عودة المصارف اللبنانية الى سوريا... أزمة الثقة تسبق القوانين والعقوبات

عقبات كثيرة أبرزها "اللائحة الرمادية" وضعف التصنيف الائتماني وغياب الأمن والاستقرار

رويترز
رويترز
البنك المركزي السوري في العاصمة دمشق، 12 يناير 2025

عودة المصارف اللبنانية الى سوريا... أزمة الثقة تسبق القوانين والعقوبات

بعد تحرر سوريا من حكم آل الأسد، وتاليا نظام الحكم الاشتراكي، تتعاظم الأسئلة عن السبل المتاحة لإعادة إنعاش اقتصاد البلاد وقطاعاته الانتاجية والخدماتية على اختلافها، وتطرح العديد من السيناريوهات بين رجال الأعمال عن سبل الاستفادة من عودة انفتاح السوق السورية الجديدة على أسواق العالم المالية والتجارية، بعد عزلة قهرية دامت 60 عاما.

تاريخيا، لم تكن سوريا بعيدة عن ثقافة العمل المصرفي، فهي عرفته خلال العصر العثماني، مع إنشاء "المصرف الإمبراطوري العثماني" عام 1856 بمصالح بريطانية، ومن ثم توالت التراخيص لمصارف تجارية عدة في النصف الأول من القرن العشرين، إبان الانتداب الفرنسي وبعده، وخلال مرحلة الاستقلال، حيث لعب القطاع المصرفي السوري دورا بارزا في تمويل الأنشطة الاقتصادية كافة، وتوفير فرص العمل.

بيد أن هذا القطاع ما لبث أن أسقطته الإيديولوجيا الإشتراكية الوافدة في منتصف القرن الماضي، وحولته بعد تأميمه، مثل غيره من مؤسسات القطاعين الخاص والعام، عاجزا عن تأدية دوره التمويلي، والقيام بوظيفتيه المالية والنقدية بنجاح، لفقدانه القدرة والحافز من جهة، ولثقة السوريين به من جهة أخرى.

أعطت إدارة المصارف اللبنانية مصارف في سوريا دفعا قويا للاقتصاد، قبل خروجها جميعها من السوق السورية، إما إقفالا أو بيعا، بعد تصاعد الحرب وأعمال العنف، وانهيار الليرة السورية، وفرض العقوبات الدولية على نظام الأسد

فمعاناة السوريين الاقتصادية، بدأت فعليا يوم وقعت سوريا في قبضة نظام الحكم الشمولي، الذي تبنى مفاهيم النظام الاشتراكي، وجعل غالبية القطاعات المنتجة والمحفزة على النمو والتطور، كالمصارف والمؤسسات المالية، في يد حفنة من موظفي الدولة والمحاسيب التابعين لأجهزة المخابرات المختلفة، مع ما يعنيه ذلك من تفشٍ للفساد والبيروقراطية، اللذين جعلا الاقتصاد السوري برمته، يعاني الضعف والعجز عن المنافسة، والافتقار إلى الحداثة. 

المصارف اللبنانية ودورها في الاقتصاد السوري

صدر في سوريا عام 1991 "القانون رقم 10 لتشجيع الاستثمار" مترافقا مع إنفتاحِ اقتصادي، أغرى المستثمرين للدخول إلى السوق السورية، المتعطشة للكثير من الاستثمارات.

وقد تلقفت مصارف لبنان الفرصة، فأنشات 7 كيانات مصرفية هي بنك عوده سوريا، وبنك سوريا والمهجر، وبنك بيبلوس سوريا، وبنك بيمو السعودي الفرنسي، وفرنسبنك سوريا، وبنك الشرق (تابع للبنك اللبناني الفرنسي) وبنك سوريا والخليج، جميعها مصارف سورية مئة في المئة، لكنها تحمل العلامة التجارية لمصارفها الأم في لبنان، ومُنحت تراخيص تأسيسها كشركات مساهمة سورية مستقلة، تدار من مجلس إدارة كامل الصلاحيات، ويدخل في ملكيتها وفق "قانون تشجيع الاستثمار" مساهمون سوريون، اشترط القانون المذكور أن لا تقل مساهماتهم عن 51 في المئة، فيما اشترط ألا تزيد حصة المسثمرين الأجانب على 49 في المئة فقط.

