يوما بعد يوم يبدو واضحا عدم تقبل إيران حجم خسائرها في المنطقة، فلا هي تتقبل خسارة النظام السوري، نقطة الارتكاز الأهم في مشروعها التوسعي، ولا الخسائر التي شلت ذراعها اليمنى في لبنان "حزب الله". كل من راهنت عليهم طهران في مشروعها التدميري لمنطقة المشرق العربي انتهوا أو ضعفوا إلى أقصى الحدود، حتى حركة المقاومة الإسلامية (حماس) لم تخسر فقط عسكريا بعد كل ما حل بغزة والفلسطينيين، بل حتى على المستوى السياسي لا يبدو أن أحدا سيقبل أن تحكم "حماس" غزة مجددا أو حتى أن تكون شريكا في الحكم، وها هم "الحوثيون" ذراع إيران في اليمن يتعرضون لضربات موجعة وقد تكون قاضية، بعد أعوام من إعطائهم الفرصة تلو الأخرى ليصنعوا سلاما في اليمن.
كان الدور الإيراني واضحا في التمرد الفاشل الذي حصل في جبال ومدن الساحل السوري، كما دورها في الاشتباكات التي حصلت وتحصل على الحدود السورية اللبنانية، تدرك طهران أن عقارب الساعة لن تعود للوراء وأن ما حصل قد حصل، ومع ذلك تراهن أن بإمكانها من خلال نشر الفوضى وعدم الاستقرار على صنع موطئ قدم لها، وأن تحجز لها مكانا على أي طاولة مستديرة تناقش أوضاع هذه الدول وتساهم في إعادة إعمارها، أو عرقلة أي حوار أو مشروع من خلال التخريب.
في لبنان، إيران قادرة على تدمير ما بقي من الجنوب وما هو أبعد من الجنوب، من خلال بقايا ميليشيا "حزب الله" التي اختارت الرد على تصريحات رئيس مجلس الوزراء اللبناني نواف سلام الذي نعى ثلاثية "جيش- شعب- مقاومة" بإطلاق الصواريخ على مستوطنة المطلة، أو على أقل تقدير سهلت لأطراف أو أفراد عملية إطلاق الصواريخ.
قامت إسرائيل بالرد ولكنها هددت أيضا باستئناف حربها على لبنان.
كان الدور الإيراني واضحا في التمرد الفاشل الذي حصل في جبال ومدن الساحل السوري، كما دورها في الاشتباكات التي حصلت وتحصل على الحدود السورية- اللبنانية
اللافت جدا هو تقاطع مصالح إيران وإسرائيل في سوريا. فمنذ لحظة سقوط النظام السوري وهروب رئيسه بشار الأسد، لم تتوانَ أي من الدولتين في العمل على زعزعة الاستقرار ونشر الفوضى، كلتاهما تستعملان "الأقليات" ذريعة لتدخلهما السافر، وإسرائيل تستمر بتعديها على الأراضي السورية والتوغل والقصف، وتستخدم إيران بقايا نظام الأسد لنشر الفوضى، والتخوف الحقيقي أن تلجأ لتسهيل عمليات "داعش" في الداخل السوري.
المنطقة تعيش حالة غير مسبوقة من سياسة "حافة الهاوية"، ويستمر رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بجرها إلى مزيد من الحروب والصراعات، فهو أيضا لا زال يهرب من أزماته الداخلية بفتح جبهات واستئناف حروب.
سوريا تحتاج إلى الحد الأدنى من الاستقرار لتبدأ مسيرة الانتقال السياسي وإعادة الإعمار، وتتفق كل من تل أبيب وطهران على عرقلة هذا المسار، وإن كان لكل منهما أهدافه المختلفة فإن النتيجة واحدة، فكلتاهما تخدم مصالح الأخرى هناك.
سوريا تحتاج إلى الحد الأدنى من الاستقرار لتبدأ مسيرة الانتقال السياسي وإعادة الإعمار، وتتفق كل من تل أبيب وطهران على عرقلة هذا المسار
الإدارة الأميركية حتى الآن لم يظهر لها موقف حاسم بما يتعلق بسوريا، ولكن تصريح المبعوث الخاص للشرق الأوسط ستيف ويتكوف يبدو متقدما، حيث اعتبر أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب يعمل على وقف الفوضى والحروب في العالم، ويدفع باتجاه السلام وتوفير فرص لشعوب المنطقة للازدهار. يقول ستيف في مقابلة تلفزيونية إن الدلائل تشير إلى أن الجولاني (الرئيس السوري أحمد الشرع) شخص مختلف عما يعتقده الناس، والناس يتغيرون. ربما يكون الجولاني في سوريا شخصا مختلفا. لقد طرد إيران من سوريا. ويضيف: "تخيل لو وقّع لبنان معاهدة سلام، ووقّعت سوريا، ووقّعت السعودية معاهدة مع إسرائيل، بعد السلام في غزة، لأن حل معضلة غزة شرط أساسي لأي توقيع سعودي. سيكون ذلك إنجازا رائعا".
فهل ستلجم إدارة ترمب شهية نتنياهو المفتوحة دوما للحروب؟ وهل سيدرك جميع المعنيين أن استقرار سوريا وسلاسة عملية الانتقال السياسي في دمشق ستكون من مصلحة كل من يسعى للسلام والاستقرار في المنطقة؟ أم سيتركون تل أبيب وطهران تستمران كل لأهدافها الخاصة بنشر الفوضى؟ ولكن حذاري من لعبة "حافة الهاوية" تلك كي لا تصل الأمور إلى نقطة اللاعودة.