلات الإيرانية، خلال العقود الأخيرة، في عددٍ من البلدان العربية من بينها اليمن، أسئلة كبرى، وأثارت اهتمامات واسعة النطاق، كما استدعت محاولات بحثية عدة لفهم أسباب وغايات تلك التدخلات حول ما إذا كانت حجة ذلك دينية مذهبية أم سياسية اقتصادية واستراتيجية.

لكن البحث الجاد في كل ذلك جاء متأخرا، أي بعد أن فجرت تلك التدخلات حروبا مدمرة وأزمات نزوح وتشريد خطيرة داخل وخارج أكثر من بلدٍ امتدت إليه يد إيران.

ربما عرف الإيرانيون الأمة العربية، لغة وثقافة أكثر مما عرفه العرب عن إيران، تأريخا وعقيدة وأدبا وسياسة، ولعل العلاقة بين اليمن وإيران واحدة من أسوأ حالات الإخفاق في فهم اليمنيين وغالبية العرب لإيران من الداخل.

ليس هذا في العصر الحديث فحسب ولكن منذ ما قبل الإسلام، عندما أخرج كسرى فارس آلافا من السجناء المغضوب عليهم، ودفع بهم إلى اليمن لمساعدة الثائر "سيف بن ذي يزن" على طرد الاحتلال الحبشي لبلاده، ليتحول الفرس بعد ذلك إلى "محتل" جديد أكثر سوءا من الأحباش لا يزال يسربل بآثاره إلى اليوم.

عهد الشاه

خلال حكم إمبراطور إيران الراحل، محمد رضا بهلوي، لم تسع إيران "شرطي المنطقة" الحليف للولايات المتحدة الأميركية آنذاك، إلى استقطاب اليمن رغم محاولة صنعاء التقرب إلى طهران للتعاون في ملفات مختلفة من بينها التعاون في حماية أمن البحرين، العربي والأحمر.

تعاطف اليمنيون كغيرهم في المنطقة مع قيام الثورة و"الجمهورية الإسلامية الإيرانية" لكنهم بعد ذلك سرعان ما توجسوا، كغيرهم أيضا، خيفة من خطابها الذي شرعت في تصديره إلى مختلف البلدان العربية ذات الغالبية السنية

واقتصر التعاون بين البلدين حينذاك على تقديم إيران بعض المنح الدراسية في جامعاتها، وعددا من الدورات التدريبية الإعلامية عند تأسيس التلفزيون اليمني منتصف سبعينات القرن الماضي.

نأيُ الشاه بنفسه عن اليمن، قد يكون نتيجة اعتقاده بأن هذا البلد في المنظور الأمني الاستراتيجي للحليف الأميركي ينبغي أن يظل دائرا في "الفلك السعودي" الحليف الوثيق هو الآخر لواشنطن.

الحرب العراقية الإيرانية

تعاطف اليمنيون كغيرهم في المنطقة مع قيام الثورة و"الجمهورية الإسلامية الإيرانية" لكنهم بعد ذلك سرعان ما توجسوا، كغيرهم أيضا، خيفة من خطابها الذي شرعت في تصديره إلى مختلف البلدان العربية ذات الغالبية السنية، محملا بتصورها "المذهبي والسياسي" الخاص للإسلام.

وعندما اندلعت الحرب بين إيران وعراق صدام حسين، دفع اليمن بوحدةٍ "خاصة" من قواته إلى العراق للمشاركة في "الدفاع عن البوابة الشرقية للأمة العربية".

أ.ف.ب
أعمدة دخان تتصاعد عقب قصف على العاصمة اليمنية صنعاء، التي يسيطر عليها الحوثيون، في 19 مارس

ورغم رمزية هذه الخطوة فإن إيران أخذتها على محمل الجد، أكثر مما ينبغي، لكن نقطة التحول الأخطر في العلاقة بين صنعاء وطهران كانت عقب ما تردد عن قيام الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح مع نظيره العراقي صدام حسين بزيارة لإحدى المناطق التابعة لقضاء "قصر شيرين" شمال غربي إيران، وذلك بعد أيامٍ فقط من دخول الجيش العراقي إليها أواخر شهر سبتمبر/أيلول 1980, حيث استدعت طهران السفير اليمني لديها، وأبلغته استياءها الشديد من أداء الرئيس صالح مع صدام صلاة الجمعة في "أرضٍ محتلة" كما قالت.

