عودة إلى الجاحظ

التنظير للأدب عند الجاحظ لم يكن مستقلا عن الأدب

عودة إلى الجاحظ

ليس لمتأمل في النثر العربي، قديمه وحديثه، إلا أن يتنبه للمكانة المرموقة والفريدة للجاحظ في تاريخ هذا النثر. ومن أطرف ما يراه الناظر في أدب الجاحظ اقتران التأسيس بالتنوع، واقتران التكثيف بالتشعب، واقتران الإيجاز والتركيز بالتفصيل والاستطراد. ولعلنا نستطيع في هذه المقالة أن نشير إلى بعض الظواهر أو القضايا أو المفارقات، التي تجلت في مؤلفات الجاحظ، وظلت إلى أيامنا هذه معالمَ أساسية في سياق التطور الذي عرفه أدبنا العربي عبر عصوره.

أولا: حرصَ الجاحظ، في ما تركه لنا من مؤلفات كثيرة متنوعة، على أن يبقى منسجما مع النص القرآني والقيَم الإسلامية. وهو الذي سعى، في المقابل، إلى بداية جديدة أو تأسيسية للنثر العربي. هل نقول إن هذا ينطوي على مفارقة أو تناقض؟ أم نقول إن الجاحظ بنى على تأثره بالظاهرة القرآنية مشروعه الأدبي الذي استكمله برؤى خاصة، وبإضافات حققت له تلك المكانة التي أشرنا إليها؟

هنا، لا بد لنا من القول إن النص القرآني مثل نقطة انطلاق لمختلف الاتجاهات النثرية في أدبنا العربي، تلك التي عرفت مراحل ازدهار واسع في العصور العباسية. حتى الاتجاهات التي رمتْ إلى الابتعاد عن هذا النص أو التميز إزاءه أو مخالفته، لم تنجُ من التأثر به على نحو أو آخر. هل نقول أيضا إن الشعر نفسه، وهو السابق في ظهوره للنص القرآني، راح يتفاعل في العصور الإسلامية مع هذا النص، محاولا في حالات عديدة التفلت من دائرة تأثيراته؟

إزاء النص القرآني والقيم المستمدة منه، لم يقف الجاحظ موقف تمرد أو مواجهة. ولكنه- في المقابل- راح يبحث عن آفاق جديدة للأدب. وقد تجلى هذا البحث في ذلك التنوع الهائل في حقول المعرفة التي ارتادها، وفي المواضيع التي تناولها. هكذا استطاع الجاحظ أن يمزج على نحو فريد بين الأدب والعلم والفلسفة والنقد والكلام والتنظير والسخرية... وغير ذلك.

ثانيا: لم يفصل الجاحظ بين أدبه وبين آرائه في الأدب. فهذه الأخيرة التي أظهرتْه بلاغيا وناقدا فذا ترِدُ في تآليفه الأدبية مندرجة كأجزاء أساسية منها دون تعارض أو تنافر. التنظير للأدب عند الجاحظ لم يكن مستقلا عن الأدب، فهو لم يضع كتابا خاصا في النقد أو النظرية الأدبية. وهذا عنصر من العناصر الكثيرة التي جعلت أدب الجاحظ رحبا متفلتا متشعبا. كأنه أراد للنثر أن يكون في منجى من التحديدات الصارمة. أراد له أن يكون حرا. وهو الذي أسس لتحديدات صارمة للشعر! أو أنه أوحى بمثل هذه التحديدات لمن أتى بعده من النقاد والبلاغيين. من ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، نظريته في المعاني المطروحة في الطريق، التي غدت في أساس النظرية النقدية "عمود الشعر"، التي رسَتْ بصيغتها النهائية لدى المرزوقي، في مقدمة كتابه "شرح ديوان الحماسة".

هل نقول إن الجاحظ شاء للنثر ما لم يشأْهُ للشعر؟ هل نقول إنه متفلت هنا متحفظ هناك؟ هل نقول إن الجاحظ في هذا الأمر، أي في تردده بين الخروج من التحديدات وبين الخضوع لها، شأنُه شأنُ الفلاسفة العرب كالفارابي وابن سينا وابن رشد، الذين ارتضوا أن تقف اجتهاداتهم الفلسفية عند حدود التوفيق بين الشريعة الإسلامية والفلسفة اليونانية؟

نثر الجاحظ، في تنوعه الشديد، إنما كان كالممهد لمختلف الاتجاهات النثرية التي راحت تظهر بعده، وعلى مدى عصور طويلة

ثالثا: اتجه الجاحظ بالنثر اتجاهات شتى، ما يوحي لقارئه بأنه لم يكن يرمي إلى إرساء شكل معين للنثر، ولا حتى إلى إرساء مفهوم معين للنوع الأدبي الذي هو النثر. فنحن لا نقول مثلا إن نثر الجاحظ هو فن قصصي، وإن كان منطويا على الكثير من القصص، أو بالأحرى على الكثير من ألوان القص. ونحن لا نقول إن نثر الجاحظ هو فن خطابي، وإن كان يحتوي على ألوان من الخطابة. كذلك لا نقول إن نثر الجاحظ هو إنشاء، أو حكمة، أو مجادلة، أو تعليق، أو تحليل، أو سرد علمي، أو تصوير كاريكاتيري... وإن كان محتويا على أطراف من  كل ذلك. كأن نثر الجاحظ، في تنوعه الشديد، إنما  كان كالممهد لمختلف الاتجاهات النثرية التي راحت تظهر بعده، وعلى مدى عصور طويلة. 
إن الظواهر والمفارقات التي أشرنا إليها في هذه المقالة، هي قليل من كثير يمكن استخراجه من مؤلفات الجاحظ، الأديب العالم الموسوعي الذي أتاح للنثر العربي وجوه الرحابة والغنى والتنوع.

font change
مقالات ذات صلة