فراس كرم

أعطت إدارة المصارف اللبنانية مصارف في سوريا، دفعا قويا للاقتصاد السوري، وتحولت السوق المصرفية إلى قطاع فاعل وأساس في بنية اقتصاد سوريا، الذي كان يحاول الخروج من عباءة الاقتصاد الموجه، نحو تحرير القطاع الخاص وتفعيله. 

ونجحت مصارف لبنان في قيادة مصارف سوريا، وراكمت نموا واعدا في الأرباح والعائدات، وصل إلى نحو 371,35 مليار ليرة سورية (147,95 مليون دولار) في عام 2021، قبل خروجها جميعها من السوق السورية، إما إقفالا أو بيعا، بعد تصاعد أعمال العنف، وانهيار الليرة السورية، وفرض العقوبات الدولية على النظام، ومنع التبادلات المالية والتجارية معه.

تحتاج سوريا إلى ربطها مجددا بالأسواق المالية الدولية، وتوسيع مروحة الخيارات أمام رجال الأعمال السوريين، والمستثمرين الأجانب، وتأمي آليات تمويل لقطاعي التجارة والصناعة

إلا أن التحول السياسي التاريخي الذي تم، وتبدل الحكم والنظام في سوريا، والوعود بإعادة بنائها على أسس الاقتصاد الحر، وفتح أسواقها وقطاعاتها أمام الاستثمار الأجنبي، وخصوصا العربي، يطرح مسألة مدى حماسة المصارف اللبنانية، للعودة مجددا إلى السوق السورية، ومدى إستعدادها لتكرار التجربة، وجهوزيتها المالية والإدارية لذلك.

فسوريا تحتاج إلى الانفتاح على العالم، وربطها مجددا بالأسواق المالية الدولية، وتوسيع مروحة الخيارات أمام رجال الأعمال السوريين، والمستثمرين الأجانب، وتوفير آليات تمويل لقطاعي التجارة والصناعة، واسترجاع قدرة البلاد على جذب رؤوس الأموال الخارجية إلى سوريا، وخصوصا من أبنائها ومغتربتيها.

رويترز
تحسن سعر الليرة السورية بعد أيام من سقوط بشار الأسد، 16 ديسمبر 2024

يحتاج ذلك، بما لا يقبل المساومة، إلى مصارف تعمل بحرية واحتراف، في ظل قوانين عصرية، واستقرارين سياسي وأمني، وثبات في سعر صرف العملة الوطنية.

تحديات وأخطار وفرص تنتظر المصارف

قد يكون السؤال اليوم عن عودة الاستثمارات المصرفية، اللبنانية منها تحديدا، إلى السوق السورية وضرورتها، من الأكثر شيوعا لدى الاقتصاديين ورجال المال والأعمال والخبراء، إدراكا منهم لأهمية وجودها ودورها وقربها الجغرافي وجدواها في الاقتصاد. لكن ما هي التحديات التي تحول دون عودة المصارف اللبنانية إلى سوريا، وهل من فرص وعوامل قد تساعدها في الولوج مجددا إلى هذه السوق؟

قال الباحث في الشؤون الاقتصادية والنقدية محمد فحيلي، لـ"المجلة" أن عودة المصارف التجارية اللبنانية إلى الأسواق السورية بعد سقوط نظام بشار الأسد ستكون محفوفة بالتحديات مع توفر الفرص والأخطار، وكذلك العوامل الإيجابية التي تحفز هذه المصارف على الاستثمار في سوق واعدة. أول هذه العوامل هو التاريخ الاقتصادي المشترك، إذ للبنان وسوريا روابط اقتصادية وثيقة تعود إلى عقود خلت، تشمل التجارة والاستثمار والتداخل العائلي، وتاليا يمكن هذه الروابط أن تسهل عودة المصارف اللبنانية إلى الأسواق السورية.