صالح في طهران

في محاولة لرأب الصدع العميق الذي ضرب علاقات بلاده بإيران عقب تحالفه مع العراق خلال حرب الأخير مع إيران، ذهب الرئيس اليمني الراحل على عبدالله صالح إلى طهران في  17 أبريل/نيسان 2000 للقاء المرشد الإيراني علي خامنئي، ورئيس الجمهورية محمد خاتمي، وما فهمته منه أنا وغيري بعد عودته أن "النفوس طابت" وأن "ما بيننا وبين إخوتنا الإيرانيين عاد إلى طبيعته" كما قال، ولكن هذا التقييم لنتائج زيارته لم يكن في الحقيقة صحيحا تماما، كما اتضح لاحقا.

زيارة خاتمي لصنعاء

خلال عشر دقائق من حديث غير مسجل مع محمد خاتمي الرئيس الإيراني الأسبق عند زيارته لصنعاء في 15 مايو/أيار 2003، تحدث الرجل بلغة عربية، تشبه بلاغة الأدباء العرب الكبار، مشيرا إلى عمق المكون الفارسي "الضارب" بجذوره، كما قال، في تاريخ اليمن وعُمان والإمارات والبحرين وعموم المنطقة، مما لا يمكن لأحد إنكاره، في رأيه.

استعان خاتمي لإيصال فكرته بذكر أسماء ومعطيات وأحداث، توقن عند سماعها بصعوبة الالتفاف عليها أو تجاوزها دون سِلم تاريخي شجاع بين إيران والعرب، لكن ما حدث بعد هذا أن نوايا إيران تجاه اليمن ليست السلام، وأن المصافحة بين قادة البلدين لم تكن بالضرورة مصالحة.

بدايات التدخل

في هذا المناخ من الود السياسي "المصطنع" بدأت إيران تسعى لاستكشاف "مربعات الملعب اليمني" عبر عدد من الأعمال والأنشطة الخيرية، امتدت بعدها يد طهران من وراء ظهر الرئيس اليمني الراحل للأخذ بيد جماعة "الحوثيين" إلى عالمها والعمل بهدوء ودهاء على جعلهم نسخة جديدة من "حزب الله" اللبناني وذلك في محافظة صعدة شمالي اليمن.

استبشر كثيرون خيرا في أن يخلق الاتفاق الموقّع بين السعودية وإيران في بكين في العاشر من مارس 2023، فرصة لإحلال السلام في اليمن والمنطقة

في البدء تمت دعوة الكثير من أبناء صعدة وغيرهم من أتباع "المذهب الزيدي" لزيارة إيران ثم الضاحية الجنوبية لبيروت.

جرت بعد ذلك تهيئة الأرض في صعدة لتحويل الحوثيين من جماعة مذهبية إلى تنظيمٍ مسلح، حيث تم سرا تهريب شحنات من السلاح الخفيف والمتوسط، وكذلك ضخ مبالغ مالية إلى جيوب الحوثيين لشراء المزيد من السلاح من السوق المحلية في صعدة التي تشتهر بتجارته.

وسرعان ما انخرط "تنظيم الحوثيين" في ستٍ من الحروب مع نظام حكم صالح، بدأت أولاها لأسباب كان يمكن معالجتها اجتماعيا ومن خلال الحوار وليس أمنيا على ذلك النحو الذي تم، لكن هذه الحرب انتهت بمقتل مؤسس الجماعة، حسين بدرالدين الحوثي، لعام 2004 واعتقال عدد من القيادات الشابة للحركة، لتضاعف من التوتر في محافظة صعدة.

ثم بعد ذلك توالى اندلاع حروب أخرى خرجت الجماعة بعد كل واحدة منها أقوى من ذي قبل، حيث تولى الأخ الأصغر لمؤسسها، عبد الملك الحوثي قيادة تلك الحروب، فيما طلب الأخ الثالث يحيى بدر الدين الحوثي، اللجوء السياسي في ألمانيا، ليشكل بذلك حلقة وصلٍ واتصالٍ بين إيران وجماعته في صعدة، وأفاد من وجوده في أوروبا للظهور في بعض وسائل الإعلام العربية والدولية، متحدثا عن "مظلومية" جماعته المتمردة.

أ.ف.ب
طائرة مقاتلة هجومية من طراز "اف / ايه 18" تقلع من حاملة الطائرات الأميركية م"يو إس إس هاري إس ترومان"، في البحر في 16 مارس 2025.

بعد عام من الانتفاضة التي أطاحت بنظام صالح 2012 حجت إلى معقل الحركة في صعدة وفود رسمية ووسطاء محليون في محاولة لإقناع الجماعة بالمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني الذي انعقد برعاية الأمم المتحدة، وأقر بـ"مظلومية صعدة" وتم تسليم جثمان مؤسس الجماعة لذويه في 5 يونيو/حزيران 2013 حيث تم تشييع جنازته بمشاركة كثير من أتباعه، كما شُيد له ضريح كبير يشبه مراقد أئمة الشيعة في إيران.

الانقلاب على الحوار

سرعان ما تحركت جماعة الحوثيين للالتفاف على الإجماع الوطني والاستيلاء على العاصمة صنعاء، ما أدى بعد أشهر إلى اندلاع الحرب عليهم في أواخر مارس/آذار 2015 لإعادة الشرعية اليمنية، وهو ما لم يتحقق إلى الآن بفعل تدخلات إيران.

جهود أممية وإقليمية

وفي كل مرةٍ ذهب فيها مبعوثو الأمم المتحدة إلى اليمن للقاء القادة الإيرانيين في طهران أملا في مساعدتها لحث الحوثيين على الاستجابة لدعوات الحوار والحل السياسي للصراع في اليمن، يكون جواب الإيرانيين على أولئك المبعوثين: "إذا كنتم تعتقدون أن قرار أنصار الله بأيدينا فقد طرقتم الباب الخطأ"!

استبشر كثيرون خيرا في أن يخلق الاتفاق الموقّع بين السعودية وإيران في بكين في العاشر من مارس 2023، فرصة لإحلال السلام في اليمن والمنطقة.

يمكن الجزم بأن اليمن حاول مرارا وتكرارا وضع بوصلة علاقاته مع إيران في الاتجاه الصحيح، على أساسٍ من الندية والاحترام المتبادل إلا أن طهران لا تلبث في كل مرة أن تستدير على أي اتفاق أو نوايا صادقة لليمن

من جانبها، استقبلت الرياض في سبتمبر/أيلول 2023 وفدا من الحوثيين التقى وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان الذي أكد خلال اللقاء مع وفد الجماعة أن "السعودية حريصة على التوصل إلى حل سياسي شامل ودائم في اليمن".

للغرض ذاته، ارسلت السعودية سفيرها لدى اليمن محمد آل جابر للقاء القادة الحوثيين في صنعاء، وبعد زيارةٍ امتدت عدة أيام لم يتغير موقف الحوثيين سوى بهدنة هشة مرشحة للانهيار، حيث اتضح أن طهران من جانبها لم تطلب من الحوثيين الانتقال من الهدنة إلى الحل السياسي.

الآن.. ماذا بعد؟

لا رهان البتة على إمكان أن تضع إيران حدا لتدخلاتها في اليمن، خصوصا بعد كل ما حدث في المنطقة من متغيرات تكسرت معها أذرعها في سوريا ولبنان، بل هي أحوج ما تكون إلى ذراعها المتبقية في اليمن، وهي الذراع التي أصبح من الصعب كسرها من الداخل عسكريا أو من الخارج على غرار ما جرى في سوريا وجنوب لبنان.

أ.ف.ب
مقاتلون حوثيون يتفقدون الأضرار بعد غارة جوية أميركية في صنعاء، اليمن 20 مارس

لن تتوقف إيران عن تدخلاتها في اليمن، سيما بعد مجيء رئيس أميركي جديد إلى البيت الأبيض يرى في برنامج إيران النووي تهديدا للأمن والسلم العالميين، وليس لدى طهران أحد جاهز ومستعد للمغامرة في مشاغلته واستفزازه سوى ذراعها الأخيرة في اليمن، البلد الذي يوشك أن يقع مجددا ضحية للخداع والمراوغة بين طهران وواشنطن.

ويمكن الجزم بأن اليمن حاول مرارا وتكرارا وضع بوصلة علاقاته مع إيران في الاتجاه الصحيح، على أساسٍ من الندية والاحترام المتبادل إلا أن طهران لا تلبث في كل مرة أن تستدير على أي اتفاق أو نوايا صادقة لليمن، فعين إيران في الأساس ظلت، خلال العقود الأخيرة، على صنعاء كـ"عاصمة رابعة" موالية لها، وعلى موقع اليمن، لتكمل كماشتها على شبه الجزيرة والخليج، ويكون مركزا للتحكم في أمن أهم بحار المنطقة، العربي والأحمر.

font change