في حال دخول سوريا مرحلة انتقالية مدعومة دوليا، قد تستفيد المصارف اللبنانية من دعم خارجي مباشر أو غير مباشر عبر المانحين أو المؤسسات الدولية التي تمول إعادة الإعمار

والأهم أن المصارف اللبنانية تمتلك خبرة طويلة في العمل في بيئات سياسية واقتصادية غير مستقرة، مما يجعلها مؤهلة للعمل في سوق تتعافى من أزمات سياسية وأمنية مزمنة.

ومن العوامل المحفزة أيضا، الحاجة إلى استثمارات ضخمة لإعادة الاعمار بعد سقوط النظام، بما يوفر فرصا لتمويل المشاريع الكبرى وتقديم خدمات مصرفية للشركات والأفراد. وفي حال دخول سوريا مرحلة انتقالية مدعومة دوليا، قد تستفيد المصارف اللبنانية من دعم خارجي مباشر أو غير مباشر عبر المانحين أو المؤسسات الدولية التي تمول إعادة الإعمار.

ولكن هذه العوامل الإيجابية تقابلها تحديات وعوامل سلبية يفترض معالجتها أو إزالتها لكي تكون الطريق سالكة أمام الاستثمارات المصرفية اللبنانية في سوريا. يعدد فحيلي هذه التحديات كالآتي:

الأزمة المالية اللبنانية منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019، وما تعانيه المصارف اللبنانية من أزمة سيولة حادة، وفقدان للثقة، وتوقف شبه كامل عن تقديم خدمات مصرفية دولية فاعلة. وقد تعيق هذه الأزمات قدرة المصارف على توفير رؤوس الأموال المطلوبة للتوسع في الأسواق الخارجية.

رويترز
المصارف اللبنانية في حماية قوى الأمن من المودعين، بيروت 1 نوفمبر 2019

فقدان الثقة الدولية: إذ ينظر المجتمع الدولي إلى القطاع المصرفي اللبناني كجزء من الأزمة الاقتصادية والسياسية في لبنان، بما قد يؤثر سلبا على فرصه في سوريا، خصوصا إذا ارتبط بسوء إدارة أو فساد سابق.

التحديات القانونية والسياسية: قد تشهد سوريا ما بعد الأسد صراعات على النفوذ السياسي، وقد تفرض حكومات جديدة أو هيئات انتقالية قوانين تعقد دخول المصارف الأجنبية، بما في ذلك اللبنانية.

القطاع المصرفي اللبناني في حاجة لاستعادة صدقيته أولا ، ثم قدرته على العمل دوليا، بعد تحسين تصنيفه الائتماني من خلال العمل مع السلطات اللبنانية على تبني إصلاحات مالية واقتصادية جذرية

 المنافسة الإقليمية: قد تجد المصارف اللبنانية نفسها في مواجهة منافسة قوية من مصارف إقليمية ودولية، خصوصا تلك التي تمتلك سيولة واستقرارا أكبر.

غياب قاعدة مصرفية قوية: انهيار الثقة بين المصارف اللبنانية ومودعيها يصعّب تطوير خدمات مصرفية جديدة، سواء في سوريا أو لبنان.

فراس كرم

  اللائحة الرمادية: ثمة ضرورة لإزالة لبنان عن اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF) وتصنيفه الائتماني المتعثر، كونه يضيف أبعادا شديدة التعقيد على فرص المصارف اللبنانية في العودة إلى الاسواق السورية أو أي أسواق أخرى.

على طريق استعادة الثقة

تؤثر هذه العوامل بشكل مباشر على صدقية القطاع المصرفي اللبناني وقدرته على العمل دوليا. وبالتالي، ثمة خطوات وتوصيات يجب على لبنان السير بهاـ لعل أولاها وفق فحيلي، تحسين التصنيف الائتماني من خلال العمل مع السلطات اللبنانية على تبني إصلاحات مالية واقتصادية جذرية. ويمكن أن يشمل ذلك تحسين إدارة الدين العام، تعزيز الشفافية المالية، وتطوير سياسات نقدية مستدامة، وبناء الثقة مع المجتمع الدولي وصندوق النقد الدولي لضمان توفير الدعم المالي الضروري.

للخروج من اللائحة الرمادية يجب التعاون مع مجموعة العمل المالي (FATF) لتطبيق الإصلاحات اللازمة المتعلقة بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وتعزيز الشفافية في العمليات المصرفية وتطوير أنظمة الامتثال الداخلي لتجنب الادراج على لوائح أكثر صرامة مثل اللائحة السوداء.

تحتاج مصارف لبنان لإعادة بناء سمعتها، من خلال تبني برامج إصلاح شاملة لتحسين إدارة الأخطار والحوكمة في إدارتها، وإطلاق مبادرات تواصل مع المغتربين اللبنانيين والمستثمرين الأجانب لاستعادة الثقة بالنظام المصرفي اللبناني أولا

أما على الضفة اللبنانية، فيلفت فحيلي إلى أن التعامل مع تداعيات التصنيف السلبي يفرض على المصارف التوسع عبر شراكات استراتيجية مع مصارف دولية أو إقليمية ذات تصنيف جيد، وكذلك، التركيز على "خدمات مصرفية لا تتطلب درجة عالية من التصنيف الائتماني، مثل تقديم خدمات الوساطة أو دعم إعادة الاعمار بتمويل محدود الأخطار". على المصارف اللبنانية أيضا الالتزام الصارم بالقوانين والمعايير الدولية لضمان استعادة الثقة بها كمؤسسات قادرة على العمل في بيئة مالية منظمة، والتوجه نحو الانخراط في السوق السورية عبر شراكات محلية قوية أو إنشاء كيانات مصرفية جديدة تعمل بشكل مستقل عن سمعة النظام المصرفي اللبناني المتعثر. وعليه، تحتاج مصارف لبنان لإعادة بناء سمعتها، من خلال تبني برامج إصلاح شاملة لتحسين إدارة الأخطار والحوكمة في إدارتها، وإطلاق مبادرات تواصل مع المغتربين اللبنانيين والمستثمرين الأجانب لاستعادة ثقتهم بالنظام المصرفي اللبناني".

وحتى لا تتكرر التجارب السابقة التي أدت الى تعثر القطاع المصرفي، ينصح فحيلي بـ"الابتعاد عن استراتيجيات الإقراض أو التوظيف المرتبطة بأخطار سيادية أو هندسات مالية، والتركيز على تمويل المشاريع الانتاجية والمستدامة في سوريا ولبنان على حد سواء".

أولوية إزالة اسم لبنان من "اللائحة الرمادية"

إذا لم يتحسن التصنيف الائتماني للبنان وتتم إزالة اسمه من اللائحة الرمادية، فإن قدرة المصارف اللبنانية على التوسع الإقليمي ستظل محدودة للغاية. لذلك، يجب أن يكون إصلاح النظام المصرفي والمالي اللبناني أولوية ملحة قبل التفكير في العودة إلى الأسواق الإقليمية، بما في ذلك السوق السورية.

غيتي
أوراق النقد اللبناني صارت بلا قيمة شرائية تذكر، بيروت 14 أبريل 2021

ولا ينسى فحيلي الاشارة الى عامل مهم قد يشكل عقبة كبيرة أمام أي محاولات لعودة المصارف اللبنانية إلى السوق السورية حتى بعد سقوط النظام. هذه العقبة أشار اليها مصرفي لبناني لـ"المجلة" وتتعلق باستمرار العقوبات التي فرضها المجتمع الدولي على النظام السابق، وخصوصا العقوبات الأميركية المستمرة، مثل "قانون قيصر" لحماية المدنيين في سوريا. علما أن هذه العقوبات كانت تستهدف بشكل مباشر النظام السوري وأركانه والمتعاونين معه، مما يضع المصارف اللبنانية تحت خطر العقوبات القانونية والمالية، إذا ما حاولت التحرك داخل السوق السورية من دون استراتيجيا ضمانات واضحة تجنبها هذه التداعيات.

font change